هاني لبيب
مصر أولا.. إحلال وتبديل.. من المحور الشيعى إلى المحور السنى.. المقاومة الوطنية المصطنعة.. وإحياء الإمبراطورية العثمانية! استدعاء جماعات الإسلام السياسى المتشددة والمتطرفة..
مرت المقاومة فى الدول العربية بتحولات جوهرية خلال العقود الماضية.. بحيث اختلط الأمر وظهرت حقيقة بعضها الآن بين كونها مقاومة وطنية شكلًا، وجماعات إسلام سياسى راديكالية متشددة وموالية ومصطنعة مضمونًا. لقد تم اختزال الشكل التقليدى للمقاومة على أساس مرجعية البعد الدينى الإسلامى، والذى أفرز قوى وجماعات وتيارات إسلامية فى فلسطين ولبنان والعراق وسوريا واليمن سواء كانت سنية وشيعية بشكل مباشر، أو موالية وتابعة لإيران تحديدًا بشكل غير مباشر. وهى التى شكلت فيما بعد بشكل تدريجى.. إطارًا عامًا للتحركات ضد الاحتلال أو على سبيل استهداف تغيير نظام الحكم. وقد شهدت السنوات الأخيرة تباينًا واضحًا لهذا النموذج التقليدى، ووصل الأمر لاختزال المقاومة فى جماعات الإسلام السياسى وتياراته مثلما حدث مع حركة حماس وحزب الله.
عندما كانت مقاومة..
كان من الواضح بمرور السنوات، أن المقاومة الإسلامية السنية التقليدية على غرار جماعة الإخوان المسلمين.. قد بدأت فى فقد تأثيرها بسبب الصراعات الداخلية والضربات السياسية التى تلقتها فى أكثر من دولة.. خاصة مصر بعد ثورة 30 يونيو. وفى المقابل، ظهر التركيز على عملية الاحلال لتشكيل محاور جديدة تستخدم الإسلام السياسى كأداة، لكن بطريقة أكثر تشددًا وتطرفًا، وأكثر عصرية فى الوصول لكافة أدوات الإعلام.
تشكلت المقاومة التقليدية ذات مرجعية الإسلام السياسى فى العالم العربى كرد فعل على الاحتلال والاستعمار فى القرن العشرين. جماعة «الإخوان المسلمين» التى تأسست سنة 1928 فى مصر.. ظهرت كأول تعبير عن الإسلام السياسى الحديث.. حيث مزجت بين المقاومة السياسية والاجتماعية والدينية لمواجهة الاستعمار البريطانى والنظم الحاكمة القومية. ولاحقًا، خلال سنوات الخمسينيات والستينيات.. لعبت حركات مقاومة مثل حركة «حماس» فى فلسطين دورًا محوريًا بعد تأسيسها سنة 1987 كفرع فلسطين الحصرى لجماعة الإخوان المسلمين، مثلما قام حزب الله باعتباره اللاعب الشيعى الإيرانى فى السياسة اللبنانية والإقليمية.
انهيار شبه منظم..
بدأت المقاومة الإسلامية تتراجع لعدة أسباب، منها:
1- فشل مشروع الإسلام السياسى مع سقوط تجربة حكم جماعة الإخوان المسلمين فى مصر بين 2012 و2013 حيث تلقى ضربة قوية من تحالف وإرادة شعبية غير مسبوقة ضده.
2- ظهور المقاومة على حقيقتها، وتحولها إلى أدوات تستخدمها بعض الدول الإقليمية فى استقطاب حاد لتعزيز نفوذها.. مما أفقدها شرعية التعاطف الشعبى.
3- تركيز حركات المقاومة المنتمية للإسلام السياسى على البعد الدينى.. دون تقديم حلول اقتصادية وثقافية واجتماعية ودينية حقيقية وعملية.
