الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
وكلاء السماء..  عودة أصحاب مفتاح الجنة كهنة وشيوخ الديجيتال!

وكلاء السماء.. عودة أصحاب مفتاح الجنة كهنة وشيوخ الديجيتال!

يتحدث عن أغنية رومانسية لفنانة مشهورة.. ثم يتوقف أمام كلماتها ليصفها بالكفر والوثنية.. بعد أن اختلط عليه الأمر بين كونها أغنية عاطفية.. تخاطب وجدان المحبين، وبين كونها ترنيمة يتم ترديدها داخل جدران الكنيسة.



المشكلة ليست فى أن هذه التصريحات صادرة عن واحد من أشهر الوعاظ المحسوبين على رجال الدين مجتمعيًا وفضائيًا قديمًا، وعلى النيو ميديا والديجيتال حديثًا. المشكلة الحقيقية فى أنه صادر عن أحد رجال الكنيسة الإنجيلية.. المشاع والمعروف عنها الإيمان بالإبداع وحرية الرأى والتعبير والتفكير لأقصى درجة ممكنة. وهو المشهد الذى كانوا يتصدروه عند كل أزمة.. خاصة فى المواقف المعلنة بينهم وبين رجال الكنيسة الأرثوذكسية. ولكن من الواضح أن الحديث عن التنوير والعقلانية.. هو حسب الزمان والمكان، أو بمعنى أدق حسب المصلحة التى تحافظ على صورة محددة مستهدفة ومرجوة بين الجماهير الغفيرة.

 

 حكاية الأزمة

خلال محاضرة له بعنوان: «الإنسان كائن عابد ضل الطريق» ضمن لقاء عن «العبادة بين النشوى والتقوى» فى شهر نوفمبر 2023، وهو اللقاء المتداول الآن على السوشيال ميديا، وصف د. ماهر صموئيل «الواعظ الإنجيلى الشهير» كلمات أغنية «كلى ملكك» للمطربة المعروفة «شيرين» بأنها كفر ووثنية.. بندور عليها من خلال الحب الرومانسى. وقال (أنا مش هقول اسم الأغنية..)، ولكنه سرعان ما قال كلماتها التى نعرفها جميعا (أنا كل حاجة حبيبى فيا بتناديك.. أنا مش بحبك.. الحب كلمة قليلة بالنسبة ليك.. أنا كلى ملكك.. أنا كل حاجة حبيبى فيا بتناديك. فكروا هذا الكلام يقال لمين؟ هل يقال لأحد غير الله؟ هل تكلم إنسانًا أم إلهًا؟)  ثم سخر من شيرين، وقال: (منك أنت أنا مش همل.. يا سلام.. وعلى فكرة هى أطلقت كذا مرة... هذا الكلام لا يمكن أن يقال إلا لله المعبود الحقيقى الذى بعبادته تتطور إنسانيتى وتكتمل، ولكن الإنسان بغباء بدلوه)

 سبب الاعتذار..

بعد تداول مقطع الفيديو المشار إليه الذى يهاجم فيه د. ماهر صموئيل المطربة شيرين. كتب د. خالد منتصر على الفيسبوك: (واعظ مسيحى يكفر المطربة شيرين، ويعتبر أغنيتها هرطقة!! لا بد من الاعتذار عن تلك السقطة.. الشيخ كشك أسلوب حياة، والسلفية عابرة للأديان).

