الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
عبدالناصر.. الزعامة والخطايا والطريق!

عبدالناصر.. الزعامة والخطايا والطريق!

لست من هواة «تقديس» الزعماء، والصلاة فى محراب أعمالهم وأفكارهم ورؤاهم، فهم بشر يصنعون الصواب ويرتكبون الأخطاء، ولم يحدث فى تاريخ البشر، أن عرفوا زعيمًا أو رئيسًا أو حاكمًا لم يقع فى أخطاء، بعضها بسيط وبعضها فادح لكن أسوأ الحكام من يتصورون فى أنفسهم إمكانات لا يتمتعون بها، ويتعاملون مع أفكارهم وقراراتهم كما لو أنها «أحكام قادمة من السماء»، لا يأتيها الباطل أبدًا، فيتسببون فى كوارث تصيب بلادهم، وأفضل الحكام من يعترفون بأخطائهم ويعملون بكل تواضع على تصويبها ويعدلون مسارات قراراتهم ليصلوا ببلادهم إلى محطة السلامة.



أى لا تصلح المشاعر والأحكام العاطفية مطلقًا فى تقييم الأعمال السياسية وكتابة تاريخ الزعماء والحكام. قد أحب محمد على باشا والى مصر الكبير، وأقف كثيرًا أمام مشروعه الحضارى متحسرًا على توقفه دون أن يستكمل نقل مصر من مستنقع القرون الوسطى إلى عصرها الحديث، ويطلق عقلى سهام الأسئلة المستحيلة: ماذا لو كان نجح فى هذه المهمة الصعبة؟، كيف كان يمكن أن تتطور أحوال المصريين ومكانة مصر فى العالم؟، ما الذى أصابه فانحرف عن مسار التقدم فى منتصفه إلى الطمع فى أراضى الإمبراطورية العثمانية؟.

وقد أحب حفيده إسماعيل باشا، هذا الخديوى الذى حلم أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، دون أن يدرك أن الطريق إلى أوروبا يصنعه العقل لا المبانى، عقل حر يعمل بالتفكير العلمى المنظم، وقادر على تنظيف صدأ قرون التخلف، وإدارة الحياة من حوله بكفاءة عالية، فأسرف فى المبانى وتوسع فى «نهضة مادية» بالقناطر والترع والرياحين والعمارة الأوروبية دون بناء العقل، فأغرق مصر فى لجة ديون ابتلعت استقلالها وفرص نهضتها، لتظل تدور فى متاهات عصرها دون أن تدخله دخولًا صحيحًا، متأرجحة بين واقعها وحلمها، وكلما أَمسكتْ بأول الخيط، تنكفئ، ويظل مفكروها وكتابها يبكون على أطلال التقدم الذى لم يحدث، ويكتبون وصفات وخرائط طريق، لا تمضى فيها!

وقد أحب جمال عبدالناصر، الذى أدرك أن «المصريين» يستحقون حياة أفضل، وأن لا سبيل إلى التقدم إلا بإنقاذ غالبيتهم من قاع الحياة إلى ضفافها، فأتاح لمزارعيهم ملكية أرض زراعية لأول مرة فى تاريخهم، وأنصف عمالهم، وفتح أبواب التعليم أمام أبنائهم، وبدأ تصنيعًا جديدًا، لكنه أهمل أمرين:

الأول: أن النظام العالمى الذى تشكل مع نهاية الحرب العالمية الثانية لن يسمح له بأن يكون لاعبًا دوليًا مؤثرًا لفترة طويلة، حتى لا يخل بمراكز القوى فى العالم ومسارات الحركة فيه، فورطته القوى العظمى وحلفاؤها المحليون فى صراعات شرقًا وغربًا فى إقليم، تاريخ الخيانات فيه أكثر من تاريخ النزاهة، فاندفع إلى هذه الصراعات دون حسابات دقيقة، تحت وهج الزعامة التى تمتع بها، فوقعت هزيمة 1967، التى أغلقت الطريق أمام الحلم، نفس خطأ محمد على لكن بتفاصيل مختلفة!