ومع مرحلة الربيع العربى الأسود فى 2011، استغلت بعض الدول الإقليمية هذه الفوضى، لتبدأ موجة جديدة من حركات الإسلام السياسى التى وصل ببعضها الحال لإدراجها تحت الحركات المسلحة.. وهو ما يعد خروجًا عن المقاومة الإسلامية التقليدية.
من الشيعى إلى السنى..
لقد لعب المحور الشيعى منذ اندلاع الثورة الإيرانية على مدار 45 عامًا دورًا بارزًا فى دعم جماعات المقاومة عبر أدوات سياسية وعسكرية فى المنطقة، مثل: حركة حماس فى فلسطين، وحزب الله فى لبنان، والحوثيين فى اليمن. تبنى هذا المحور فكرة «المقاومة» ضد الاحتلال الإسرائيلى والنفوذ الأمريكى، ولكن تدخله فى صراعات إقليمية مثل الحرب السورية واليمنية، جعله يفقد بريقه. ترتب على ما سبق، تراجع النفوذ الشيعى.. خاصة فى ظل تصاعد الضغوط الدولية وفرض العقوبات الأمريكية على إيران، وتحجيم قدرتها وتراجعها على تمويل حلفائها. ثم ما حدث فى العراق سنة 2019 من احتجاجات ضد النفوذ الإيرانى فى العراق وبروز التيار الصدرى.
فى المقابل، يبدو أن المحور السنى المتشدد، الذى تقوده جماعات الإسلام السياسى بأشكالها السلفية والجهادية كجماعة الإخوان المسلمين، وتطوراتها حتى الوصول إلى «تنظيم القاعدة» و«جبهة النصرة» و«داعش»، عادوا مرة أخرى لملء الفراغ بالإحلال والتبديل كأدوات مضادة للمحور الشيعى، مع حفظ مساحة اختلاف فى الاستراتيجية والأهداف لكل منهما. ولكن يبقى على مدار السنوات السابقة، هو التكامل بين المحورين السنى والشيعى.. فبينما اعتمد المحور الشيعى على المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلى والوجود الأمريكى فى المنطقة، ركز المحور السنى المتطرف على التوسع الجغرافى وفرض مشروع «الخلافة» ضمن أجندة تكفيرية متجددة ومتشددة.
وبذلك تحول المشهد من صراع إقليمى له أبعاد سياسية ودينية إلى مواجهة مفتوحة بين أقطاب سنية متطرفة وشيعية موجهة وأطراف أخرى فى ظل تصاعد الانقسامات داخل المجتمعات العربية نفسها.
استدعاء جماعات العنف..
إن هزيمة تنظيم «داعش» فى سوريا والعراق، وتراجع نفوذ «القاعدة» فى السنوات الأخيرة، لم يعن نهاية الأيديولوجيا المتطرفة التى ساندت هذه التنظيمات ودعمتها. بل على العكس تمامًا، بدأت تظهر نسخ جديدة ومتطورة من هذه التنظيمات.. مستفيدة من الفوضى الإقليمية وتفكك الدول، كما هو الحال فى سوريا وليبيا واليمن.
والملاحظ، أن عودة «تنظيم القاعدة» و«داعش» بشكل جديد.. يرتبط بعدة عوامل، منها:
1- الفشل السياسى للدول: أدى انهيار بعض الدول نتيجة الفشل السياسى فى عدة مناطق عربية إلى خلق حالة من الفراغ الأمنى المثالى لحضانة هذه التنظيمات وعودتها.
2- تجدد مساحة الاستقطاب الطائفى مع تزايد نفوذ المحور الشيعى خلال العقد الماضى، عاد التشدد السنى كنوع من رد الفعل.
3- الدعم الخارجى غير المباشر.. استطاع استغلال هذه التنظيمات وتوظيفها فى إطار الصراع الدولى على النفوذ فى المنطقة، مما منحها فرصًا عديدة للبقاء.
