الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

النسوية الإسلامية من الجب.. إلى السجن.. إلى القصر: امرأة العزيز.. من الإغواء للاعتراف بالحق! "83"

يرى البعضُ أن تعاليم الإسلام تنظر للأنثى نظرة دونية مقارنة بالذكر، وهى رؤية تأسَّست على فهم غير صحيح لآيات قرآنية، مثل قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخـرف 19، (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) الطور 39، (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى) النجم 21.



 

سورة  يوسف فى القرآن الكريم، تحكى قصة النبى يوسف عليه السلام، بداية من الرؤيا التى رأى فيها وهو طفل أن أحد عشر كوكبًا مع الشمس والقمر يسجدون له وحكاها لأبيه النبى يعقوب عليه السلام.

وفهم الأب أن يوسف سيكون النبى من بين إخوته، ولذلك أوصاه ألا يحكى الرؤيا لهم خوفًا من أن يحقدوا عليه: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ) يوسف 4. وازداد اهتمام الأب بيوسف ليؤهله للنبوة، نتج عن ذلك تآمر إخوة يوسف عليه وإلقاؤه فى البئر، ثم تنتشله قافلة لتبيعه إلى عزيز مصر، ويتعرض يوسف فى شبابه لمؤامرة أخرى من امرأة العزيز ونساء المدينة، تنتهى بدخوله السجن مظلومًا.

سارت أحداث قصة يوسف متتابعة، تبدأ بالحلم، ثم تآمر إخوته عليه، إلى بيعه عبدًا إلى عزيز مصر، وإغراء امرأة العزيز له، ثم سجنه ظلمًا، وخروجه من السجن ليتولى منصب عزيز مصر، واستقدامه لأهله.

وفى ذلك التتابع القصصى تتعدد النماذج الإنسانية، مع تعدد الأماكن بين الشام ومصر، وتعدد المراحل الزمنية من طفولة يوسف إلى كهولته، ومن الطفل الصغير الذى يلقيه إخوته فى الجب، إلى عزيز مصر الذى يلجأ له إخوته ليطعمهم، واختلاف المواقع من الجب إلى بيت العزيز، ومن السجن إلى قصر الملك.

 مدخل:

فى القرآن الكريم تأتى كلمة امرأة مكتوبة بالتاء المفتوحة: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ..) يوسف 30، عند إضافتها لزوجها وتعنى امرأة محددة، وتكتب كلمة امرأة بالتاء المقفولة: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً..) الأحزاب 50، بعدم إضافتها لزوج وتعنى أى امرأة.

وحسب الروايات أن امرأة العزيز اسمها «راعيل»، ولقبها زُليخة، وكانت مشهورة بجمالها وتكبرها، وهى زوجة «بوتيفار» عزيز مصر، وهو رئيس الوزراء على عهد الملك «أمنحوتب الثالث»، وجاء الكلام عنه وعن زوجته فى القرآن الكريم بدون أن يذكر اسمهما، وذلك وقت قدوم النبى يوسف عليه السلام إلى مصر، وما جاء فى الروايات لم يقل به القرآن باعتباره غير مؤثر فى العبرة من القصة.

 مشهد 1 المراودة:

وتبدأ قصة زليخة مع شراء العزيز ليوسف: (وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا..) يوسف 21، وقد رأى يوسف فى امرأة العزيز أمًا بديلة، ولكن المرأة وجدته يكبر شابًا وسيمًا فرأت فيه الرجل ولم تر فيه الابن.

وحاولت زليخة بالترغيب والترهيب، وبالإغراء والتهديد أن تنال رغبتها من يوسف: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ..) يوسف23، وتأتى كلمة (وَرَاوَدَتْهُ) تعبيرًا عن رغبتها فيه ومحاولتها المتكررة فى التحايل عليه وطلبها المستمر له، وانتهت إلى إغلاق الأبواب لتصارحه بأنها استعدت للقائه، وكان رده عليها صادمًا لها حين استعاذ بالله من فعل الفحشاء وخيانة الرجل الذى رباه، فكان سلاحه عليه السلام التمسك بالعفة والأمانة فى المعركة القائمة بين إيمانه وعقله ضد شهوتها ورغبتها.

ومع أن الزوج كان يعتبر سيدًا لامرأته، إلا أنه حين ضبط العزيز زوجته وهى تقوم بإغراء يوسف فإنها لم ترتبك، بل سارعت بالاتهام بدون تحديد اسم يوسف مبالغة فى الترهيب، وحتى يفهم يوسف أن أمره بيدها، ثم سارعت بالحكم: (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يوسف 25، ولأنها تحب يوسف فإنها لم تطلب قتله وإنما طلبت سجنه أو عذابه لتنتقم لكرامتها.

ويأتى الشاهد من أقاربها: (.. وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا..) يوسف 26، وتم وصفه بالشاهد مع أنه لم يشهد شيئًا ولكنه جاء للحكم، فمكانة امرأة العزيز أكبر من أن يأتى قاض ليحكم فى أمر يخصها، ويتبين للشاهد بالدليل براءة يوسف، وتم لفت انتباه يوسف بنسيان الأمر ومعاقبة الزوجة بالوعظ، وبعد كل ما حدث فلم يفصل الزوج بين زوجته وبين يوسف.

