الأربعاء 11 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حكايات من الشارع عن المعيشة والأسعار!‏

حكايات من الشارع عن المعيشة والأسعار!‏

هذه حكايات يومية من أفواه الناس، أشبه برسالة مباشرة إلى الحكومة، ليست رسالة عتاب أو ‏لوم، إنما رسالة «شرح حال»، لكى تفهم الحكومة ما الذى يشغل بال الناس وكيف يعيشون، ‏وهذا حقهم، لأن وظيفة الحكومة أن تدير حياتهم وترعى شئونهم، لكن ليس بطريقة الأب ‏المسئول عن رعاية أولاده، فهذا يصلح فى أسرة، ولا ينفع فى دولة، فالدولة مسئولياتها ‏متشعبة ومعقدة داخليا وخارجيا، والرعاية فى الدولة هى وضع النظام الذى يحكم حركة ‏الناس وأنشطتهم، بقوانين ولوائح وإجراءات وأساليب يلتزم بهما الجميع وتطبقها الدولة بعدالة ‏وشفافية وانضباط تام، نظام يتيح للناس فرصا متكافئة فى التعليم والعمل والعلاج والسكن ‏والزراعة والتصنيع والتجارة.. إلخ.



 كل مواطن يجتهد فيها ويجنى حسب إمكاناته وقدراته ‏وجديته وعمله، على أن توفر الدولة «وسائل حماية» نسبية لمن حرمتهم الظروف من التمتع ‏بقدرات جيدة، فى شكل دعم أو إعانات أو خدمات مجانية.. إلخ، مع فرض رقابة صارمة على أداء النظام، حتى لا يفسده «النهابون واللصوص والمرتشون والمحتكرون والصائدون فى ‏الماء العكر..الخ»!‏

ولا تستطيع الحكومة أن تتنصل بأى أعذار من وظيفتها فى حماية الناس، خاصة من الذين ‏يتحايلون على النظام ويصعبون «الحياة اليومية» عليهم، وهذه هى المهمة الأهم للحكومة، ‏ومن صلب الأمن القومى للدولة..‏

‏- 1 -‏

جلس على المقهى مكتوما كأنه فقد عزيزا وعاد لتوه من جنازته، هو موظف كبير على ‏المعاش، معاشه الشهرى يتجاوز عشرة آلاف جنيه بقليل، يسكن فى حى شعبى من أحياء ‏الطبقة المتوسطة، فى شقة تمليك من التسعينيات، اشتراها من الحكومة بالتقسيط أيام ما كان ‏التمليك متاحا ولا يعرف رقم المليون الجنيه، ولا حتى رقم المئة ألف جنيه، وكان الجنيه ‏أيامها «صالبا» طوله أمام العملات الأجنبية، وإذا نخ أو طأطأ رأسه، كان يفقد بضعة قروش ‏كل بضعة شهور، وشقته التمليك هى التى سهلت عليه حياته مع زوجته، وتتيح له أن يداعب ‏أحفاده من بنتيه بهدايا رخيصة عند زيارته فى الجمعة الأولى من كل شهر.‏

ألححت عليه، قال: أحفادى كانوا عندى، وبينما نضحك سألتهم ونحن نضحك سويا: نفسكم فى إيه؟، قالوا: شربة «سى فود»!‏

رفعت سماعة التليفون، طلبت أربع علب شوربة ونصف كيلو سمك مكرونة من محل أعرفه، ‏وآخر مرة اشتريت منه قبل شهور كانت الشورية بثمانين جنيها، رحت بنفسى إلى المحل ‏القريب، بدل ما أدفع أجرة التوصيل.. سألت: كم الحساب؟

أجاب الكاشير: 795 جنيها!‏

لم أصدق، كررت السؤال، قال: علبة الشوربة بـ170 جنيها، ونصف كيلو المكرونة بـ115 ‏جنيها.‏