الثاني: لم يؤسس نظامًا عامًا متكاملًا مختلفًا عما سبقه فى إدارة حياة المصريين، والنظام العام غير العدالة الاجتماعية التى عمل عليها، النظام العام هو مجموعة القوانين والقواعد والأساليب والإجراءات التى تدير أنشطة الحياة فى كل جنباتها، من الحب إلى الحرب، من الهزل إلى الجد، من العمل إلى الترفيه، فظل النظام القديم بكل مثالبه حاكمًا، وكانت الواسطة والمحسوبية والاستثناءات والامتيازات والتسلط أخطر عناصره السيئة، باختصار لم ينسف هذا النظام، الذى تضاعفت أعراضه المرضية بعد وفاته، ومنها «قاعدة جهنمية» تبدد الطاقة وهى العمل بمنهج «المكأفاة قبل الكفاءة»، والذى يعرفه المصريون بـ (أهل الثقة وأهل الخبرة)، حتى تراجعت كفاءات عظيمة إلى الصفوف الخلفية، وتوسعت ظاهرة القيادات ذات الأداء المتوسط، فكان مستحيلًا أن تخرج مصر من شرنقة الواقع المأزوم!

وحين تحل ذكرى ميلاد عبدالناصر فى يناير من كل عام، تنشب المعركة التقليدية بين مريديه وخصومه، كأنها «حدث تاريخي» لا يتوقف، أو كأن واقع المصريين تجمد عند الرجل الكبير، وأن ما  جاء بعده هو مجرد «توابع» متصلة.

أى يعزل خصوم عبدالناصر عصره عن «مسار» التاريخ المصرى، يستفردون به، «وهات تشويهًا وتلقيحًا»، حتى أن المرء يظن أن مصر الملكية كانت دولة عظمى، ديمقراطية ورخاءً ونعيمًا، لا فقر لا جهل لا مرض، لا حفاة، لا عراة، وأن ما كتبه مثلًا توفيق الحكيم أو طه حسين وغيرهما عن أحوال البلاد والعباد وقتها، كان من وحى الخيال وليس وصفًا لواقع عاشوه، ثم جاء عبدالناصر ليطمس هذا النعيم المقيم، ويقذف بمصر والمصريين فى الهاوية، استبداد وأزمات فى الزراعة والإسكان والتعليم والصحة.. إلخ، وهذا كذب وقح لا يمت للمعرفة والعلم بأى صلة، وكلها انتقادات أعداء كارهين، تشبه «خناقات الشوارع» فى العشوائيات، والأكثر دهشة أن بعضًا من المشتبكين فيها «متعلمون» جدًا، بعضهم ما كان يمكن أن يصلوا إلى مناصبهم ومراكزهم ومعيشتهم لولا ما صنعه جمال عبدالناصر من تقليب  فى تربة المجتمع المصرى، ليأخذ بأيدى العائشين فى أسفله ويرفع رؤوسهم المحنية ليطلوا على  قرص الشمس.

وقبل أيام قرأت كتاب الصديق الكاتب محمد الشافعى، «عبدالناصر حقائق وأباطيل»، قد يكون أقوى وثيقة دفاع أمام  محكمة الرأى العام، دفاع مكتوب بحب وشغف، وقبلهما بصدق شديد، وحاول أن يكون موضوعيًا، فهو حسب تعبيراته، لا يتحدث عن نصف إله أو نبى أو قديس، لكننا نتحدث عن إنسان، اجتهد بإخلاص شديد، أصاب كثيرًا وأخفق قليلًا.

ويلجأ محمد الشافعى إلى تفكيك «قذائف الحرب» على جمال عبدالناصر وإعادة تركيبها، كاشفًا أنها قذائف فاسدة، مع أن مستخدميها لا يكفون عن إطلاقها..منها ما قيل عن قانون الإصلاح الزراعى وتفتيت الأرض الزراعية، فيرد بالحقائق والوثائق..

