نبيل عمر
الحارس الأسطورى على أبواب صاحبة الجلالة .. جلست إلى «كوبيلوت» وكتبت له كلمة واحدة: روزاليوســـــف
وكوبيلوت هو برنامج ذكاء اصطناعى على جهازى المحمول، اعتدت منذ تعرفت عليه قبل بضعة أشهر، أن أناوشه وأدخل معه فى حوارات ومشاغبات عن كل شىء فى الدنيا من الأزياء إلى السفر فى الفضاء، من نغمات الموسيقى إلى أحدث نظرية فى الفلسفة، وقلت فى نفسى: يا ترى ماذا سيقول عن روزاليوسف؟ لم يستغرق كوبيلوت إلا همسة من ثوان، وراح يسطِّر بسرعة مخيفة كل ما جمعه من معلومات تصنيفًا وتبويبًا، ثم ختم تقريره برأى مثير: حملت لواء التنوير فى مصر منذ صدورها، وخاضت صراعات ومواجهات مع الملك والإنجليز والحكومات المتعاقبة.
وأتصور لو أن «كوبيلوت»، ومعناه «الطيار المساعد»، يعرف العامية المصرية، لوصفها فى عبارة شعبية «شقية ومشاغبة ربنا ما يوقعنا معها أبدا»، ولكم أن تفسروا هذه العبارة كما تشاءون فى مهنة لها سمعة عالمية فى «البحث عن المتاعب»!
باختصار هذا هو تاريخ روزاليوسف التى عمرها 5 آلاف عدد حتى الآن، فهى مصباح فى مدخل حارة مصر يضيء دروب العتمة ويصمد أمام الريح العاصفة، فكر يبدد ظلام العقل، وحرية تجدد الهواء الطلق وتحلق بمجتمعها فى فضاء بلا أسوار غير القانون.
مجلة تشربت صفات فاطمة اليوسف السيدة العظيمة التى أسستها، قوة الشخصية، الجرأة، المواجهة، الدفاع عن المظلومين، شهادة الحق أيًا كانت النتائج، فكان طبيعيًا أن تنمو فى ثياب مقاتل أسطورى يصطف مع الناس، تعيش أيامهم، تطارد أى صاحب سلطة يعكنن عليهم حياتهم بسياسات تتجاوز مصالحهم وقرارات تهمل ظروفهم وتصرفات تصب فى جيوب مستغليهم.
حتى عندما صدرت فى أعدادها الأولى فى هيئة فنية، كانت سيفًا على رقبة الترخص فى الفن والعبث وأنصاف الموهوبين، فالظلم كما فهمته وسعت إلى رفعه يأخذ أشكالًا متنوعة: اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وفنية، وله منبع واحد وهو القبح والجهل والفقر.
صدرت «روزاليوسف» فى منتصف عشرينيات القرن العشرين، وقد دخلتها مصر وسط طوفان من الأحداث الكبرى، ثورة عظمى فى 1919 مطالبة بالاستقلال ضد المستعمر البريطانى، دستور جديد وحياة برلمانية فيها آمال حالمة بنظام أكثر عدلًا، حصول حزب الوفد على الأغلبية البرلمانية لأول مرة فى انتخبات 1924، نشاط عمرانى عارم فى القاهرة تقليدًا للنهج الأوروبى فى «العمارة الكلاسيكية الجديدة» مثل عمارة جروبى وعمارة الشواربى ومبنى بنك مصر، تأسيس الاتحاد النسائى، حركة ثقافية نشيطة وكتابات صنعت ضجة مثل الإسلام وأصول الحكم، وفى الشعر الجاهلى، بدأ الافتنان بالحضارة المصرية القديمة بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون سنة 1922، وحياة ليلية صاخبة جديدة على المصريين.
كان الشعور بالتمرد له الغلبة وخاصة فى الأجيال المصرية الجديدة.