وقعت فى حيص بيص، وكدت أنسحب فى هدوء، ولم أفعل، قد يتعرض لى عمال المحل.‏

أخرجت من جيبى 800 جنيه، دفعتها صاغرا، فى أربع علب شوربة ونصف كيلو سمك ‏مكرونة، لا سلطات، لا عيش، لا أرز.. هذا جنون، حاسس أنى اتسرقت، صحيح «عام» ‏الجنيه أو غرق لا فرق، لكن كل حاجة «اتسعرت»، «ما فيش حد يقول لهم حرام»، أو جهة ‏ترفع عنا جشع التجار!‏

سكت برهة ثم قال: البحر فى أرضنا والنهر ومزارع السمك والصيادون يقبضون بالجنيه، ‏فهل سعر السمك له علاقة بالتعويم لدرجة أن كيلو البلطى، أرخص سمكة على وجه الأرض ‏بـ90 جنيها؟، يعنى أى عائلة تشترى 2 كيلو سمك وتعمل كيلو أرز بالزيت تغرم فوق ‏الـ200 جنيه فى وجبة غداء عادية؟

لم أرد.. وكيف لى أرد ونحن نطل على بحرين: أبيض وأحمر بطول 3200 كيلومتر، ولدينا ‏أكبر بحيرة صناعية فى العالم، بحيرة ناصر بمساحة تزيد على خمسة آلاف كيومتر مربع، ‏و12 بحيرة طبيعية؟

‏ مؤكد فيه حاجة غلط.. وغلط جدا!‏

‏- 2 -‏

ركبت ميكروباص، وهى من عاداتى كل فترة، الميكروباص يتحرك مثل سلحفاة فى المسافة ‏قبل ميدان رمسيس فى اتجاه شارع الجلاء، الوقت عصرا، الحر زاعق، والعرق ينز على ‏الوجوه كأنه قادم من بئر يفيض، الصمت مستحيل، قالت سيدة لجارتها فى الكرسى خلف ‏السائق: قزازة الزيت كيلو إلا ربع بـ70 جنيها، والبطاطس بـ25!‏

رد راكب خلفهما: 3 ساندويتشات فول وطعمية وبيض بـ26 جنيها..‏

رفع راكب صوته معترضا: «بلاش» الكلام اللى يوجع، إحنا عايشين بالعافية!‏

لم يسكت الركاب كأنهم لم يسمعوه، وانخرطوا فى عزف جماعى عن أسعار الطماطم ‏والباذنجان والجبن واللبن والخضراوات والعدس والبصارة.. إلخ.‏

حاولت أن أخفف من حدة الوجع، وقلت ضاحكا: ولا كلمة عن اللحم.‏

انقطع الحوار تماما، كأنه سقط فى بئر سحيق، ثم قال أحدهم بحدة: يا أستاذ..أنت تهزر، ‏الكيلو فوق الـ400 جنيه، محلات جزارة كثيرة قفلت من قلة الزبائن، أضحية العيد الكبير ‏قلت بنسبة 50 %..‏

هنا نزلت فى ميدان رمسيس..‏

نسيت أقول لكم أن أجرة الميكروباص زادت نصف جنيه، فى 14 راكبا، يعنى 7 جنيهات، ‏المسافة يمكن أن تستهلك لترا ونصف اللتر من السولار، يعنى تقريبا جنيها ونصف الجنيه أو ‏جنيهين ونصف الجنيه مع الحركة البطيئة زيادة فى تكاليف التشغيل، جمعها السائق سبعة ‏جنيهات على الأقل فى «الدور الواحد».‏

‏- 3 - ‏

فى كافيه على نيل أغاخان بشبرا، جلسنا نستعيد ذكريات وأحداثًا وحكايات، هو شخصية ‏مرموقة، يشغل منصبا رفيعا فى مؤسسة عامة، وشىء طبيعى جدا، ألا يخلو كلامنا من ‏المعيشة وأحوال الأولاد واحتمالات المستقبل..‏

فجأة ابتسم، وضحك ثم قهقه حتى دمعت عنياه، دخلنا فيه شمال، كيف ينفرد بالضحك دوننا، ‏لم يتوقف، نظرنا إليه وضحكنا، فالضحك عدوى، هدأت ضحكته ثم سأل: هل تعرفون كم يبلغ ‏مرتبى بالدولار؟