قطعًا، كان لا بد أن يعقب د. ماهر صموئيل باعتذار.. أكد فيه أولًا على احترامه الشديد للفن عامة، وللغناء الذى يرتقى بوعى وكيان الإنسان شعورًا وفكرًا وخلقًا. وثانيًا على أنه يقدس الحب الرومانسى، ويراه نعمة من نعم الحياة، بشرط أن يوضع فى مكانه الصحيح. وأكد على أن اعتذاره الأول، فهو لخطئه فى استعماله لكلمة «كفر»، وعلى الرغم من صحتها لغويًا فى هذا السياق، فالكفر هو تغطية الحق بالباطل وتعنى فى هذا السياق تغطية الحق، وهو الاحتياج للإله ليعطى معنى الحياة، بباطل هو كفاية المحبوب لذلك، لكن بلا شك قد جانبه الصواب فى استعمالها بسبب دلالتها عند المستمع العربى.. إذ ارتبطت بالعنف والخروج عن الدين وهذا ما لا يقصده قط.. مؤكدًا أنها زلة لسان خجل من نفسه بسببها. والاعتذار الثانى، لأنه أخطأ إذ استطرد فى التأكيد على فشل هذا النوع من الحب الكارثى، وتعميم انتهائه بطلاق من يتغنون به، مما يسيء للمغنية، والإساءة لإنسان هى خطية فى حقه، وفى حق الله، معتبرها.. سقطة غير مقصودة، ودعا المساء إليه العفو.

 اتفاق.. يشوبه الشك

أتفق مع ما كتبه د. خالد منتصر من أن (الاعتذار سلوك محترم من إنسان محترم، يعرف أن ثقافة الاعتذار ليست سبة أو عارًا، ولكنها من شيم الكبار، المثقفين، ممن يملكون الوعى والبصيرة).

ولكن يظل السؤال: لو لم يكن د. خالد منصر كتب ذلك البوست على السوشيال ميديا.. هل كان د. ماهر صموئيل سيكتب ذلك الاعتذار بعد مرور ما يقرب من سنة على إطلاقه؟ وهل يتسق د. ماهر صموئيل مع نفسه عندما يرفض اتهام شيوخ الإسلام السياسى للمواطنين المسيحيين المصريين بالكفر؟ ويوافق أن يتهم المطربة شيرين بذلك.. ويبرره لغويًا؟

إنها مجرد أسئلة ساذجة للتعبير عن الحالة العامة لبيان مدى اتساق قناعات بعض مما يردده رجال الدين أو المحسوبين عليهم من وعاظ ودعاة وغيرهم.. مما يتسبب فى أزمات للمؤسسات الدينية.. ربما تكون ليست طرفًا فيها من قريب أو بعيد، وأن كانت صاحبة المسئولية الأدبية والمعنوية بالدرجة الأولى عنهم. 

ولا ننسى أن «زلة اللسان» جاوزت التشكيك فى فكرها باتهامها بالكفر والوثنية لحد وصل إلى التطرق لحياتها الشخصية.. بشكل لا مبرر له أو عذر. والدفاع هنا ليس عن المطربة شيرين تحديدًا، بل عن المبدأ نفسه من الأصل.

 اختبار الكنيسة الإنجيلية..

يرى الغالبية العظمى من المثقفين والمفكرين الذين اقتربوا من الكنيسة الإنجيلية المصرية.. أنها تمثل مشروعًا للتنوير والإصلاح. ولكن مثل تلك التصريحات من بعض المحسوبين عليها.. يجعلنا نراجع موقفها من التنوير بشكل حقيقى.. لكونها سقطت فى الفخ نفسه الذى يتوجس كل الخوف والعداء من الفن والإبداع.. فى خلط بين التدين والإبداع.. لدرجة وصاية الأول على الثانى لدرجة التكفير والتشكيك فى النوايا وتفسيرها بما يبرر الهجوم عليها ترسيخًا للإرهاب الفكرى الذى يتخذ الدين كنقطة عبور للاتهام بالكفر والزندقة.. والجديد هو الوثنية. وهو ما يرسخ صورة ذهنية وكأن التدين فى عداء مع الفنون. وهو الأمر الذى جعل البعض يسخر مما حدث، ويطالب بتحليل دينى لأغنية المطرب مدحت صالح (رفضك يا زمانى.. يا مكانى.. يا أوانى.. نفسى أعيش فى كوكب تانى.. فيه عالم تانى.. فيه لسه أمانى.. فيه الإنسان لسه انسان.. عايش للتانى..)