1 - أقل من 1 % من المصريين كانوا يملكون 37 % من أرضها الزراعية.

2 - وزع عبدالناصر 800 ألف فدان على 180 أسرة، عدد أفرادها يقترب من مليون نسمة، دفعت الدولة ثمنها بسعر السوق لأصحابها، ثم سدد الملاك الجدد هذا الثمن للحكومة بالتقسيط على ثلاثين سنة.

3 - ألزم القانون الفلاح بالدورة الزراعية، فلا يزرع أرضه على مزاجه، ولم تلغ الدورة الزراعية إلا بضغوط من أمريكا وصندوق النقد الدولى فى منتصف الثمانينيات، فظهرت آفة التفتيت.

4 - فى عام 1969 وصل إنتاج مصر من القطن عشرة ملايين وثمانمائة ألف قنطار هو الأعلى فى تاريخ الزراعة المصرية، فى نفس العام زرعت مصر أكثر من مليون فدان بالأرز.

ويمضى محمد الشافعى على هذا الدرب إلى نهايته، فى قضايا كثيرة: ثروة العائلة المالكة واتهام ضباط يوليو بنهبها، واستقلال السودان عن مصر ودور عبدالناصر، أزمة 1954 والصراع مع محمد نجيب، حرب اليمن وما حدث فيها، ثورة يوليو وأكذوبة الدعم الأمريكى لها، عداوة اليهود، الصراع مع الإخوان، عصر المعتقلات، اقتصاد الفقر أم تنمية حقيقية، مذبحة القضاء، الديكتاتور، هزيمة 1967.

باختصار لم يترك محمد الشافعى شاردة ولا واردة، وكل ما مرت به مصر منذ صبيحة 23 يوليو 1952 إلى 28 سبتمبر 1970 يوم وفاة  عبدالناصر، دون أن يحللها ويفند ظروفها ويسرد فيها أحيانًا شهادات من أشرس خصومه، أو يفصل أسبابها ويبين حجية القرارات التى دارات حولها، معتمدًا على 58 مرجعًا عربيًا وأجنبيًا، منها ثلاث حوارات مع شخصيات بارزة كانت على علاقة مباشرة بعصر عبدالناصر ومنحازة له.

والسؤال الذى قد يلح على ذهن القارئ: ما الذى دفعنا إلى هذه العودة التاريخية؟، ألا يشغلنا الحاضر بأزماته والمستقبل بطموحاته؟

كلام منطقى، لكنه يغفل أمرًا مهمًا، أن التاريخ إذا وقفت دراسته على أعتاب الماضى فقط، فهو نوع من الفراغ، ولكن التاريخ  فى جوهره تجارب لها رؤى وأسباب وظروف يمكن أن نستخلص منها «قواعد» ودورب. وأتصور أن تجارب الرجال الثلاثة أو مشروعاتهم الحضارية التى لم تستكمل: محمد على باشا، والخديوى إسماعيل وجمال عبدالناصر، تصلح أن تكون فنارات تضيء لنا سبل الفوز بالسباق الحضارى، صحيح أن العصر غير العصر، والمعارف غير المعارف، والحياة ليست تجارب معادة بالكربون، وإلا ما تقدمت البشرية أبدًا وظلت أسيرة ماضيها، لكن التطور عبارة عن حلقات متصلة، كل حلقة فيها «أسباب» وجود الحلقة التالية.

باختصار هذه المشروعات التى لم تستكمل بإيجابياتها هى كثيرة وسلبياتها وهى كثيرة أيضًا فيها «سر الخلطة»، خاصة تجربة عبدالناصر التى وضعت «المصرى البسيط» فى بؤرة اهتماماتها، والدول تنهض بالتيار العام فيها من مواطنيها وليس بشريحة أو تيار صغير منهم مهما كانت إمكاناتهم.