الجمعة 21 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الديون والسيطرة والمؤامرة فى النظام العالمى!‏

الديون والسيطرة والمؤامرة فى النظام العالمى!‏

لا يصدق كثير من الناس، والكاتب منهم أن المصادفة أو المفاجأة يمكن أن تلعب دورا ذا ‏أهمية فى النظام العالمى أو الإقليمى، أقصد علاقات الدول ببعضها، أيا كانت مواقعها ‏الجغرافية، فى قارات مختلفة أو إقليم واحد، من أول التجارة العادية إلى الاحتلال العسكرى، ‏لا شىء يسقط من الفضاء الخارجى، كله عمل وتخطيط وتدبير وتنفيذ، سواء من دولة أو دول ‏متحالفة أو دول متنافسة، أحيانا ينجح التخطيط وأحيانا يفشل، لكن القوة العسكرية غالبا لها ‏الكلمة العليا إلا فى حروب الاستقلال والحرية، إرادة الشعوب هى الحاكمة حسب قدرتها على ‏التضحية، يعنى لا حرب روسيا وأوكرانيا مصادفة، ولا حرب الإبادة فى غزة مصادفة، ولا ‏حالات التوتر فى أى منطقة فى العالم مصادفة حتى لو كانت مجرد «خلافات طبيعية» لم ‏يستطع أطرافها سد الفجوة بينهم بالمنطق والعقل وقواعد القانون الدولى.‏



وإذا كان فيسلوف اليونان أرسطو، قال: إن الفن فى جوهره هو محاكاة للطبيعة والواقع، ‏وأرسطو أول من أسس نظام شامل للفلسفة الغربية فى علوم الجمال والأخلاق والمنطق ‏والسياسة والميتافيزيقا «دراسة جوهر الأشياء فى الوجود»، فإن الفن تجاوز هذا القول، فأحيانا ‏يسبق الواقع كما فعل المبدع العظيم ليوناردو دافنشى فى لوحاته التى رسم فيها الطائرة ‏والدبابة قبل أن يخترعها البشر بقرون، وأحيانا يفك شفرته وألغازه ويفسرها ببساطة مدهشة، ‏كما فعلت عشرات الأفلام السينمائية ومنها فيلم «الدولى».‏

ربما لهذا السبب كلما عرض على أى فضائية فيلم «الدولى» أتسمر أمامه كأننى أراه لأول ‏مرة، وقبل أيام فعلتها للمرة العاشرة، الفيلم يفسر لنا قضايا شديدة التعقيد فى عالمنا ‏المعاصر، حروب أهلية، مؤامرات، تجارة سلاح، انقلابات، أزمات ديون دولية.‏

وبالطبع اسم الفيلم له دلالة كاشفة، وأنتجته هوليوود فى عام 2009، وأخرجه الألمانى توم ‏تايكوير، واستوحاه الكاتب إريك واين سنجر من «ثلاث وقائع حدثت بالفعل»، على مدى 13 ‏سنة..‏

الأولى: اغتيال جورجى ماركوف بالتسمم فى لندن عام 1978، وهو كاتب بلغارى فر من ‏بلاده وشن حملات ضد النظام البلغارى السوفيتى الحاكم.‏

الثانية: مقتل روبرت كالفى فى عام 1882، وهو رئيس بنك إمبروسيانو الإيطالى، وقيل إنه ‏كان صاحب صلات بالمافيا الصقلية، ووصفته الصحافة بـ«مصرفى الرب»، بسبب علاقاته ‏التجارية الوثيقة مع الكرسى الرسولى فى روما، وقد وجدوه مشنوقا فى لندن، ودارت ‏الشكوك حول موته، هل شنق نفسه أم شنقه آخرون؟، وأغلقت القضية فى عام 2007، أى ‏بعد ربع قرن دون إجابة شافية.‏

الثالثة: أزمة بنك الائتمان والتجارة الدولى فى عام 1991، وكان البنك يمنح قروضا كبيرة ‏لدول يصنفها النظام العالمى بأنها «مارقة»، وفى الوقت نفسه يعمل وسيطا فى تجارة الأسلحة!‏