 تجديد الفكر الدينى، وليس الخطاب

لا زلت أؤكد وأطالب – كما كتبت كثيرًا - أننا نحتاج إلى تجديد الفكر الدينى وليس الخطاب الدينى.. فالخطاب الدينى آراء شخصية فى معظمه «الوعظ والإرشاد»، ويرتكز على فكر دينى «أفكار وتصورات» لاجتهادات لاهوتية وفقهية على مر السنوات. تجديد الفكر الدينى يمثل فهم الإنسان للدين، ورؤيته الشخصية. وليس المقصود بالقطع تجديد النص الدينى أو الكتب السماوية. والتجديد هنا غير معنٍ بشكل الخطاب وكلماته، بل بتعديل سيكولوجية الفكر الدينى ومضمونه بما لا يتعارض أو يمس النصوص بثوابتها الدينية والإيمانية، خاصة أن تراثنا الدينى يحتوى على بعض ما يخالف أصول الدين، ويخالف المنطق العقلى، فلا يمكن رفض النص الدينى منطقيًا لأنه مرجع غير قابل للشك، وفى الوقت نفسه لا يمكن قبول تفسيراته كليًا لما فى بعضها من تجاوزات غير مقبولة دينيًا أو فكريًا.. على غرار اقتران الهوية الدينية بالقتل من جيش الرب فى أوغندا وداعش فى ليبيا والعراق وسوريا، أو على غرار وصف المبدعين بالكفر والوثنية.

 العلم والإيمان

رفض تجديد الفكر الدينى.. يعنى تجميد الأحكام عند فترة زمنية محددة فى التاريخ الماضى، وهو ما يعنى غلق باب الاجتهاد الذى يقوم أساسًا على التجديد. ويرتبط بذلك الحديث عن الإعجاز العلمى للأديان الذى يعتبر نوعًا من العجز تجاه تقدم الغرب وتكنولوجيته. والسؤال البديهى الذى سألته مرارًا وتكرارًا: طالما أن الكتب السماوية ذكرت لنا النظريات العلمية نحن أهل الإيمان.. فلماذا لم نكتشفها نحن؟ ولماذا نتأخر دائمًا ولم نتقدم، بل وتقدم غيرنا وتطور؟ وكيف يستقيم أن يكون الغرب المتقدم ماديًا.. هو نفسه «المنحط» روحيًا وأخلاقيًا كما يختزله البعض من رواد التكفير.. شيوخ الديجيتال وكهنته؟

الفصل بين العلم والدين لا يستند إلى أفكار نظرية المؤامرة حسبما يروج البعض، بل يبعد النص الدينى عن مهاترات المقارنة مع النظريات العلمية. النص الدينى ثابت لا يتغير، أما النظريات العلمية.. فهى متغيرة حسب الزمان والمكان ضمن نطاق التطور العلمى المستمر.

تجديد الفكر الدينى أهم وأكبر من تركه داخل حدود المؤسسة الدينية.. فالمفكرون والمثقفون والباحثون لهم دور أصيل فى هذا التجديد بعيدًا عن التصورات المسبقة عن القطيعة بين المثقفين والمؤسسة الدينية.

 وكلاء السماء

يعانى الفكر المصرى من وجود فئة ضالة ترى فى نفسها.. أنها وكلاء السماء حصريًا على الأرض، وأنهم الأوصياء على الرأى والفكر والدين، كما تعتبر تلك الفئة نفسها رغم ضحالة فكرهم ومحدودية ثقافتهم وعدم قدرتهم على المواجهات الفكرية، أنهم الأحق بالوكالة الحصرية من السماء على المفكرين والمثقفين وكل أصحاب الرأى، وهى جميعها إما لتصفية حسابات أغلبها شخصى أو بتحريض من هذا أو ذاك طبقا لثقافة العنعنة. وفى أقل الأحوال.. تمنح نفسها الحق فى تصنيف غيرهم باعتبارهم من أتباع الكفر أو الوثنية أو الزندقة أو الهرطقة.. مثلما لديهم حصريًا من الجانب الآخر أيضًا.. مفاتيح ملكوت السموات، وخريطة الطريق لهناك. أنه ترسيخ لثقافة الصحراء الأحادية التى لا تقبل الاختلاف. وتعمل لصالح التطرف الفكرى الذى سرعان ما يتحول إلى إرهاب سلوكى بأشكال متعددة للوصول إلى فرض الاغتيال الفكرى والمعنوى وإبادة المختلف.