ولذلك، أصبح من المتوقع أن نشهد عودة «تنظيم القاعدة» و«داعش» فى صورة أكثر تعقيدًا ومرونة، مستغلة تقنيات حديثة واستراتيجيات جديدة تعتمد على تقنيات متنوعة مثل: «الذئاب المنفردة» و«الانتشار الرقمى».
وحتى لا ننسى، يذكر التاريخ أن «تنظيم القاعدة» تأسس سنة 1988 على يد أسامة بن لادن فى أفغانستان لمحاربة السوفييت. ومع أحداث برجى التجارة العالمى فى 11 سبتمبر سنة 2001، أصبحت القاعدة العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية. وسرعان ما نتج عن هذه الأزمة.. ظهور «داعش» بين سنة 2013 و2014 من رحم «تنظيم القاعدة» فى العراق، واستطاع تأسيس «دولة الخلافة» بقيادة أبو بكر البغدادى.
وبعد هزيمة «داعش» فى العراق وسوريا سنة 2019، اعتقد الكثيرون أن «داعش» انتهى، لكن الحقيقة تؤكد، أن:
- الفراغ الأمنى فى سوريا والعراق.. أسهم فى إعادة تشكيل خلاياه من جديد.
- اعتماد أتباع داعش على العمليات الفردية غير المركزية، والمعروفة باستراتيجية «الذئاب المنفردة». - اتساع نشاط داعش فى أفريقيا.
استدعاء سنى..
لم يختف الإسلام السياسى السنى من المنطقة العربية، ولكنه يمر بمرحلة إعادة تشكيل. وما تعرضت له جماعة الإخوان المسلمين التى حملت لواء الإسلام السياسى السنى منذ تأسيسها سنة 1928 بعد سقوط حكمهم فى مصر فى 30 يونيو 2013، أوحى للبعض بنهايتهم. غير أن الصراعات الإقليمية والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية.. أعادت طرح أفكار الإسلام السياسى بطرق وملامح جديدة، منها:
- تطرف أكثر حدة بعد ظهور التيارات السلفية الجهادية تمثل بديلًا أكثر تشددًا وعنفًا من التيار الإخوانى.
- اعتماد الوسائل الإعلامية غير التقليدية بعد أن باتت هذه الحركات تستخدم الفضاء الرقمى لاستقطاب أتباعها بعيدًا عن التنظيمات التقليدية.
- ظهور تحالفات إقليمية من خلال بعض الدول التى تسعى لاستغلال تيارات الإسلام السياسى كأداة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية.
ونموذج ذلك الدال، ما تقوم به تركيا على سبيل المثال بعد تبنيها نهجًا يدعم الإسلام السياسى السنى فى المنطقة، خصوصًا من خلال تحالفها مع بعض الأطراف فى ليبيا وسوريا، واستضافة واحتضان قيادات إخوانية معارضة بعد سقوطهم فى مصر.
إحياء دولة الخلافة..
أصبحت تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان للحكم سنة 2002 لاعبًا محوريًا فى المنطقة، بفضل طموحاتها السياسية والجغرافية، واستراتيجيتها التوسعية التى تعتمد على إحياء الدور الإسلامى العثمانى القديم. وقد ظهر بوضوح.. دعم تركيا للإسلام السياسى السنى فى المنطقة بعد ثورات «الربيع العربى الأسود».. حيث كانت أنقرة ملاذًا آمنًا لقيادات الإخوان المسلمين ومعارضى الأنظمة العربية.
فى سوريا، تدخلت تركيا عسكريًا بحجة مواجهة «داعش» و«الأكراد»، لكنها فى الوقت نفسه دعمت فصائل إسلامية مقاتلة، مما أدى إلى تغيير موازين القوى فى شمال سوريا. كما قدمت دعمًا عسكريًا لحكومة الوفاق الليبية ذات التوجه الإسلامى.
واشنطن وأنقرة..
