الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الحقيقة مبدأ.. العودة والمصير

الحقيقة مبدأ.. العودة والمصير

بين مفتاح العودة الذى يرقد محملا بآمال الإنسان وبتخوفات المنكوبين وبين مصير 



لا يزال مجهولًا تقف فلسطين.

أصبحت الدعوات إلى تهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين من قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء فى مصر أمرًا شائعًا فى إسرائيل. فتحدّث رئيس الوزراء الصهيونى بنيامين نتنياهو ومسئولون آخرون بدايةً عن نزوحٍ مؤقّت للفلسطينيين من أجل السماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة.

 

 

لكن منذ ذلك الحين، عمَد وزراء فى الحكومة وبرلمانيون وهيئات إسرائيلية إلى وضع خطط ترمى إلى تفريغ غزة من سكانها كافّة بشكلٍ دائم، وإعادة توطينهم فى سيناء أو فى مناطق أخرى حول العالم. قبل فترة طويلة من أحداث 7 أكتوبر، كان الفلسطينيون يتخوّفون من التعرّض إلى الطرد الجماعى، نتيجة النفوذ المتنامى للأحزاب القومية اليمينية المتطرّفة فى المشهد السياسى الإسرائيلى وفى الحكومة الإسرائيلية، فضلًا عن العدائية المتزايدة للمستوطنين الصهاينة المسلّحين فى الضفة الغربية والقدس الشرقية. لكن منذ ذلك الحين، تكثّفت الدعوات فى أوساط الإسرائيليين إلى ارتكاب ما يمكن اعتباره نكبة ثانية بحق الفلسطينيين. ويرمز هذا المصطلح إلى التهجير الجماعى القسرى لغالبيةٍ من الفلسطينيين [من ديارهم] أثناء تأسيس إسرائيل فى العام 1948.

 

لكن هل هذه المخاوف من التهجير الجماعى، التى تساور الفلسطينيين وغيرهم حول العالم، فى محلّها؟ فما هو احتمال أن تتحوّل إلى واقع ملموس، وأن تُرتكب عمليات تهجير قسرى بحق مئات أو حتى عشرات الآلاف من الأشخاص، ناهيك عن 5 ملايين فلسطينى يعيشون تحت وطأة الاحتلال الصهيونى منذ العام 1967؟ ستنطوى حملة التهجير على أمور لوجستية ضخمة وصعبة يبقى الحديث عنها أسهل بكثير من تطبيقها على أرض الواقع. لهذا السبب جزئيًا، حاول وزراء صهاينة من الجناح اليمينى المتطرّف، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، تخفيف حدّة دعوات التهجير، من خلال الحديث عن النقل الطوعى للفلسطينيين وإعادة توطينهم فى أماكن أخرى بمشاركة المجتمع الدولى.

 

والأهم هو أن مصر والأردن، اللذَين سيكونان حُكمًا الوجهتَين الأساسيّتَين لأى عمليات تهجير جماعى للفلسطينيين وسبق أن وقّع كلٌّ منهما معاهدة سلام مع إسرائيل ويقيم علاقات دبلوماسية معها، يعتبران أن دعوات التهجير الجماعى للفلسطينيين تشكّل تهديدًا كبيرًا لاستقرارهما الاجتماعى الاقتصادى والسياسى، وبالتالى لأمنهما القومى. فضلا عن الموقف المصرى شديد الثبات فيما يتعلق بعدم السماح بتصفية القضية أو بتهجير الفلسطينيين إلى أى وطن بديل سواء فى الأراضى العربية أو حتى فتح أبواب هجرتهم إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية؛ وعلى خلاف ما كان عليه الوضع فى العام 1992، حين أبعدت إسرائيل بضع مئات من كوادر حماس والجهاد الإسلامى إلى منطقة متنازع عليها وغير خاضعة لسلطة مركزية فى جنوب لبنان، فإن التهجير من غزة أو الضفة الغربية سيكون قسريًا ليس فقط على الفلسطينيين الذين يتعرّضون للإجلاء، بل أيضًا على حكومتَى مصر والأردن السياديتَين وقواتهما المسلحة المنتشرة على طول الحدود.

