الجمعة 29 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
 والى عكا وأزمة العقل العربى!‏

والى عكا وأزمة العقل العربى!‏

 يبدو أن الخصومة بين العرب والتاريخ تحرم البعض أو الكثير منهم من فرص التعلم من ‏الصفحات القديمة، وقد تكون الحالة التى عليها  مجتمعات عربية عديدة هى السبب، خليط من ‏الارتباك والحلم، الإحباط والأمل، التهيؤات والواقع، المطامع والطموح، المخاوف ‏والمصالح، الخرافات والدين، حالة ضربت مراكز «التفكير السليم»، فلم تعد عقول كثيرة ‏قادرة على قراءة  صحيحة لواقعهم والمخاطر المتربصة بهم جميعا، بل أحيانا تشى ‏تصرفاتهم بأنهم واقعون بين مخالب أفكار تسللت إليهم من العدو أو سلموا لها أنفسهم!‏



 

عادى جدا أن نختلف على أعمال أو سياسات في أوطاننا، وقد نشتبك عليها إلى حد تمزيق ‏الثياب فنتعرى، لكن حين يقتحم العدو بابا من بيوتنا، يفترض أن نُوقف خلافاتنا، ونلقى بكل ‏تناقضاتنا خلف ظهورنا ولو مؤقتا، ثم نسأل ونحلل ونتساند، كى ندرأ المخاطر المشتركة، ثم ‏نعود بعدها إلى الاشتباك والتناقضات.‏

لكن البعض يفعل العكس، ويمضى على درب والي عكا، فحين رست الجيوش الصليبية على ‏سواحل الشام، استقبلها مرحبا متصورا أنها سوف تخلصه من بني جلدته المختلف معهم، ‏وأعطاهم مفتاح المدينة!‏

قطعا نحن موجعون جدا مما يحدث لغزة وأهلها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ‏يرتكبها جيش الإبادة الإسرائيلي مدعوما من الولايات المتحدة، ومتوترون من النيران ‏المشتعلة حولنا، لكن ليس معقولا أن يخرج بعضنا ويوزع صكوك تبرير مجانية لعدوانية ‏إسرائيل وجرائمها، بأن حماس هي التي استفزت الوحش الإسرائيلي بهجمات 7 أكتوبر!‏

قطعا تنزف مشاعرنا ألما وهي تشاهد جيش الإبادة الإسرائيلي وحلفاءه وهم يستكملون ‏جرائمهم ضد لبنان وأهله، وأيضا هؤلاء يصنعون شماعة يعلق عليها مجرمو الحرب أفعالهم، ‏ويشيرون بأصابع المسئولية إلى حزب الله، بضرباته الصاروخية على شمال إسرائيل، والتي ‏قصد بها إلهاء الوحش قليلا عن أهل غزة! ‏

وحتى لو فرضنا وصدقنا، مع أنه فرض لا نقبله، أن «حماسا» أخطأت في طوفان الأقصى، ‏ولم تحسن حساب تداعياته ونتائجه، فهذا لا يمنح المغتصب الإسرائيلي «حقا» في القتل ‏والإبادة والتدمير العشوائي، فاغتصاب الأرض الفلسطينية وطرد أهلها عمل مُجَرَّم في ‏القانون الدولي، والسؤال الساذج: ماذا يفعل الفلسطينيون الذين احتلت أراضيهم ودهستهم ‏أحذية المحتل الثقيلة؟!‏

هل يقدمون ورودا لقاتليهم؟، هل يعملون خدما وعبيدا عند إسرائيل لأنها أقوى  تسليحا ‏وتدريبا ومدعومة بأقوى دولة في العالم؟، هل يلتزمون الصمت الجبان ويموتون كمدا ويأسا ‏دون أن يطلقوا رصاصة واحدة حتى من باب التنفيث؟ ‏

بالقطع لا يسأل والي عكا وأصدقاؤه مثل هذه الأسئلة، لأن أي أجابة هي اعتراف بحق الكفاح ‏المسلح لصاحب الأرض، ومنهم «حماس»، أيا كانت تركيبتها وأهدافها..‏