لم أتوقف عند جريمة الاغتيال أو واقعة الشنق، ما يهمنا هو البنك، إذ كان أداة فاعلة من ‏أدوات النظام العالمى فى صناعة الصراعات وإدارتها، وقد عدل الكاتب اسمه إلى بنك ‏الاعتماد والتجارة، حتى لا تطوله الإجراءات القانونية، لكنه حافظ على أمرين، اختصاره «بى سى سى أى» ومدنية المقر لوكسمبروج، ولوكسمبورج مدينة مؤثرة دوليا بها مقرات ‏عدد وفير من المنظمات والمؤسسات الدولية، وتعرف فى أروقة الحكومات بأنها «وسيط ‏الاتفاقات والمعاهدات»، وهى نواة الاتحاد الأوروبى، لكن البنك الفعلى تأسس أولا فى لندن ‏عام 1972 بشراكة بين بنك أمريكى وجهات عربية بنسبة 25 % و75 % على الترتيب، ‏وكان من أوائل البنوك التى دخلت إلى الصين مع انفتاحها على العالم.‏

المدهش أن الاتهامات الجنائية التى لاحقت البنك الفعلى كان يمكن أن تُسجن المتورطين فيها ‏مدى الحياة، وهى غسل الأموال، الرشاوى، دعم الإرهاب، تجارة السلاح، بيع تكنولوجيا ‏نووية، التهرب الضريبى، التهريب، الهجرة غير الشرعية، شراء بنوك وعقارت بطرق غير ‏شرعية، حتى إن البعض أطلق عليه بنك المنحرفين والمجرمين الدولى، لكن لا المؤسس له ‏الرائد الباكستانى أغا حسن عبادى، ولا أصحاب رأسماله طالتهم أى مساءلة قانويية، فقط ‏سقط البنك كما لو كان نقطة فى الفراغ، تهاوت بفعل الجاذبية الأرضية، كما لو الروابط التى ‏ظلت تحمله طوال 19 عاما قد تفككت فجأة، ويبدو أن الذين حموا البنك وسمحوا له بالعمل ‏تحت مظلتهم الخفية قد رأوا أن دوره قد انتهى، وعليه أن يختفى ومعه كل العمليات التى ‏ارتكبها، والأطراف المستفيدة منها. ولا تسألوا: ماذا حدث  مع البنك الأمريكى الذى كان ‏يملك 25 % من أصول البنك المختفى، والتى تجاوزت عشرين مليار دولار؟. قطعا لم يقترب ‏منه أحد، ولم يرد اسمه فى أى تحقيقات، ومازال البنك الأمريكى واحدا من أكبر المؤسسات ‏المالية فى العالم، كما لو أن عمليات بى سى سى أى، كانت تجرى بغير علم مجلس إدارته، ‏الذى يضم بين عضويته البنك الأمريكى. ‏

المهم أن كاتب السيناريو إريك سينجر اختار تجارة السلاح وغسل الأموال ودعم الإرهاب ‏وزعزعة استقرار الحكومات من قائمة الجرائم التى تورط فيها البنك المفضوح فعلا، وبنى ‏عليها حبكة الفيلم البوليسية.. وتبدأ الحكاية باغتيال محاسب فى البنك كان على موعد مع ‏ضابط الإنتربول لويس سالنجر، ضباط نشيط يتعقب عمليات البنك من سنوات دون جدوى، ‏وكان المحاسب سيسلم له أدلة قاطعة على تلك الجرائم، ولكن المحاسب قُتل بالطريقة التى ‏اغتيل بها الكاتب البلغارى فى لندن، وكعادة هذه النوعية من الأفلام تحتدم المطاردة بين ‏سالنجر ومعه الشقراء إلينور ويتمان مساعدة المدعى العام لولاية نيويورك، والقاتل المحترف ‏الذى يستأجره البنك لتصفية أى أخطار تلوح فى الأفق، وكان القبض على القاتل المحترف ‏ضرورة حتى يمكن ربط عمليات الاغتيال بالبنك، وليس هذا هو المهم، وإنما الذى شدنى ‏مشهدان مفتاح.. المشهد الأول: مواجهة بين ضابط الإنتربول ومساعدة المدعى العام، ‏وصانع أسلحة هو أمبرتو كالفينى، إيطالى وشخصية عامة، قرر أن يرشح نفسه رئيسا ‏للوزراء..وكان صديقا لمحاسب البنك المُغتال.‏