 

فمن دون الحصول على موافقة مسبقة من هذَين البلدَين، قد يرقى التهجير القسرى لأعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى أراضيهما إلى مصاف إعلانٍ للحرب وهو ما زاد من حدة التوتر بين مصر والاحتلال الصهيونى بل وإلى قد لم تشهده الدولتان منذ توقيع اتفاق السلام بينهما. يُشار أيضًا إلى أن الإدارة الأمريكية أبدت معارضتها الصريحة لتهجير الفلسطينيين من غزة، رغم موقفها العملى المعارض مع تصريحاتها السياسية ناهيك عن إعادة توطينهم فى مصر أو مكان آخر – ولا شكّ أنها ستعارض أيضًا الأمر إذا تحوّل التركيز إلى الضفة الغربية والأردن.

هنا يجب أن نرى أن التأثير سيكون مختلفًا لكلٍّ من مصر والأردن فى حال ضغطت الآلة العسكرية الصهيونية على الفلسطينيين لإجبارها على الفرار نجاة بحياتهم، ويُعزى ذلك بشكل أساسى إلى أن مصر تتمتّع بما يمكن اعتباره عمقًا استراتيجيًا يتمثّل بشبه جزيرة سيناء. بتعبير آخر، فى حال طُرد الفلسطينيون، أو فى حال – وأضع هذه العبارة بين مزدوجَين - «انتقلوا طوعًا» إلى الأردن، فهم لن يستطيعوا فعليًا البقاء فى غور الأردن، بل يُرجَّح أن ينتقلوا إلى المدن، ولا سيما أن لديهم أقارب هناك. وهذا التأثير تحديدًا سيُلاحَظ فورًا. فإلى جانب وقعه الاقتصادى، من المُحتمَل أن يزعزِع أيضًا استقرار الأردن بشكل كبير.

أما الوضع فى مصر فسيكون مختلفًا، لأنها لم تضمّ فى السابق أعدادًا كبيرة من السكان الفلسطينيين. ولا أحد يستطيع الآن أن يقول القول إن سيناء خالية – فمن البديهى أنّ لديها سكانها المحليين إضافة إلى خطة مصرية شاملة لإعمار سيناء وتوطين ما يزيد على 3 ملايين من المواطنين المصريين فيها – لكن ما يراه الاحتلال والولايات المتحدة يختلف عن الرؤية المصرية فهم يؤمنون أن سيناء ستظل بها مساحات كبير فارغة؛ وبالتالى، إذا استطاعت مصر، اقتصاديًا، الاعتناء بهؤلاء الوافدين، ربما من خلال الحصول على مساعدة خارجية، فقد تتمكّن من استضافة السكان فى مخيمات لفترة من دون أن يزعزِع ذلك استقرارها الاقتصادى أو حتى السياسى. لكن يبدو واضحًا أن مصر لن تقبل بالمرة هذا السيناريو؛ فهى لا تودّ أن يحدث ذلك إطلاقًا لأنها فى النهاية لا تريد أن تكون مسئولةً عن تسهيل حدوث نكبة ثانية، وبالطبع لا يرغب الأردن فى ذلك أيضًا، لذا سيواجه هذا السيناريو مقاومة صلبة.

إذًا، نظرًا إلى نوع التهديدات والتحديات التى قد يطرحها النقل أو التهجير الجماعى للفلسطينيين إلى مصر أو الأردن على هذَين البلدَين، ما الخيارات المتاحة أمام الحكومتَين للحول دون تهجير عددٍ كبير من الفلسطينيين إلى أراضيهما؟، بمعنى فى حال فشلت المساعى الدبلوماسية الاستباقية فى مرحلة محدّدة، واضطرّت مصر والأردن إلى مواجهة هذا السيناريو، فما الذى بإمكانهما فعله؟ هل لديهما وسائل مناسبة لمنع الدخول إلى أراضيهما عمليًا؟ وهل من الواقعى التفكير بأن الحكومة المصرية أو الأردنية قد تعزّز انتشارها العسكرى على طول الحدود المشتركة مع إسرائيل، أو مع الأراضى الفلسطينية المحتلّة الخاضعة لسيطرة إسرائيل فى حالتَى غزة والضفة الغربية، فى محاولةٍ لردع إسرائيل عن الإقدام على خطوة كهذه؟