وتوضيحا لم أقف يوما في صف حماس، أولا لأن نشأتها إخوانية، والجماعة ورم خبيث في ‏جسد أي وطن، والتاريخ ملئ بالوقائع الموثقة، ثانيا بسبب دورها في تفتيت الصف الفلسطيني ‏وصراعهم المسلح مع السلطة الفلسطينية المتهالكة العاجزة، والأخطر ما فعلوه مع مصر في ‏فترة الاضطرابات المصرية بعد 25 يناير 2011 مستغلين أنفاق غزة ، ثم صححوا أنفسهم ‏فتبرأوا من جماعة الإخوان ومدوا جسورا مع مصر، وعموما في قتال حماس ضد إسرائيل، ‏لا أنظر إليهم باعتبارهم حمساويين، بل باعتبارهم فلسطينيين يدافعون عن وطنهم، وأتفهم ‏تحالفهم مع أي طرف يساعدهم في كفاحهم المسلح.‏

بالقطع نرفض تماما أن تلعب إيران في المنطقة العربية حسب هواها ومصالحها، لكن علينا ‏أن نسأل: كيف وصلت إيران إلى هذا القدر من النفوذ في أربع عواصم عربية كبرى: صنعاء ‏وبغداد ودمشق وبيروت؟، مؤكد أن النظام العربي المتهالك ترك فراغا هائلا في هذه ‏العواصم، فملأته إيران، وهذا خطأ استراتيجي!‏

المدهش أن لائمي حماس على هجمات 7 أكتوبر، يتجاهلون عمدا أن إسرائيل قتلت أكثر من ‏‏22 ألف فلسطيني في الضفة الغربية وغزة منذ بدء الألفية إلى ما قبل 7 أكتوبر، أي أن قتل ‏الفلسطينيين عقيدة إسرائيلية سواء هاجموا إسرائيل أو سكتوا عنها!‏

باختصار، الوحيدون الذين لهم حق محاسبة حماس هم الفلسطينيون، خاصة أهل غزة الذين ‏دفعوا الثمن الفادح ومازالوا!‏

نعم تكاليف 7 أكتوبر باهظة ومروعة، لكن الجاني الحقيقي هو إسرائيل والولايات المتحدة، ‏وحماس مثل أي فلسطيني يائس لم تجد أمامها إلا هجمات انتحارية في مواجهة حياة بائسة، ‏يستحيل أن تتصرف فيها الضحية بحكمة وحنكة وحسابات دقيقة عن الاحتمالات وردود ‏الأفعال!‏

ولم يلتفت والي عكا إلى الجانب الآخر من طوفان الأقصى، انتشال «قضية فلسطين» من ‏الغيبوبة في عملية سلام وهمية دخلتها منذ 30 عاما، وقطع الطريق على الولايات المتحدة ‏وتعطيل تنفيذ خطتها لشرق أوسط جديد، تمسك إسرائيل زمامه دون أن تدفع ثمن غصن ‏زيتون واحد!‏

أما حزب الله، فلا يختلف الأمر إلا في تفاصيل البيئة والحدث، فالحزب لم يظهر على سطح ‏الحياة السياسية اللبنانية إلا في عام 1982، تحديدا بعد أسبوعين من الاجتياح الإسرائيلي ‏للبنان في 6 يونيو..‏

ولبنان حالة خاصة، جيشه محدود القدرات عددا وعتادا، مجتمع طائفي، لم يستطع نظامه ‏العام أن يذيب تناقضات طوائفه في كيان الدولة، فظلت الطائفية عنصرًا حاكمًا مشعلاً ‏للحروب الأهلية.‏

فى ذلك اليوم من عام 1982 اجتمع خمسة من الشيعة اللبنانيين هم عباس الموسوي وصبحي ‏الطفيلي وحسن نصرالله ومحمد يزبك وإبراهيم أمين السيد، وكتبوا أول سطور حزب الله، فخرج ‏إلى النور فعليا في عام 1985، خليط من تيارات إسلامية متفرقة،  مجموعات قادمة من: ‏حركة أمل، وأتباع موسى الصدر، والذين تاثروا بالثورة الإيرانية، نشطاء في الأحياء ‏والمساجد.‏