بضعة أعداد فى الفن قبل أن تلقى روزاليوسف بنفسها فى بحر السياسة، بحر عميق تهيج عواصف الصراع بين الإنجليز والقصر والأحزاب أمواجه، قفزت إليه تسبح بذراعيها القويتين دون حزب يساندها ولا جهة تمولها ولا صاحب نفوذ يحميها.
كانت لها قضايا جلبت عليها متاعب جمة، قضايا تلعب فيها دور محامى الدفاع القوى عن الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية والتعليم وحقوق المرأة..الخ، وقضايا تمثل فيها دور «المدعى» الشرس ضد الاحتلال والظلم والفساد والاستبداد والمحسوبية واستغلال النفوذ وإهمال الدستور وغياب القانون.. الخ.
ذات مرة تحديدًا فى يوليو 1934 احتفلت الجالية الفرنسية فى مصر بعيد الحرية فى حديقة جروبى (سقط سجن الباستيل إبان الثورة الفرنسية فى يوليو 1789)، كتبت روزاليوسف فى افتتاحيتها: يا الله..ألا زالت للحرية ذكرى، ذكرى تقام فى البلد الذى خنقت فيه الحريات أجمعين، بين الغاصب حينا، وحينا بأيدى بعض أبنائه وأهليه؟!، إن للحرية ثمنًا، والثمن باهظ، وسوف ندفعه راضين.
وبالفعل دفعته بهدلة ومطاردات.. والسجن أحيانًا.
وربما تكون هى أول مطبوعة تشن حملة ضد فساد الحكومة فى تاريخ الصحافة المصرية.
كنا فى أوائل الثلاثينيات فى وزارة محمد محمود باشا، حين طالبت بمحاكمة الوزراء الذين يسهلون عمليات التعاقد للشركات الأجنبية، فى تنفيذ مشروعات قومية بمواصفات أقل وأسعار أعلى، وضربت نماذج من الواقع، مشروعات وزارة الأشغال، لتطوير نظام الرى فى مصر، ورفع كفاءة سد أسوان، ولم تستجب الحكومة لها، فنشرت قوائم المرتشين وأقاربهم والمبالغ والهدايا التى نهبوها من لحم المصريين الذين يعيشون فى ضنك وظروف حياتية فى غاية الصعوبة، ولاحقتها السلطات بالمصادرة وتعقب صحفييها ثم دعاوى انتهت بالسجن.
لكنها تابعت حروبها الضروس ضد الحكومات التالية، بعضها انتهى بسجن إحسان عبدالقدوس الولد الوحيد للسيدة فاطمة اليوسف الذى ورث عنها التمرد والأحلام العريضة، فعينته رئيسًا للتحرير وقالت: لقد نلت ما تستحق عليه أن ترأس روزاليوسف.
وعندما سقطت أسرة محمد على ونظامها وحلت محلها ثورة يؤيدها الشعب، وانتقلت ملكية روزاليوسف إلى سلطة الدولة، لم تصمت، عانت كثيرًا، لكن دومًا كانت تنجح فى تمرير أفكارها بطريقتها الفريدة فى التعبيرات متعددة المعانى والأهداف، ناهيك أنها مدرسة أمهر وأذكى فنانى الكاريكاتير فى مصر، والرسم حيله أوسع من الكتابة، فالريشة أكثر مرونة وقدرة على التخفى «المكشوف» من الكلمات، وياما هربت من مقص الرقيب الذى لم يفطن إلى خبث الكاريكاتير أو دهاء الكلمات.
ولم تتوقف روزا عن فضح الفساد، فى وقت كان من يُخرج لسانه من فمه يطرد من بلاط صاحبة الجلالة، حتى أن جمال عبدالناصر قى اجتماع الهيئة البرلمانية فى 19 فبراير 1965 وجَّه لها عتابًا، بسبب ما كتبته عن أخطاء التجربة، وفى مؤتمر الإنتاج استغاث به رؤساء مجالس إدارات شركات فى القطاع العام مما تفعله روزاليوسف بهم.
