هاني لبيب
مصر أولا.. ضد التقسيم.. الأرض المستباحة لأجندات استدعاء الإرهاب.. رفع الوصاية عن سوريا.. خصوصية إنسانية!
سوريا عبر التاريخ هى أرض التاريخ والحضارة. ورغم ذلك، وصلت الآن لواحدة من أحلك مراحلها بعد تأثرها الذى ما زال مستمرا بما تم وصفه زورًا وبهتانًا بأنه الربيع العربى. بدأت الأزمة السورية فعليًا سنة 2011 بالشكل التقليدى حينذاك من خلال حركات احتجاجية سلمية مستلهمة من ذلك الربيع العربى الأسود، ولذا سرعان ما تحولت إلى صراع مسلح داخلى وإقليمى ودولى معقد.
اليوم.. تتشابك أبعاد القضية السورية مع تغييرات إقليمية ودولية كبرى، مما جعلها فاعلًا محوريًا فى إعادة تشكيل خريطة إقليم الشرق الأوسط من جانب، والنظام العالمى من جانب آخر.
لذا.. يحتاج تناول الوضع الراهن فى سوريا إلى النظر له من خلال زوايا متعددة: تاريخيًا وإقليميًا وعالميًا. ومع الربط بعلاقة تلك المتغيرات بموازين القوى وغياب جماعات المقاومة التقليدية فى ظل تأثير مرتقب لإدارة أمريكية جديدة وإعادة ترتيب علاقات المنطقة.
ما قبل الأزمة..
سوريا هى واحدة من الحضارات التاريخية القديمة، ولها وموقع استراتيجى يربط بين آسيا وإفريقيا وأوروبا. وقد مرت منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1946 بفترات مضطربة حتى استقر الحكم بيد حزب البعث العربى الاشتراكى سنة 1963 تحت قيادة حافظ الأسد منذ سنة 1970. وأصبحت سوريا دولة مركزية قوية تعتمد على أجهزتها ومؤسساتها لضبط نظام الحكم.. مما أتاح لها لعب أدوار إقليمية مهمة.
شهدت سوريا خلال سنوات التسعينيات وبداية الألفية الجديدة تراجعًا اقتصاديًا واجتماعيًا، وزاد الاعتماد على شكل من أشكال السياسات الاقتصادية المحدودة.. دون أن يواكب ذلك تحقيق إصلاحات سياسية حقيقية.
اندلاع الأزمة السورية..
اندلعت الاحتجاجات فى سوريا سنة 2011 كرد فعل على الحالة التاريخية للانغلاق السياسى. لكنها سرعان ما تطورت وتم دفعها وتوجيهها إلى صراع مسلح.. جذب إليه الأطراف الإقليمية والدولية، وتحولت سوريا إلى ساحة لمحاولة بسط العديد من الدول والأجهزة لأجنداتها الخاصة. ومن أهم سمات تلك المرحلة هو تلقى النظام السورى دعمًا مباشرًا من إيران وروسيا من جانب، وتلقى المعارضة السورية المسلحة لدعم تركيا، وبعض دول الإقليم من جانب آخر. فضلًا عن دعم الولايات المتحدة فى مراحل مختلفة.
تصاعد الصراع، وأصبحت سوريا ممزقة بين النظام الرسمى الذى يحكم، وبين معارضة منقسمة، وتنظيمات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام الذى نعرفه جميعًا باسم «داعش»، بالإضافة إلى تدخلات أجنبية عديدة مكثفة.
متغيرات إقليمية..
اشتد التنافس الإقليمى على سوريا، وأصبحت أراضيها.. ساحة للصراع بين القوى الإقليمية.. خاصة بين تركيا وإيران. ركزت تركيا على تحقيق أهدافها الجيوسياسية فى شمال سوريا.. لمنع قيام كيان كردى على حدودها الجنوبية. وانعكست محاذيرها الأمنية فيما قامت به من تدخلات فى مناطق مثل: إدلب وعفرين. أما إيران فظلت نظرتها إلى سوريا باعتبارها شريكا أساسيا من محور المقاومة ضد إسرائيل. واعتبرت وجودها العسكرى والسياسى فى سوريا هو أداة لتعزيز نفوذها وبقائها فى المنطقة، بما فى ذلك فكرة إنشاء ممر برى يصلها بالبحر المتوسط. كما قامت بعض دول الإقليم بدعم المعارضة السورية خلال المراحل الأولى من النزاع بهدف تقليص النفوذ الإيرانى. ولكن مع مرور الوقت، تراجع ذلك الدعم بسبب إعادة ترتيب أولوياتها الإقليمية.
تطبيع عربى – سورى..
