نبيل عمر
والى عكا وأزمة العقل العربى!
يبدو أن الخصومة بين العرب والتاريخ تحرم البعض أو الكثير منهم من فرص التعلم من الصفحات القديمة، وقد تكون الحالة التى عليها مجتمعات عربية عديدة هى السبب، خليط من الارتباك والحلم، الإحباط والأمل، التهيؤات والواقع، المطامع والطموح، المخاوف والمصالح، الخرافات والدين، حالة ضربت مراكز «التفكير السليم»، فلم تعد عقول كثيرة قادرة على قراءة صحيحة لواقعهم والمخاطر المتربصة بهم جميعا، بل أحيانا تشى تصرفاتهم بأنهم واقعون بين مخالب أفكار تسللت إليهم من العدو أو سلموا لها أنفسهم!
عادى جدا أن نختلف على أعمال أو سياسات في أوطاننا، وقد نشتبك عليها إلى حد تمزيق الثياب فنتعرى، لكن حين يقتحم العدو بابا من بيوتنا، يفترض أن نُوقف خلافاتنا، ونلقى بكل تناقضاتنا خلف ظهورنا ولو مؤقتا، ثم نسأل ونحلل ونتساند، كى ندرأ المخاطر المشتركة، ثم نعود بعدها إلى الاشتباك والتناقضات.
لكن البعض يفعل العكس، ويمضى على درب والي عكا، فحين رست الجيوش الصليبية على سواحل الشام، استقبلها مرحبا متصورا أنها سوف تخلصه من بني جلدته المختلف معهم، وأعطاهم مفتاح المدينة!
قطعا نحن موجعون جدا مما يحدث لغزة وأهلها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية يرتكبها جيش الإبادة الإسرائيلي مدعوما من الولايات المتحدة، ومتوترون من النيران المشتعلة حولنا، لكن ليس معقولا أن يخرج بعضنا ويوزع صكوك تبرير مجانية لعدوانية إسرائيل وجرائمها، بأن حماس هي التي استفزت الوحش الإسرائيلي بهجمات 7 أكتوبر!
قطعا تنزف مشاعرنا ألما وهي تشاهد جيش الإبادة الإسرائيلي وحلفاءه وهم يستكملون جرائمهم ضد لبنان وأهله، وأيضا هؤلاء يصنعون شماعة يعلق عليها مجرمو الحرب أفعالهم، ويشيرون بأصابع المسئولية إلى حزب الله، بضرباته الصاروخية على شمال إسرائيل، والتي قصد بها إلهاء الوحش قليلا عن أهل غزة!
وحتى لو فرضنا وصدقنا، مع أنه فرض لا نقبله، أن «حماسا» أخطأت في طوفان الأقصى، ولم تحسن حساب تداعياته ونتائجه، فهذا لا يمنح المغتصب الإسرائيلي «حقا» في القتل والإبادة والتدمير العشوائي، فاغتصاب الأرض الفلسطينية وطرد أهلها عمل مُجَرَّم في القانون الدولي، والسؤال الساذج: ماذا يفعل الفلسطينيون الذين احتلت أراضيهم ودهستهم أحذية المحتل الثقيلة؟!
هل يقدمون ورودا لقاتليهم؟، هل يعملون خدما وعبيدا عند إسرائيل لأنها أقوى تسليحا وتدريبا ومدعومة بأقوى دولة في العالم؟، هل يلتزمون الصمت الجبان ويموتون كمدا ويأسا دون أن يطلقوا رصاصة واحدة حتى من باب التنفيث؟
بالقطع لا يسأل والي عكا وأصدقاؤه مثل هذه الأسئلة، لأن أي أجابة هي اعتراف بحق الكفاح المسلح لصاحب الأرض، ومنهم «حماس»، أيا كانت تركيبتها وأهدافها..
وتوضيحا لم أقف يوما في صف حماس، أولا لأن نشأتها إخوانية، والجماعة ورم خبيث في جسد أي وطن، والتاريخ ملئ بالوقائع الموثقة، ثانيا بسبب دورها في تفتيت الصف الفلسطيني وصراعهم المسلح مع السلطة الفلسطينية المتهالكة العاجزة، والأخطر ما فعلوه مع مصر في فترة الاضطرابات المصرية بعد 25 يناير 2011 مستغلين أنفاق غزة ، ثم صححوا أنفسهم فتبرأوا من جماعة الإخوان ومدوا جسورا مع مصر، وعموما في قتال حماس ضد إسرائيل، لا أنظر إليهم باعتبارهم حمساويين، بل باعتبارهم فلسطينيين يدافعون عن وطنهم، وأتفهم تحالفهم مع أي طرف يساعدهم في كفاحهم المسلح.
بالقطع نرفض تماما أن تلعب إيران في المنطقة العربية حسب هواها ومصالحها، لكن علينا أن نسأل: كيف وصلت إيران إلى هذا القدر من النفوذ في أربع عواصم عربية كبرى: صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت؟، مؤكد أن النظام العربي المتهالك ترك فراغا هائلا في هذه العواصم، فملأته إيران، وهذا خطأ استراتيجي!
المدهش أن لائمي حماس على هجمات 7 أكتوبر، يتجاهلون عمدا أن إسرائيل قتلت أكثر من 22 ألف فلسطيني في الضفة الغربية وغزة منذ بدء الألفية إلى ما قبل 7 أكتوبر، أي أن قتل الفلسطينيين عقيدة إسرائيلية سواء هاجموا إسرائيل أو سكتوا عنها!
باختصار، الوحيدون الذين لهم حق محاسبة حماس هم الفلسطينيون، خاصة أهل غزة الذين دفعوا الثمن الفادح ومازالوا!
