الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مصر والمستقبل وثلاثة تحديات صعبة

مصر والمستقبل وثلاثة تحديات صعبة

ماذا لو أفردنا خريطة العالم ودققنا فيها النظر وسألنا أنفسنا أو حتى سألنا مواطنًا عاديًا من جنوب القارة الإفريقية أو فى وسط آسيا، أو على حواف قارة أمريكا اللاتينية أو من غرب أوروبا: ما هى أكثر المناطق توترًا واشتعالًا؟



لن تجد إجابات حائرة أو قلقة أو ضائعة، وسوف يقولون فى نفس واحد: منطقة الشرق الأوسط، ربما يتردد المواطن الأوروبى هُنيهَة، ويفكر فى الحرب الروسية الأوكرانية وهى تكمل عامها الثاني، ثم يندفع قائلاً: قطعًا الشرق الأوسط!

دعك من كل مواطنى العالم، فالسؤال القادم خاص بالمصريين فقط فى مشارق الأرض ومغاربها، رسميين وعاديين، مؤيدين ومعارضين، حزبيين ومستقلين، عاملين أو عاطلين: ما هى أكثر دولة فى العالم تحيطها قلاقل وصراعات؟

لا تندهشوا.. نعم مصر فى مركز دائرة مشتعلة بالصراعات والتوترات والرصاص، جنوبًا السودان وإثيوبيا، شرقًا إسرائيل وفلسطين, وغربًا ليبيا وأكثر من 20 ألف مرتزق!، ولا يبقى لها إلا البحر المتوسط شمالًا شبه هادئ، وإن كان الأسطول السادس الأمريكى قد حل يراقب المنطقة عن كثب.. بينما أغلب حدود دول العالم مستقرة أو قريبة من خطر وحيد شبه محتمل!

لكن أكثر الأخطار التى دنت من حدودها ما حدث بعد 7 أكتوبر وهجمات المقاومة الفلسطينية على إسرائيل، وهى الهجمات التى أحيت قضية كانت على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة ، أو بمعنى أصح ودعها العالم كسيحة نائمة فى غيبوبة على أجهزة تنفس صناعى وأغلق عليها أسوار الاحتلال الإسرائيلي، فقد وجدت مصر نفسها فى «قلب الحدث»، ليس بسبب العلاقات التقليدية التاريخية الوثيقة بفلسطين، ولكن من جراء ضغوط أمريكية أوروبية غاشمة وغير إنسانية، لكى تفتح معبرها أمام تهجير قسرى للفلسطينيين إليها، إذ شنت إسرائيل حرب إبادة باسم تصفية حماس، وهى لافتة كاذبة، فحماس مهما كان رأينا فيها، بسبب مواقفها السابقة مع مصر، هى فكرة تنتمى لتراث إنسانى فى مقاومة المحتل، وإذا انتهت منظمة حماس أو اختفت، فلن تموت معها فكرة الكفاح المسلح ضد الاحتلال.

كانت حرب الإبادة هدفها الأول والأخير هو دفع أهالى غزة إلى سيناء ملاذًا إجباريًا من الموت، قصفًا، أو جوعًا أو عطشًا أو فزعًا.

لكن الهدف ولد ميتًا، فالإسرائيليون وحلفاؤهم لم يفهموا لا شخصية مصر، ولا السمات التى اكتسبتها شخصية الفلسطينيين، بفعل جرائم ضد الإنسانية ارتكبتها إسرائيل ضدهم بدعم أعمى من الولايات المتحدة وبريطانيا.

1 - مصر لن تقبل تصفية القضية الفلسطينية بأى شكل من الأشكال، ووضعت عليها ألف خط أحمر، فلا يمكن أن تضحى بكل ما قامت به منذ 1948 وتخون نفسها وتلقى 75 عامًا من تاريخها فى الوحل، مصر وطن حضاري، تحت جلد شعبها جينات متوارثة من آلاف السنين، والحضارة وعى عام ممتد وليس لقطة مخطوفة من التاريخ، وتصدت مصر كما اعتادت لكل الضغوط ومحاولات ابتزازها بأزمتها الاقتصادية الحالية، وهى محاولات فيها جهل وحماقة وصفاقة.

2 - الفلسطينيون الحاليون استوعبوا تجارب أجدادهم البسطاء الذين أجبروا قهرًا على ترك ديارهم، بمجازر وعمليات قتل واغتصاب منظمة من عصابات مدربة قادها عسكريون حاربوا فى الفيلق اليهودى مع الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، وأصبح الفلسطينيون الحاليون مثل أبطال الأساطير الإغريقية، لم تذبهم نار المتفجرات والرصاص، وإنما صهرت سماتهم وصفاتهم ونقت فيها أشد عناصر الصمود والتحدي، وهو ما أذهل العالم وهو يتابعهم يتعرضون لقصف وحشي، سبعة أسابيع دون نزوح، ألقيت عليهم فيها ما يزيد على 40 ألف طن من المتفجرات، فسالت دماؤهم لتعمق جذورهم فى الأرض المضطهدة!

وما زالت القضية معلقة.. والخاتمة لم تكتب بعد، وتظل الحدود المصرية الشرقية هى الأكثر التهابًا وخطرًا، وهنا تفرض علينا هذه الحرب نحن المصريين أن نعيد حساباتنا، أن نفكر فى المستقبل بطريقة مختلفة، ليس فى الأفكار، فالأفكار قديمة ومتوارثة ومعروفة، لكن فى الأساليب والأدوات التى تهبط بهذه الأفكار من فضاء الأحلام والأمنيات إلى أرض الواقع والأعمال.