خلال الفترة الأخيرة، بدأت عدة دول عربية، مثل: الإمارات والسعودية.. إعادة علاقاتها مع النظام السورى. وهو تحول يعكس قناعة سياسية متزايدة بأن عزل سوريا لم ولن يحقق النتائج المرجوة، كما أن تلك الخطوة من شأنها تقليص النفوذ الإيرانى وتعزيز الاستقرار الإقليمى.
لا ينفى ما سبق، ما خلفته الأزمة السورية فى ملفات فائقة الأهمية على غرار: ملف الإرهاب، الذى أسهمت الحرب فى ترسيخ وجود التنظيمات الإرهابية مثل «داعش»، مما دفع القوى الإقليمية والدولية للتركيز على مواجهتها ومحاربتها حتى لو كانت على حساب الحل السياسى. وملف اللاجئين الذى أصبح مشكلة رئيسية فى دول الجوار (لبنان، والأردن، وتركيا)، مما أثر بشكل واضح على استقرار هذه الدول سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
تغيير مراكز القوة العالمية..
1- الدور الروسى المتنامى: حيث تسعى من خلال تدخلها عسكريًا فى سوريا، وتغيير ميزان القوى على الأرض لصالح النظام السورى. وذلك لتأكيد حماية حليفها الاستراتيجى. وتعزيز وجودها العسكرى عبر قواعد مثل حميميم وطرطوس. وترسيخ فكرة دورها كلاعب رئيسى فى الشرق الأوسط والعالم.
2- تراجع النفوذ الأمريكى: فى ظل تركيز واشنطن على قضايا أساسية، مثل: التنافس مع الصين وروسيا، وتراجع اهتمامها بالتدخل المباشر فى الشرق الأوسط. واستمرار الولايات المتحدة الأمريكية فى دعم قوات محاربة «داعش»، مما زاد من التوتر مع تركيا. ومع فشل محاولات فرض تغيير سياسى جذرى عبر العقوبات الأممية المفروضة عليها.
3- الصين وإعادة الإعمار: من خلال عدم قيامها بدور عسكرى، ولكن مع تطلعها للمشاركة فى إعادة إعمار سوريا ضمن استراتيجيتها المعروفة بتوسيع نفوذها الاقتصادى عالميًا.. خاصة عبر مبادرة طريق الحرير.
4- الحرب الأوكرانية: وتأثيرها على الملف السورى.. إذ جعلت روسيا أقل قدرة على التركيز على سوريا، مما قد يفتح المجال لتغييرات فى التوازنات الإقليمية.
اختفاء المقاومة..
ما يشهده الإقليم الآن هو اختفاء جماعات مقاومة تقليدية، مثل: حزب الله فى لبنان وحركة حماس فى فلسطين.
لقد ظل حزب الله لاعبًا رئيسيًا فى دعم النظام السورى عسكريًا، غير أن تدخله فى الحرب أدى إلى استنزاف كبير فى موارده البشرية والعسكرية، وتراجع شعبيته تدريجيًا لدى الرأى العام العربى.. خاصة مع وجود مؤشرات تؤكد تورطه ضد المعارضة السورية.
أما حركة حماس، فقد توترت العلاقة بينها وبين النظام السورى بسبب موقفها من الثورة السورية. لكن مؤخرًا، عادت العلاقات الثنائية بوساطة إيرانية.. تعزيزًا لمحور المقاومة فى مواجهة التطبيع العربى مع إسرائيل.
لقد تراجعت المقاومة التقليدية مع تراجع وجودها وقوتها، وبالتبعية.. تراجع تأثيرها الذى يعكس تغييرات واسعة النطاق حيث أصبحت قضايا مثل التطبيع مع إسرائيل ومكافحة الإرهاب ضمن الأولويات. وما صاحب ذلك من تضاؤل الدعم الشعبى للجماعات التى انخرطت فى النزاع السورى أو تم استنزافها فى صراعات أخرى.
تراجع جماعات المقاومة التقليدية مثل حزب الله وحماس يعكس تغييرات جذرية فى البيئة الإقليمية وأولويات الدول، فى حين أن استمرار النزاع المسلح والصراعات الطائفية يزيد من تعقيد أى حل سياسى.
إدارة أمريكية جديدة..
لم تحدث تغييرات جذرية فى السياسات الأمريكية أثناء إدارة الرئيس بايدن تجاه سوريا. بل اختارت نهجًا أكثر حذرًا وتركيزًا على: محاربة الإرهاب باستمرار دعمها ضد «داعش». وعلى القضايا الإنسانية بزيادة المساعدات والمشاركة فى جهود الأمم المتحدة. وعلى العقوبات باستمرار العمل بـ«قانون قيصر» لفرض ضغوط اقتصادية على النظام السورى. وعلى التوازن مع تركيا من خلال محاولة تحسين العلاقات مع أنقرة دون التخلى عن الأكراد.