ونظرًا إلى القيود التى تضعها معاهدتا السلام المصرية والأردنية مع إسرائيل للحدّ من الانتشار العسكرى على الحدود، هل سيتمكّنان من زيادة حضورهما العسكرى على طول الحدود إلى مستوى مقنِع، متجاوزَين ربما المستوى المحدّد، وذلك بسبب الظروف الاستثنائية؟ بتعبيرٍ آخر، هل سيُسمح لهما بذلك، ضمن القيود التى تنصّ عليها هاتان المعاهدتان والمعايير الدبلوماسية؟ ماذا يمكن أن تفعله الجهود الدبلوماسية المصرية والأردنية لمنع حدوث هذا السيناريو من أساسه، أو لاحتوائه إذا كُتب له أن يتحقّق؟

يجدر التذكير هنا بأن آخر ما سمعناه من المصادر الإسرائيلية هو توقّعها بأن تستمر العمليات العسكرية فى غزة لعامٍ على الأقل. لذا، بصرف النظر عمّا نعتقد أنه يشكّل الخطوط الحمر اليوم، يمكن اعتبار أن الالتزام بالحفاظ على معاهدة السلام قد يتداعى، حتمًا فى أوساط الإسرائيليين الذين يدعون إلى التهجير الجماعى بحق الفلسطينيين. إذًا، ما الخيارات المتاحة فعليًا أمام مصر والأردن، سواء عبر المسار الدبلوماسى، أو عبر الردع العسكرى، أو أى وسيلة أخرى؟ كيف بإمكانهما أن يحاولا استباق هذا السيناريو أو منع حدوثه؟

النقطة الأخرى هى أن الفلسطينيين اليوم ليسوا فلسطينيى العام 1948، ويدركون تمامًا أنهم إذا خرجوا من أرضهم فلن يعودوا إليها. وقد أبدى سكان غزة حتى الآن صمودًا جديرًا بالثناء، وعلى الرغم من كل التحديات ومن حصيلة القتلى، نقف الآن ونحن نشاهد قرابة مليون ونصف المليون فلسطينى يقفون على مقربة من الحدود المصرية وتحديدا فى مدينة رفح الفلسطينية. أصبحت مسألة التهجير الجماعى أمام أعيُن المجتمع الدولى، فيما لم تكن كذلك قبل فترة وجيزة. لذا، أعتقد أن الأردن ومصر ودولًا أخرى نجحت فى الإشارة إلى المخاطر المُحدقة، حتى أن الإدارة الأمريكية نفسها أبدت علنًا موقفها المعارض للتهجير الجماعى للفلسطينيين. غير أن قرار منع التهجير والإصرار على ضرورة إبقاء الحدود مغلقة. يحظى بالشعبية. ولا يُنظر إلى هذا الموقف على أنه غير مراعٍ لمعاناة الفلسطينيين، بل هو موقف يمنع إسرائيل من محاولة تفريع الأراضى الفلسطينية من سكانها.

إذا أُطلق العنان لإسرائيل وواصلت حملتها العسكرية خاصة فى رفح الفلسطينية؛ يطرح ذلك معضلة لمصر: فعدم القبول بدخول الفلسطينيين إلى أراضيها أمرٌ يحظى بدعم عربى واسع النطاق، وأيضًا بدعم دولى، ويبدو واضحًا أن مصر لا تريد حدوث ذلك. لكن فى الوقت نفسه، لن يكون مقبولًا فى نظر الرأى العام الدولى، بما فى ذلك فى العالم العربى، أن تمنع مصر أعدادًا كبيرة من الأشخاص اليائسين من دخول أراضيها، مثلًا من خلال نشر الجنود وإطلاق النار عليهم كما يحاول أن يشير بعض السياسيين الأمريكيين والأوروبيين وهو ما لن تقوم به مصر، وبجانب عدم واقعية هذا الطرح.فإنه ليس السيناريو الأكثر ترجيحًا، لأن لدينا الجانب الدبلوماسى من المسألة. أولًا، نرى أن الولايات المتحدة أعربت عن رفضها للتهجير، لكننا لا نعرف كم سيكون هذا الرفض قاطعًا عندما يحين وقت الحسم، وقد رأينا أن الدول العربية رسمت أيضًا هذا الخط الأحمر نفسه. إذًا، وُجِّه إخطار إلى إسرائيل بعدم الإقدام على ذلك، لكن هذا لا يعنى أنها لن تحاول.