أولًا: نحن فى محيط متقلب.. قليل من التعاون كثير من التنافس، وأقصد المحيط العربي، الذى يشبه بيتًا من الشعر وليس بيتًا من الجدران، تراث من اللغة والدين والتاريخ، لم يتحول إلى أفعال دائمة، ربما فى حالة نادرة هنا أو هناك ولفترة قصيرة، كأنها ومضة سرعان ما تخبو، محيط أعطى ظهره للتكامل بين بلدانه ومضى فى تيه التعاون الهش، لم يستغل ثرواته الطبيعية الهائلة، فتجلس دوله على مائدة مستديرة تفكر وتدرس فى كيفية أن تتكامل اقتصاديًا باستغلال الميزات النسبية لكل منها، على أن تحتفظ كل دولة بخصائصها ومميزاتها وإمكاناتها الخاصة، كيف تزرع وتصنع وتنمو وتتبادل تجاريًا، كما فعلت دول الاتحاد الأوروبي، التى لها تاريخ شرس من العداوات والحروب والدماء لم تجربه الدول العربية.

فرقت السياسة المشارب والمقاصد، والسياسة فى قلبها الولايات المتحدة، والولايات المتحدة يهمها أن يتشرذم العرب، مسموح لهم أن يتعاونوا فى حدود هى تقبلها، على أن تظل مصر مريضة بطريقة أو بأخرى دون أن تشفى من عللها.

باختصار مصر فى حاجة إلى أساليب وأدوات جديدة فى التعامل مع محيطها حسب أفكاره وتصرفاته وطموحاته، نعم أصدقاء وبينهم علاقات ود، دون أن تنسى ما يعملون عليه من تنافس، فبعضهم يبحث عن أدوار إقليمية محورية، وهذا حقهم ولا تعارضه مصر ولا تغضب منه، وتعتبره إضافة لمصلحة المجموع، فهى تثق فى نفسها سواء كانت فقيرة أو غنية، فالثراء الحضارى يشبعها قبل الثراء المادي، بينما هؤلاء الأصدقاء يهمهم أن تكون أدوارهم «خصمًا» من رصيد مصر، أو على حسابها.

وهذا هو التحدى الأول..

أما التحدى الثانى.. فهو الولايات المتحدة، وأمريكا دولة عظمى لها دور قيادى فى إدارة العالم، ومن الطبيعى أن تحتفظ مصر بعلاقات جيدة ومتينة معها، دون أن تكون تحت ظلها، لكن الولايات المتحدة منذ خروجها إلى العالم رسميًا بديلًا عن بريطانيا وفرنسا عقب حرب السويس 1956، وهى تكره الصداقات المتكافئة، وتفضل علاقات التبعية، وهى التى دفعت جمال عبدالناصر دفعًا إلى الكتلة الشرقية بتصرفاتها وأفكارها، ثم خططت لإزاحته وتقليص دوره حتى نجحت فى حرب يونيو 1967، وحين لجأ إليها الرئيس أنور السادات الذى تعلم الدرس، حرصت على علاقات التبعية التى ظلت سائدة، حتى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس حسنى مبارك، إذ تعكرت وأصابها بعض العطب فى ولاية جورج بوش الابن الثانية، بسبب عجرفة الأخير وسياساته الاستعمارية، حتى أن الرئيس مبارك لم يزر واشنطن خلال تلك الولاية، فتآمرت واشنطن عليه، ولعبت دورها المعروف حتى تخلى عن السلطة فى فبراير 2011.

من يومها لم تعد العلاقات إلى «دائرة التبعية» التى تحرص عليها واشنطن وترفضها مصر، فضربها البرود وعدم الثقة، خاصة أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يدرك مخاطر هذا النوع من العلاقات، وهو يريدها صداقة متكافئة ويعمل على هذا التوازن، الذى لاحت بوادره مع حرب غزة ، نعم نريد علاقات جيدة بواشنطن، وأكثر من جيدة مع أصدقاء تقليديين فى الشرق كالروس والصينيين، فالغرب دائمًا «بؤرة أزمات»، ونحتاج إلى إبداع فى التنفيذ!

كل هذا لنصل إلى التحدى الثالث والأهم وهو مصر القوية اقتصاديًا، بالطبع نحمد الله على أننا نملك جيشًا محترفًا قويًا قادرًا على حماية مصر، لكن آن الأوان أن نبنى اقتصادًا قويًا قادرًا على التنمية المستدامة، اقتصاد منتج يقلل من حجم استيرادنا ويزيد من قدرتنا على تلبية احتياجاتنا وسد العجز فى ميزان المدفوعات، ومصر فيها «إمكانات هائلة»، وليست فقيرة إلا فى التنظيم والإدارة، هل يعقل مثلًا أن نملك هذه المساحات من المياه فى «البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وبحيرة السد العالى ونهر النيل بكل رياحينه وأفرعه ونعانى أزمة أسماك ونربيها فى مزارع أيضًا؟، هل يعقل أن نملك هذه الشمس الساطعة طول العالم ونحتاج إلى استيراد الغاز والمازوت لتشغيل محطات الكهرباء التقليدية؟، هل يعقل أن نملك هذه الرمال النقية ولا نتحول إلى منتج «خلايا إلكترونية»..الخ؟، هذه مجرد نماذج.

نعم نملك ثروات طبيعية كانت تؤهلنا أن نكون «يابان»، نعم ثم مشكلة فى البشر: مهارات وقيم عمل، لكن يسهل أن يتغيروا والسر فى ثقافة مصر القديمة عن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والتعليم الجيد والتدريب، ألم نفعلها فى حرب أكتوبر 1973؟

لم يعد مقبولًا أن نظل نرقص على السلم لاكثر من مائتى سنة، فلم يكتمل لنا أبدًا مشروع حضارى منذ أوائل القرن التاسع عشر، هذا هو التحدى الأكبر الذى يفك لنا كل الألغاز والأخطار!