خلال ولايته الأولى (2016 - 2020)، تبنى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.. سياسة حادة تجاه تركيا، خاصة فيما يتعلق بدورها فى سوريا. ووصف ترامب فى تصريحات متكررة الدور التركى غير المنضبط والمتناقض مع المصالح الأمريكية، خاصة بعد العمليات العسكرية التركية فى الشمال السورى، وتسهيل عبور المقاتلين متعددى الجنسيات إلى سوريا. كما انتقد التحركات التركية ضد الأكراد الذين كانوا حلفاء للولايات المتحدة فى محاربة داعش. وهدد تركيا بفرض عقوبات اقتصادية إذا تجاوزت الخطوط الحمراء الأمريكية.
ورغم ذلك، ظلت العلاقات بين واشنطن وأنقرة معقدة، حيث تعتمد الولايات المتحدة على تركيا كحليف فى «الناتو».. لكنها فى الوقت نفسه ترى أن طموحات تركيا الإقليمية تهدد استقرار المنطقة.
والمفارقة أنه خلال المؤتمر الصحفى الذى عقده الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب.. فى 16 ديسمبر الجارى بمنتجعه «مار إيه لاغو» بمدينة بالم بيتش فى فلوريدا، قام باتهام تركيا بالوقوف وراء الأحداث التى تشهدها سوريا، والتى أدت إلى سقوط نظام بشار الأسد.. واصفًا ما حدث بأنها «عملية استيلاء غير ودية من دون خسارة الكثير من الأرواح».
الأتراك كانوا يرغبون بالاستيلاء على سوريا، والآن تمكنوا من ذلك.
توقعات وسيناريوهات..
فى ظل هذه التطورات المتصاعدة بوتيرة سريعة، يمكن رسم عدة سيناريوهات محتملة للمستقبل القريب فى المنطقة العربية:
الأول: تعزيز وتصاعد نفوذ التيارات السنية المتشددة مع استمرار تراجع الدور الشيعى الإيرانى بحيث تملأ التنظيمات السنية المتطرفة هذا الفراغ.. مما يزيد من حالة عدم الاستقرار فى الدول العربية.
الثانى: تصاعد الدور التركى لترسيخ وجودها والاستمرار فى دعم حركات وتيارات الإسلام السياسى.. كأداة لتحقيق نفوذها الإقليمى، مع دعمها للفصائل السنية التى تتفق مع أجندتها.
الثالث: عودة جديدة لتنظيمى «القاعدة وداعش»، واستغلال الفوضى الأمنية والاقتصادية.. خاصة فى دول الأزمة مثل: سوريا وليبيا واليمن.
الرابع: تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، وتداخل المصالح بين إيران وتركيا، سيؤدى إلى مزيد من التعقيد فى المشهد الإقليمى، يمكن أن يترتب عليه.. عودة نفوذ أمريكى مكثف للحد من الدور التركى والروسى المتنامى.
الخامس: انهيار الدول الوطنية التى فشلت فى مواجهة أزماتها الاقتصادية والسياسية.. سيجعلها الأكثر قابلية.. للاختراق من التنظيمات المتطرفة والتيارات السياسية المدعومة من الخارج.
نقطة ومن أول السطر..
فى ظل التحولات السياسية والعسكرية، يبدو أن المنطقة العربية مقبلة على مرحلة جديدة من الصراع، ستعيد تشكيل خريطة النفوذ والتحالفات، وسط توقعات بعودة التيارات المتطرفة وظهور أشكال جديدة للإسلام السياسى السنى. وهو ما يعنى إنذارًا بالمزيد من الفوضى.. مما يفرض تحديات كبرى على الدول العربية للحفاظ على استقرارها.
هذه التطورات تعيد رسم الخريطة السياسية.. مع تزايد احتمالات الصدام بين القوى الإقليمية والدولية، مما ينذر بمستقبل غامض للمنطقة.