ففى نهاية الأمر يستند ذلك إلى تحليل التكلفة والفائدة. ويُحتمل أن يرى نتانياهو أن معاهدة السلام مع مصر، أو حتى معاهدة السلام مع الأردن، لم تعد تستحقّ عناء الحفاظ عليها، ذلك أنها ماضية فى توقيع معاهدات سلام مع دول الخليج. وهى فعليًا تتجاوز الأردن ومصر اللذَين يجمعها معهما سلامٌ بارد منذ عقود. إلا أن المعارضة الصهيونية ترى أن خرق المعاهدة مع مصر هى الخطر الأكبر حتى وإن حظى الاحتلال بقبول خليجى نوعى خاصة فى ظل بيان الخارجية السعودية الذى أوضح عدم المضى قدمًا فى مباحثات حول التطبيع إلا بعد القبول بحل الدولتين.

لذا فإن العبء لن يقع على الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية فحسب، بل أيضًا على حكومات دول الخليج، إذ عليها تحذير إسرائيل من أن هذا الأمر يشكّل خطًّا أحمر. فمن الواضح أن تداعيات التدفّق الجماعى للأشخاص إلى مصر أو الأردن ستكون ضخمة حتى فى دول الخليج، لأن مصر والأردن لا يستطيعان سياسيًا أو اقتصاديًا تحمّل هذا التدفّق البشرى. وفى حال تزعزَع استقرارهما، سيؤدّى ذلك إلى تأثير دومينو [بمعنى أن زعزعة استقرار مصر والأردن سيؤدّى إلى سلسلة اضطرابات فى عددٍ من الدول الأخرى]. وتمامًا كما تخوّفت دول الخليج من الانتفاضة الشعبية التى شهدتها مصر فى العام 2011، ستخشى أيضًا من أى حدثٍ من شأنه أن يزعزع بشكل كبير أركان النظام المصرى، لأن ذلك سيؤثّر عليها وبشدة. 

ما قد يحصل بعد عام أو يزيد قليلًا، أن الحكومة الإسرائيلية الراهنة لن تبقى فى السلطة. ويمكننا أن نفترض أن حكومة صهيونية مختلفة لن تُظهر مرونة أكبر حيال عملية السلام، لكنها على الأقل لن تضمّ وزراء اليمين المتطرّف الموجودين اليوم أنفسهم. فبحسب استطلاعات الرأى، قد لا يحصل سموتريتش حتى على الأصوات الكافية ليكون عضوًا فى الكنيست التالى. وهذا الأمر سيحرم إسرائيل على الأقل من الذريعة اللازمة لتنفيذ عملية التهجير الجماعى للفلسطينيين، أقلّه على المدى القصير، فى حال تولّى حكومة إسرائيلية مختلفة زمام السلطة.

أما فى حال فوز بايدن فى الانتخابات وإطلاق عملية السلام، ستكون هذه العملية مشابهة لعمليات السلام السابقة – أى مفتوحة، وخالية من أى تصوّر لإنهاء النزاع، أو حتى من تعريفٍ لنهاية الصراع. نعرف جميعًا ما كانت مآلات ذلك فى الماضى. لذلك سنشهد استمرارًا لأعمال العنف، واستمرارًا للمقاومة المسلّحة فى الضفة الغربية أيضًا، وليس فقط فى غزة. فلا يجب أن ننسى أن المقاومة المسلّحة فى الضفة الغربية بدأت قبل عام تقريبًا من أحداث غزة، أى قبل 7 أكتوبر، بما قد نستطيع تسميته انتفاضة ثالثة، حين حمل شباب فلسطينيون السلاح وراحوا يقاتلون، من دون قيادة أو أمل بتسوية سياسية. وهذا ما ينذر بأننا سنبقى فى هذه المرحلة لفترة من الزمن، إلى أن يبدأ العامل الديموغرافى بالتأثير فى المعادلة بشكل واضح خاصة أن لدينا ثمة 7 ملايين فلسطينى ويزيد اليوم، ويبدو جليًّا أنهم سيصبحون غالبية واضحة للغاية فى غضون عشر سنوات أو عشرين سنة. هم يشكّلون أساسًا غالبية طفيفة اليوم، دون تشاؤم؛ لن نشهد تسوية سياسية فى وقت قريب، أما عوامل الوقت إضافة إلى استمرار الصلابة فى الموقف المصرى تحديدا من شأنها أن تخلق واقعًا أكثر اختلافًا قد يفوق حل الدولتين.