نعم تكاليف 7 أكتوبر باهظة ومروعة، لكن الجاني الحقيقي هو إسرائيل والولايات المتحدة، وحماس مثل أي فلسطيني يائس لم تجد أمامها إلا هجمات انتحارية في مواجهة حياة بائسة، يستحيل أن تتصرف فيها الضحية بحكمة وحنكة وحسابات دقيقة عن الاحتمالات وردود الأفعال!
ولم يلتفت والي عكا إلى الجانب الآخر من طوفان الأقصى، انتشال «قضية فلسطين» من الغيبوبة في عملية سلام وهمية دخلتها منذ 30 عاما، وقطع الطريق على الولايات المتحدة وتعطيل تنفيذ خطتها لشرق أوسط جديد، تمسك إسرائيل زمامه دون أن تدفع ثمن غصن زيتون واحد!
أما حزب الله، فلا يختلف الأمر إلا في تفاصيل البيئة والحدث، فالحزب لم يظهر على سطح الحياة السياسية اللبنانية إلا في عام 1982، تحديدا بعد أسبوعين من الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6 يونيو..
ولبنان حالة خاصة، جيشه محدود القدرات عددا وعتادا، مجتمع طائفي، لم يستطع نظامه العام أن يذيب تناقضات طوائفه في كيان الدولة، فظلت الطائفية عنصرًا حاكمًا مشعلاً للحروب الأهلية.
فى ذلك اليوم من عام 1982 اجتمع خمسة من الشيعة اللبنانيين هم عباس الموسوي وصبحي الطفيلي وحسن نصرالله ومحمد يزبك وإبراهيم أمين السيد، وكتبوا أول سطور حزب الله، فخرج إلى النور فعليا في عام 1985، خليط من تيارات إسلامية متفرقة، مجموعات قادمة من: حركة أمل، وأتباع موسى الصدر، والذين تاثروا بالثورة الإيرانية، نشطاء في الأحياء والمساجد.
وقتها كان الحرس الثوري الإيراني قد قدم إلى لبنان بعد الغزو الإسرائيلي لتدريب المقاتلين، في معسكرات أنشأها في بعلبك، فمد مقاتلي حزب الله بأسلحة أكثر تطورا من التي تركتها المنظمات الفلسطينية وهي تجلو من بيروت في أغسطس 1982!
وحين اغتالت إسرائيل عباس الموسوى أمين عام الحزب في 16 فبراير 1992، تولى بعده حسن نصر الله وكان في الثانية والثلاثين من عمره.
وقد قابلت نصر الله في بيروت في شهر مايو 1998، وأجريت معه حديثا صحفيا نشرته الأهرام، رجل مثقف، شديد الذكاء والوعي، سألته: لماذا رفضتم التفاوض على اقتراح إسرائيل بالانسحاب المشروط من جنوب لبنان؟
ابتسم قائلا بثقة: لم يفاوضنا العدو عندما اجتاح أرضنا محتلا، فكيف نفاوضه بشروطه على الانسحاب منها؟، إسرائيل تريد ترتيبات أمنية، تضع في عنق لبنان التزامات ليست من حق المعتدى، إسرائيل عليها الانسحاب بالطريقة التي دخلت بها!
سألته: وإذا ظلت في الجنوب؟
قال: نحن قادرون على إخراجها دون شروط.
قلت: الثمن باهظ.
قال: هذا قدرنا وسوف يدفع الإسرائيليون أضعافه، وقدرة لبنان تكمن في المقاومة وليس في المفاوضة! هذه هي نشأة حزب الله، وهذه هي كلمات «حسن نصر الله» قبل 26 عاما، وأتصور أنها ستكون ردا لبنانيا على أي شروط إسرائيلية تنتقص من سيادته مقابل وقف عدوان إسرائيل الحالي عليها.
لكن أيضا لنا مآخذ على حزب الله..
1 - قال نصرالله في الحوار: نحن حزب سياسي له دور عسكري فرضته ظروف خاصة، وإذا انتهى الصراع مع العدو فسوف يتوقف هذا الدور الخاص وندخل معترك الحياة السياسية.
ولم يتخل الحزب عن «عسكريته» التي توسعت، كما كبر الدور الخاص بعد الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000، وأصبح الحزب من عناصر الاضطراب السياسي الحاد في لبنان، إضافة إلى تورطه في الحرب الأهلية في سوريا.
2 - دخل الحزب إلى حرب غزة، مناوشا لإسرائيل، دون أن يستشير مواطنيه من غير طائفته، وهو جزء من لبنان وليس كل لبنان، فاتسعت دائرة الحرب إلى مئات الغارات الجوية على بيروت وبلدات الجنوب والبقاع وغيرها، وهنا لا أقيم دور «المساندة» مع أهل غزة، لكن الحروب ليست عملا منفردا من جماعة في الوطن، وحزب الله غير حماس التي تقاتل محتلا مغتصبا.
3 - يبدو أن الحماية النفسية المجتمعية التي كان يتمتع بها حزب الله وهو يقاتل محتلا، قد ضعفت بعد أن انغمس في السياسة مسلحا، فكان من السهل اختراقه، وعمليات انفجار البجر واغتيال القيادات بهذه الأعداد والدقة لا يمكن أن تتم دون هذا الاختراق!
في النهاية ومؤلم جدا أن نتابع تلك الجرائم ونحن عاجزون عن وقفها، مع أن العرب معا، وليس دولا منفردة، يملكون قدرات تصحح هذا الخلل الرهيب ليس بالحرب، لكن بالموقف الموحد المعلن والإجراءات السياسية، لكنهم لا يفعلون، بسبب علاقات «خاصة» مع الولايات المتحدة، والأخطر أن كثيرا منهم سمح «للتناقضات المتوارثة أن تعلو على المصالح العليا للمنطقة العربية ككل!