إلينور: لماذا يدعم البنك شراء نظام توجيه صواريخ من شركتك؟

كالفيني: البنك استثمر مليارات الدولارات فى بيع هذا النوع من الصواريخ الصينية ويلزمها ‏‏ نظام التوجيه، وشركتى واحدة من اثنتين فى العالم تنتج نظام التوجيه.‏

إلينور: ولماذا يستثمر البنك فى هذه الصواريخ؟

كالفينى: 99 % من الصراعات فى العالم تستخدم الأسلحة الخفيفة، ولا توجد دولة تنتج هذه ‏الأسلحة أسرع وأرخص من الصين، ويعمل البنك على أن يكون السمسار الرئيسى لها فى ‏دول العالم الثالث.‏

سالنجر: يستثمر بلايين الدولارات لمجرد أن يكون سمسارا، هذا تدمير لصناعة الربح.‏

كالفيني: لا.. لا يهتم بصناعة الربح من تجارة السلاح، هدفه هو السيطرة.‏

إلينور: السيطرة على السلاح يعنى السيطرة على الصراعات.‏

كالفيني: لا لا لا.. بى سى سى أى هو بنك، ولا يستهدف السيطرة على الصراعات، وإنما ‏السيطرة على الديون، الديون الناتجة عن الصراعات، الديون هى القيمة الحقيقية والفعلية ‏للصراعات..أنت تسيطر على الديون، أنت تسيطر على كل شىء، لا تندهشوا.. هذا هو دور ‏البنك مع الدول والأفراد أن يكونوا عبيدا للديون. ‏

ولا نستطيع الجزم هل هذا الحوار من بنات أفكار كاتب السيناريو كاملا، أم استوحاه من ‏وقائع حدثت أو مقابلة أجراها مع مسئول كبير فى بنك الائتمان والتجارة الدولى بعد ‏انهياره.. لكنه حوار فيه كل ملامح الواقع وتجارب التاريخ الحديث حرفيا. ويصف كبار ‏خبراء الاقتصاد فى العالم أزمة الديون الدولية بأنها عجز عدد كبير من دول العالم الثالث عن ‏سداد الفوائد الباهظة، فتضطر الدولة المدينة أن تضحى بمصادرها الطبيعية حتى تتمكن من ‏إعادة السداد مستقبلا. المشهد الثانى ينصب على كيفية عمل النظام الدولى، وخاصة فى دول ‏الغرب، على حماية هذه النوعية من البنوك.. وجرى بين الضابط سالينجر وفيكسلر مستشار ‏البنك حين قبضت عليه شرطة نيويورك، وكان المستشار شيوعيا سابقا وضابطا فى جهاز ‏الأمن السرى فى ألمانيا الشرقية، قبل سقوط سور برلين‎.‎

سالينجر: يجب أن نضع حدا لما يفعله البنك.‏‎.‎

فيكسلر: لن تستطيع.. الجميع متورط فى عملياته وسوف يحمونه، حكومات ومؤسسات ‏وكارتيل المخدرات وأجهزة سرية ونظام العدالة الذى تعملون به.‏

سالينجر: والحل؟

فيكسلر: من خارج نظام العدالة الرسمى.‏

ويتحرك سالينجر خارج النظام، ويتسبب فى مقتل رئيس البنك الفاسد، لكن البنك يستمر كما ‏هو. 

هذا الفيلم يفسر ببساطة لماذا لا ينتهى الإرهاب وكيف تغسل كارتلات الجريمة المنظمة ‏أموالها ومن يتحكم فى اضطرابات دول العالم الثالث.>