لم يحظَ الملف السورى بالاهتمام فى قائمة الأولويات الأمريكية.. مقارنة بملفات على غرار: الصين، وأزمة أوكرانيا، والتغير المناخى. هذه المحدودية تسببت فى تراجع فرص التأثير الأمريكى فى مسار الأزمة السورية. ولم تقم بتفعيل مبادرات جذرية لحل الأزمة.
إعادة ترتيب الإقليم..
من خلال اتفاقيات التطبيع الإقليمى بين إسرائيل وبعض الدول العربية مثل: الإمارات والبحرين.. مما يعنى تغيير قائمة الأولويات الإقليمية، والتركيز على مسارات حلول قضايا شائكة مثل: سوريا وفلسطين. التطبيع هنا يعكس تحولًا فى طريق تعزيز التعاون الاقتصادى والعسكرى مع إسرائيل لمواجهة إيران. ومع ملاحظة أن سوريا عانت من العزلة لسنوات طويلة بسبب علاقتها بإيران.
لقد شهدت سنة 2023 جهودًا لإعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية فى خطوة تهدف إلى تحقيق استقرار إقليمى، لكنها لم تحقق إلى الآن تقدمًا ملموسًا فى الملف السورى سواء لاقتصار الأمر عل مجرد بيانات، أو بسبب عدم القدرة على اتخاذ موقف عملى حقيقى على أرض الواقع.
الإعمار والاستقرار..
لا شك أن إعادة إعمار سوريا سيتطلب استثمارات ضخمة.. ستواجه تحديات ضخمة بسبب العقوبات وانعدام الثقة بين الأطراف المحلية والدولية. وستظل كل من روسيا والصين.. تسعيان للقيام بدور رئيسى فى هذه العملية. كما ستظل الدول الغربية تربط مشاركتها فى الإعمار بتحقيق تقدم فى الحل السياسى.
رؤية مستقبلية..
رغم كل تحديات الملف السورى، ستظل عملية إعادة الإعمار والمصالحة السياسية هى أمر ضرورى. يعتمد تحقيقه على: اتفاق القوى الإقليمية والدولية على تسوية شاملة. ودعم الأمم المتحدة لضمان مشاركة جميع الأطراف فى صياغة مستقبل سوريا.
ورغم تلك التحديات الهائلة، تبقى إعادة الإعمار والمصالحة السياسية عناصر أساسية لاستعادة الاستقرار فى سوريا. ويظل تحقيق هذه الأهداف يتطلب توافقًا دوليًا وإقليميًا، بالإضافة إلى إرادة وطنية قوية. فلا يمكن تحقيق مستقبل مستقر دون معالجة الأزمة الإنسانية البائسة التى يواجهها ملايين السوريين داخل البلاد وخارجها. والمتوقع أن تكون هناك فرص متاحة فى المجتمع السورى للشباب والمجتمع المدنى فى القيام بدور محورى فى بناء مستقبل سوريا. وأيضًا، من خلال السوريين المهاجرين فى تعزيز ثقافة السلام والتنمية. الأولوية فى اعتقادى ستكون لحل الأزمة الإنسانية التى أثرت على المواطن السورى. وهو ما يتطلب تخفيف العقوبات لتسهيل دخول المساعدات، ودعم برامج إعادة التوطين وعودة للاجئين.
نقطة ومن أول السطر..
يعكس الوضع فى سوريا الآن تعقيدات تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية.. تمتد منذ سنوات طويلة. تداخلت فيها المصالح الداخلية مع أجندة الأهداف الإقليمية والدولية، مما جعل الأزمة السورية نموذجًا للصراعات الحديثة فى عالم يشهد تغييرات متسارعة فى إعادة صياغة موازين القوى.
على المستوى الإقليمى، أصبحت سوريا ساحة لصراعات النفوذ بين قوى عديدة مثل: إيران وتركيا ودول الإقليم، فيما شهدنا محاولات لإعادة دمجها فى النظام العربى عبر التطبيع العربى مع النظام السورى. أما دوليًا، فإن التحولات فى مراكز القوى، من تزايد النفوذ الروسى والصينى إلى تراجع الهيمنة الأمريكية، أثرت بشكل مباشر على مسار الأزمة السورية ووضعت حدودًا لإمكانية الوصول إل حلول سريعة.
سوريا الآن فى مفترق طرق، ومستقبلها يعتمد على قدرة جميع الأطراف فى الداخل على تجاوز المصالح الضيقة والعمل من أجل تسوية شاملة تضمن سلامًا دائمًا وعدالة لجميع السوريين دون تدخلات خارجية.