هناك من يتمسك دائمًا بمصادرة العقل المصرى لصالح أفكار سابقة التجهيز.. تم ترسيخها والترويج لها بعد تصديرها لنا من الصحراء، رغم تراجع أصحابها عنها الآن ورفضهم لها تمامًا.. ويعتمدون فى ذلك على ما يمكن أن نطلق عليه «فقه المصادرة»، اتساقًا مع قاعدة افتراضية تنص على (ما لا تستطيع مناقشته والرد عليه.. فكرة أمام فكرة.. الأسهل أن يتم منعه 

وحظره وتجريمه وتكفيره).

دائمًا ما يقتنص دائمًا وكلاء السماء.. الفرصة لوضع المزيد من القيود على حرية التعبير من خلال الإرهاب الفكرى. وفى الوقت نفسه، يكرسوا الترويج لأفكارهم بين أتباعهم والموالين لهم من أصحاب الرؤية الأحادية.. ويظلوا يدوروا فى حلقات مفرغة لا فائدة منها أو تأثير، لأنهم فى النهاية يكلمون أنفسهم ويحدثون أنفسهم دون خلق حالة حوار حقيقية مع المختلفين معهم. فما الفائدة من أن نكلم ونسمع المتفقين معنا؟!.

الطريق إلى الله لا يمر عبر الوكلاء، فالمسافة بين الإنسان وربه أسهل وأقصر وأيسر بكثير من خرائط بعض رجال الدين المعقدة، التى تفرض الحواجز والعراقيل لصالح توجهاتهم وسيطرتهم على تلك العلاقة.. التى أصبحت وسيلة بقائهم واستفادتهم الشخصية والمادية.

 غلطة ماهر صموئيل بألف..

لا جدال، أن مسألة اعتذار د. ماهر صموئيل هو موقف محترم.. يعبر عن شجاعة أدبية وإنسانية. ولكن حقيقة الأمر، إن ما حدث هو أكبر بكثير من د. ماهر صموئيل.. لأن ما صرح به وتراجع عنه هو فى الحقيقة.. فكرة مركزية فى الفكر الدينى المتجسد فى رجاله.. الذين يرون فى أنفسهم.. أصحاب الحق الوحيد فى الدفاع السماء. 

ما سبق، يستدعى من الكنيسة المصرية فى مجملها أن تعيد النظر فى موقفها من الفن والإبداع.. حتى لا ندور فى تلك الحلقات المفرغة بين الحين والآخر. وقبل أن نجد الصدى الموضوعى المقابل لشيوخ الحسبة.. بظهور كهنة الحسبة داخل الكنيسة.

أحذر من عودة ظاهرة الدعاة الجدد الذين ينزلقون فى تصريحات خطيرة.. يتورطون فى إطلاقها، ويدفع المجتمع ثمن زلاتهم وتهورهم واندفاعهم فى إطلاق التصريحات والأحكام بالتكفير والوثنية والهرطقة، وترسيخ وصايتهم على المجتمع رغم عدم أهليتهم وصلاحيتهم لذلك. 

ويبقى السؤال: كيف يمكن أن تكون ضد الطائفية والتعصب والتشدد.. وفى الوقت نفسه أنت ضد الإبداع والخيال والأحلام؟!

 نقطة ومن أول السطر..

بيننا من لا يؤمن بالرأى المختلف، رغم أن حرية العقل فى التفكير والاستنارة والإبداع الخلاق..

فالعقل طاقة نور.. يخاف منها وكلاء السماء.. فهم يزعجهم من يفكر ويقول ويكتب ويعترض وينتقد.. يخافون من الاختلاف عما هو سائد.

الوطن ليس له دين، أما المواطنون فهم أتباع الأديان.

رجال الدين والمحسوبون عليهم.. لن يكونوا الرقيب على الفنون والإبداع!