وقتها كان الحرس الثوري الإيراني قد قدم إلى لبنان بعد الغزو الإسرائيلي لتدريب المقاتلين، ‏في معسكرات أنشأها في بعلبك، فمد مقاتلي حزب الله بأسلحة أكثر تطورا من التي تركتها ‏المنظمات الفلسطينية وهي تجلو من بيروت في أغسطس 1982!‏

وحين اغتالت إسرائيل عباس الموسوى أمين عام الحزب في 16 فبراير 1992، تولى بعده ‏حسن نصر الله وكان في الثانية والثلاثين من عمره.‏

وقد قابلت نصر الله في بيروت في شهر مايو 1998، وأجريت معه حديثا صحفيا نشرته ‏الأهرام، رجل مثقف، شديد الذكاء والوعي، سألته: لماذا رفضتم التفاوض على اقتراح ‏إسرائيل بالانسحاب المشروط من جنوب لبنان؟

ابتسم قائلا بثقة: لم يفاوضنا العدو عندما اجتاح أرضنا محتلا، فكيف نفاوضه بشروطه على ‏الانسحاب منها؟، إسرائيل تريد ترتيبات أمنية، تضع في عنق لبنان التزامات ليست من حق ‏المعتدى، إسرائيل عليها الانسحاب بالطريقة التي دخلت بها!‏

سألته: وإذا ظلت في الجنوب؟

قال: نحن قادرون على إخراجها دون شروط.‏

قلت: الثمن باهظ.‏

قال: هذا قدرنا وسوف يدفع الإسرائيليون أضعافه، وقدرة لبنان تكمن في المقاومة وليس في ‏المفاوضة!‏ هذه هي نشأة حزب الله، وهذه هي كلمات  «حسن نصر الله» قبل 26 عاما، وأتصور أنها ‏ستكون ردا لبنانيا على أي شروط إسرائيلية تنتقص من سيادته مقابل وقف عدوان إسرائيل ‏الحالي عليها. ‏

لكن أيضا لنا مآخذ على حزب الله..‏

‏1 - قال نصرالله  في الحوار: نحن حزب سياسي له دور عسكري فرضته ظروف خاصة، ‏وإذا انتهى الصراع مع العدو فسوف يتوقف هذا الدور الخاص وندخل معترك الحياة ‏السياسية.‏

ولم يتخل الحزب عن «عسكريته» التي توسعت، كما كبر الدور الخاص بعد الانسحاب ‏الإسرائيلي في عام 2000، وأصبح الحزب من عناصر الاضطراب السياسي الحاد في لبنان، ‏إضافة إلى تورطه في الحرب الأهلية في سوريا.‏

‏2 - دخل الحزب إلى حرب غزة، مناوشا لإسرائيل، دون أن يستشير مواطنيه من غير طائفته، ‏وهو جزء من لبنان وليس كل لبنان، فاتسعت دائرة الحرب إلى مئات الغارات  الجوية على ‏بيروت وبلدات الجنوب والبقاع وغيرها، وهنا لا أقيم دور «المساندة» مع أهل غزة، لكن ‏الحروب ليست عملا منفردا من جماعة في الوطن، وحزب الله غير حماس التي تقاتل محتلا ‏مغتصبا.‏

‏3 - يبدو أن الحماية النفسية المجتمعية التي كان يتمتع بها حزب الله وهو يقاتل محتلا، قد ‏ضعفت بعد أن انغمس في السياسة مسلحا، فكان من السهل اختراقه، وعمليات انفجار البجر ‏واغتيال القيادات بهذه الأعداد والدقة لا يمكن أن تتم دون هذا الاختراق!‏

في النهاية ومؤلم جدا أن نتابع تلك الجرائم ونحن عاجزون عن وقفها، مع أن العرب معا، ‏وليس دولا منفردة، يملكون قدرات تصحح هذا الخلل الرهيب ليس بالحرب، لكن بالموقف ‏الموحد المعلن والإجراءات السياسية، لكنهم لا يفعلون، بسبب علاقات «خاصة» مع الولايات ‏المتحدة، والأخطر أن كثيرا منهم سمح «للتناقضات المتوارثة أن تعلو على المصالح العليا ‏للمنطقة العربية ككل!‏