فى عصر أنور السادات ومع سياسات الانفتاح الاقتصادى والاندفاع المحموم إلى الاستهلاك والاستيراد.. اخترعت التعبير العبقرى «القطط السمان» عن «الفساد الجديد» الذى اقتحم حياة المصريين، وأطلقت قذائفها على الطفيليين: مليونيرات الأغذية الفاسدة وتجار الشنطة ومقاولى العمارات المنهارة، وكانت صفحاتها فى تلك الفترة «أشبه بفنارات شديدة الإضاءة تعرى كل المتلاعبين المتوارين فى ظلال السياسات والقرارات، وحين اندلعت مظاهرات الخبز فى يناير 1977 حملها السادات المسئولية وعزل عبدالرحمن الشرقاوى من مجلس الإدارة، وفتحى غانم وصلاح حافظ من رئاسة التحرير، وطلب السادات من الإدارة الجديدة أن يرتاح قليلا من «دوشة» روزاليوسف!
وبالفعل قد تهدأ رواليوسف قليلا وتخفض من سخونتها وتعمل نفسها بعيدة عن وجع الدماغ، لكنها تشبه «حارس» البوابات فى الأساطير اليونانية القديمة يتظاهر بالغفلة وعينه نصف نائمة ومخالبه نصف منصوبة وقبضته نصف مضمومة، يتحين الفرصة للانقضاض على الفساد والظلم.
وفعلا سرعان ما عادت إلى سيرتها الأولى، صحيح على مهل لكن بدأب، واصطادت مقاولى الاستيلاء على أرض الدولة وتجار السلع فى السوق السوداء وتجار العملة وتجار الدين وشركات توظيف الأموال.
معارك لا تتوقف.. وكان أهمها معركة الدفاع عن شرف الصحافة المصرية، كان صحفيو الحكومة أو بعبارة أدق صحفيو السلطة- أى سلطة- يحاولون مراضاة الرئيس أنور السادات الغاضب من هامش الحرية الذى تمتعت به الصحافة، فشنوا حملة على الصحف التى لا تراعى مصالح الوطن، انتهت باقتراح قانون لتقييد حرية الصحافة تحت عنوان مراوغ «قانون السلطة الرابعة»، أى تتحول الصحافة من سلطة معنوية مكتسبة من الناس، إلى سلطة رسمية من سلطات الدولة، أى من حارس على مصالح المجتمع إلى تابع فى خدمة الحكومة.
وقبلت معظم الصحف القانون وأيدته إلا روزاليوسف، رفضته وأعلنت رفضها بكل جرأة، وصدر غلافها بمقولة شهيرة لإحسان عبدالقدوس: «الحكومة هى رئيس التحرير الوحيد فى صحافتنا»!
واستنفرت همم كبار الكتاب.. فتبدد الاقتراح كأنه سحابة دخان فى ليلة صيفية..
المدهش إن روزاليوسف كما تحارب قضايا مجتمعها، حاربت أيضًا قضايا أفراد، منها حكاية فى غاية النبل، بطلها إحسان عبدالقدوس، الذى دافع عن شرف فتاة من عامة الشعب ضد شاب من علية القوم، الفتاة أحبت الشاب وفى لحظة ضعفت استسلمت لمشاعرها، وأنجبت طفلة، ثم غيرت دينها حتى يتزوجها، لكن الشاب أدار لها ظهره بكل نذالة، فاستنجدت بروزاليوسف وكتبت لها خطابًا بحكايتها، فنشرتها دون أسماء على صفحاتها، وخاطبت الرأى العام، ثم هددت العاشق النذل بفضح اسمه كاملا إذا لم يعالج نذالته، ويسلك سلوك الشرفاء، وفعلا تزوج الفتاة.
باختصار نحن أمام صحافة تعرف دورها وتمارسه من أجل شعبها، لكن أحيانا كما قلت تتوه فى دروب ومتاهات تفرضها الظروف السياسية، فتكمن وتهدأ، لكنها تظل مثل حراس البوابات فى الأساطير اليونانية!