 مشهد 2 المتكأ:

ثم تسربت أنباء الحادثة وأصبحت حكاية تتناقلها النساء فى مجالس النميمة عن امرأة العزيز: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ) يوسف 30.

ويبدو أن رأيهن جاء تعبيرًا عن الاعتراض على سوء أخلاقها، ولكنه فى الحقيقة جاء تعبيرًا عن الاعتراض على افتتان امرأة العزيز بخادمها وتدنيها فى السعى وراءه، لذلك تم وصف اعتراض النساء بأنه مكر: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ..) يوسف 31، وأرادت زليخة أن ترد مكرهن بمكر أشد لأنها تعرف حقيقة أخلاقهن، فقامت بدعوة النساء إلى وليمة تفتنهن فيها بجمال يوسف: (.. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) يوسف 31.

وقطع أيديهن لا يعنى بالضرورة جرح أو قطع أجزاء من الأيدى، فليس من معانى القطع فى اللغة الجرح أو البتر فقط، بل يحتمل المعنى أن كل واحدة منعت عنه يد الأخرى التى امتدت لتسبقها إليه، وذلك بتهديد بعضهن لبعض بالسكاكين، بحيث منعت يد كل واحدة منهن يد الأخرى من أن تمتد إليه وحدها، فمثلًا يقال قطعت يده عن العمل أى أبعدته فلم يعد له عمل فيه، وليس بمعنى فصلت يده عن جسمه.

وبعد كشفها لضعفهن: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ) يوسف 32، تعلن أنها راودته عن نفسه فرفض، وهددت بسجنه وانضم إليها فى هذا التهديد باقى النساء، واختار النبى يوسف السجن لينجو منهن: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) يوسف 33، وحتى لا يميل إليهن ويفعل ما يفعله الجهلاء.

 مشهد 3 الاعتراف:

وقد بلغ الملك أمر النبى يوسف وتفسيره للأحلام وهو فى السجن، وذلك بعد أن رأى الملك حلمًا لم يجد له تفسيرًا مع اعتقاده بأهمية ذلك الحلم، فطلبه الملك، ورفض النبى يوسف الخروج من السجن، إلا بعد أن تثبت براءته باعتراف النساء بما فعلنه به أمام الملك: (..قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) يوسف 50، ولم يكشف حقيقة الأمر للملك، واكتفى بالإشارة إلى كيدهن وتقطيع أيديهن.

والتعبير عن كيد النساء جاء مرتين، الأولى على لسان الشاهد: (..إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) يوسف 28، وهو تعبير عن موقف محدد وليس تقريرًا من الله تعالى عن المرأة، والثانية على لسان النبى يوسف: (..إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) يوسف 50، فى إشارة للملك للتحقيق فى حادثة مؤامرة النساء، ولا يعبر عن حقيقة ثابتة خاصة بالمرأة.

وأمام الملك اعترفن بأن ما يعرفنه عن يوسف هو رفضه للفحشاء: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ..) يوسف 51.

واعترفت زليخة بأن الحقيقة سوف تظهر، وأنها هى التى حاولت إغراءه، وأنها ترجو مغفرة ورحمة الله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَحِيمٌ) يوسف 53، والتحول فى حالها سببه الإيمان بالله تعالى.

وتمثل زليخة نموذجًا للمرأة المشغولة برغباتها والتى فتنها يوسف بجماله فحاولت إغراءه بأنوثتها، إلا أنها تمتلك شجاعة الاعتراف بالحق على ما قدمت من ذنوب وقامت بتبرئة يوسف، وتحولت من الانشغال بالرغبات إلى الإخلاص فى الإيمان.

العبرة من القصة:

والقصة مملوءة بالمشاعر والمواقف الإنسانية، وتجعل كلًا منا يرى نفسه وغيره فيها، سواء كان مؤمنًا، أو حاكمًا، أو امرأة عاشقة، أو والدًا فقد ابنه، أو مسجونًا مظلومًا، أو أخًا حاسدًا لأخيه، وتتحول الشخصيات التاريخية إلى شخصيات إنسانية حية تعيش معنا ونتعامل معها.

فالمشاعر الإنسانية والصراعات النفسية تجعل قصة النبى يوسف قابلة لتكرار أحداثها فى كل زمان ومكان، وفى قوله تعالى: (..وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ..) يوسف21، حدث ذلك مرتين، عندما خرج من الجب إلى بيت عزيز مصر، وتتكرر نفس العبارة فى الآية 56، عندما خرج من السجن ليصبح حاكمًا لمصر، وفى المرتين تكون العبرة فى تعرضه للمحنة وصبره، فيكون جزاؤه التمكين فى الأرض.

وتتشابه المواقف فى حياة النبى يوسف، إخوته ألقوا به فى الجب، والمصريون ألقوا به فى السجن، وكان الحلم الأول مقدمة للمتاعب من إخوته، وكانت أحلام الساقى والخباز والملك مقدمة لخلاصه من المتاعب. والتأكيد على العبرة بسبب تتابع الأحداث، فيتم التنبيه على أن القصة ليست للتسلية وإنما للعظة والتعلم، وفى ختام السورة يؤكد تعالى على العبرة: (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِى الأَلْبَابِ) يوسف 111، ولعل ذلك من أسباب ذكر أحداث سيرة النبى يوسف عليه السلام مرة واحدة فقط فى سورة كاملة تحمل اسمه.