لكزه أحدنا فى صدره: هذه أسخف نكتة سمعتها فى حياتى..أفق.. أنت لا تعيش فى نيويورك!‏

قال: والله أتحدث جادا.‏

صاحبنا يحصل على الحد الأقصى للمرتبات، 42 ألف جنيه شهريا، فقال: أقل من ألف ‏دولار، تحديدا 854 دولارا الآن.‏

ضربنا أيدينا فى بعضها عجبا: وماذا نفهم من ذلك؟

قال: كانت تساوى 4700 دولار تقريبا قبل عشر سنوات.‏

فى هذا الوقت كان والدى يدخر ما يزيد على 400 ألف جنيه على هيئة شهادات بنكية، كانت ‏قيمتها تزيد على أربعين آلف دولار، الآن لا تساوى أكثر من ثمانية آلاف دولار!..هذه ‏الأرقام تراقصت أمام عقلى فجأة، فلم أجد أمامى إلا القهقهة والسخرية..‏

ثم قال: ابنى موظف حكومة فى مكان جيد، متخرج من ست سنوات، مرتبه عشرة آلاف جنيه ‏تقريبا، يعنى مائتى دولار تقريبا، ولماذا أحسبها بالدولار، لأننا نستورد معظم احتياجاتنا من ‏الخارج، هو خاطب وعلى وش جواز، أجهزة كهربائية وأشياء كثيرة مطلوبة أسعارها نار، ‏لكن كلها كم شهر وآخذ مكافأة نهاية الخدمة، وأحمد الله أننا حجزنا له شقة من الإسكان ‏المتوسط، هو لم يستلمها بعد، ويارب لا ترفع الحكومة سعرها، هو حاجزها من أربع سنوات ‏يعنى قبل التعويم الأخير!‏

‏وختم كلامه: لا أعرف دولة فى العالم اتبعت روشتة البنك الدولى أو صندوق النقد ‏وتجاوزت أزماتها، ربما العكس هو الصحيح!‏

‏- 4 -‏

قال لى صديق فى مكالمة تليفونية: يخيل لى أن التجار أعلنوا حرب الجيل الرابع على ‏المصريين، كل واحد يضع السعر الذى يعجبه، يعنى ممكن تلاقى السلعة نفسها بأكثر من ‏سعر، ربما حسب شكل السوبر ماركت أو المحل، كنت أتصور أن بيان البنك المركزى قبل ‏فترة عن ارتفاع الاحتياطى الدولارى هو نبوءة بأن الأسعار سوف تنخفض، إلا أنها تعاندنا ‏وتخرج لنا ألسنتها، نفهم أن رفع أسعار منتجات البترول الأخير له تأثير، لكن عجلة الأسعار ‏تجرى بسرعة جنونية كأنها فى «سوق حر»، بلا قيود، كل تاجر وشاطرته، وفى مجتمع يمكن ‏وصفه بأنه «صيد سهل» للتجار»، فالطلب دائم وكبير طول الوقت على السلع، فنحن أعداد ‏هائلة من المستهلكين، وفى المقابل تجار ومستوردون حريصون بكل جبروت على أن يكون ‏‏»المعروض» أقل، فاكر فيلم «الفتوة» لفريد شوقى وزكى رستم، عن التاجر الذى يخزن ‏الفاكهة أو يعطنها ولا يخفض سعرها، والفيلم من الخمسينيات، يعنى خلل العلاقة بين ‏المواطن والسوق والحكومة قديم جدا، ولم يصلحه احد، كما لو أن الحكومات المتلاحقة ‏عاجزة عن أداء مهمتها فى مواجهة الجشع والاحتكار، وعلى فكرة ليس «الأوفر برايس أى ‏الزيادة الإضافية فى السعر» خاصة بالسيارات فقط، بل امتدت إلى بعض السلع المعمرة ‏الأخرى مثل التكييفات.‏

‏- 5 -‏

انتهت تلك الحكايات، لكن لم ينته دور الحكومة، وإذا أدت مهمتها بجدية وكفاءة فلن نسمع ‏هذا النوع من الحكايات الموجعة!‏..>