الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
50 سنة أكتوبر المعجزة والفرصة الضائعة!

50 سنة أكتوبر المعجزة والفرصة الضائعة!

ياه.. كيف مرت 50 سنة على أكتوبر 1973 دون أن نستكمل المعجزة إلى نهايتها؟ نعم معجزة عسكرية وإنسانية بأى مقاييس وبأى حسابات منذ وعى الناس معنى التاريخ وسجله على الأحجار أو الجدران أو على جلود الحيوان أو على الورق.. نعم لم تكن مجرد حرب انتصرنا فيها، كانت فتحًا مدهشًا يفتح لنا كوة أو طاقة إلى «جوهر» مصر والجينات الحضارية التى يتمتع بها شعبها، خاصة حين يقترب منهم خطر داهم ويكاد يسقط وطنهم من مكانته وقيمته!



50 سنة.. ما أسرع جرى الأيام الرائعة، فلم تعد سوى ذكريات قادمة من بعيد، قد تعبرها الأجيال الجديدة بابتسامة أو لحظة فخر ولا تتوقف عندها، غير مدركة مغزى ما حدث قبل خمسين سنة، ولا قيمة المعجزة التى صنعها أهلهم فى وقت كان العالم كله يتصور أن وطنهم قد ركن إلى الدعة والراحة وأن هزيمته فى يونيو 1967 قصمت ظهره ولن يقف على قدميه منتصب الهامة قبل سنوات يصعب عدها، خاصة أن القوة العظمى الأولى فى العالم تصطف مع عدوهم وتمده بكل ما يلزمه من أموال ومعدات وأسلحة وأدوات وتدريبات على أحدث طراز، وتوفر له معلومات طازجة ساعة بساعة عن جبهة القتال والجبهة الداخلية، مع زخم إعلامى وسياسى ودبلوماسى دائم.

لم تكن مصر تحارب «إسرائيل» إلا نظريًا، ولكنها كانت تحارب جبهة عريضة تمثلها إسرائيل، كرأس حربة عن صراع تاريخى بين الغرب الأوروبى والشرق العربى، صراع يتصور البعض، ومنهم عرب، أنه صار جزءًا من تاريخ انقضى ودفن، وهو تصور ساذج يهمل «مكر» التاريخ وقوانينه الممتدة فى الزمان، والتى قد تُجمَّد أو تتوقف، لكنها لا تموت ثم يعيد التاريخ تشغيلها فى الوقت المناسب.

فى الثانية ظهر السادس من أكتوبر قبل خمسين سنة، صنعت مصر معجزتها بهدوء وصمت، فى وقت اعتقد فيه كل الخبراء العسكريين شرقًا وغربًا باستحالة تجاوز المصريين المحنة التى أحاطت بهم، فأمامهم قناة السويس أطول مانع مائى بـ172 كيلو مترًا، من خليج السويس إلى بورسعيد وعرضه يقترب من مائتى متر، يحميه خط بارليف على ضفته الشرقية، واحد من أعقد الخطوط الدفاعية التى بناها البشر فى العصر الحديث، خط مكون من ساتر ترابى يرتفع على تلك الضفة بعشرين مترًا، وخلفه مجموعة من الدشم الحصينة المغطاة بعشرات الأطنان من الفولاذ ومكعبات الأسمنت والحجارة والشكاير الرملية، وداخل الدشم دبابات ومدافع نيرانها تصنع مناطق قتل أمامها، والحصون بها مزاغل يطل منها جنود يمسحون كل شبر على الضفة الأخرى، وبها أيضًا خزانات ممتلئة بمادة النابالم الحارقة يخرج منها أنابيب ضخمة إلى مياه القناة، كى تحولها إلى حقول من اللهب تلتهم أى محاولات النزول إلى المياه.

وقدر الخبراء الغربيون والسوفييت أن اقتحام القناة وتدمير خط بارليف يستحيل دون قنبلة ذرية، ولن تقل خسائر الموجة الأولى من القوات المهاجمة عن 80 % من أفرادها.

وفعلًا ابتكر المصريون قنبلة ذرية خاصة بهم.. فالمصريون أصحاب حضارة عظيمة، ليست فى الأهرامات ولا التماثيل ولا المعابد والألوان الزاهية على جدرانها، ولا ولا ولا، وإنما فى الجينات الحضارية تحت جلود المصريين، جينات لا تنتفض إلا وقت الخطر، وفى أوقات يظن أعداؤها وخصومها أنها صارت والعدم سواء.

كان العقل المصرى عظيمًا والإدارة المصرية أيضًا، وابتكر ضابط مصرى مدفعًا له قوة القنبلة الذرية، وكما قلت الحضارة ليست سنوات عابرة وشواهد قبور كما يظن البعض، وإنما خبرات عميقة فى التعامل مع الطبيعة والسيطرة عليها، والماء هو أقوى عناصر الطبيعة على الإطلاق، هو سر الحياة وطاقتها القصوى، ومدفع من المياه يمكن أن يفتت جبلا من الرمال والصخور، ولجأ المصريون إلى الطبيعة فأنصفهتم..

قبلها تسللت وحدات من الكوماندوز  وسدوا فتحات أنابيب النابالم بكتل أسمنتية، فألغوا جهنم إسرائيل المزعومة...كما نصبت بعض هذه الوحدات عشرات الكمائن خلف خطوط العدو، لقوات الهجوم المضاد المتمركزة خلف خط بارليف من عشرين إلى خمسين كيلومترا.

والأهم هو المفاجاة الاستراتيجية بأن مصر بدأت الحرب لأول مرة، على خلاف ما حدث فى 1956، 1967 بخطة خداع ما زالت تحير الخبراء حتى الآن، ثم حرمت سلاح الطيران الإسرائيلى من تفوقه الدائم بحائط صواريخ فريد من نوعه.

أيام عظيمة صدرت فيها كتب عربية وأجنبية، أهمها اعترافات قادة إسرائيل أنفسهم، ناهيك عن الدراسات التى قامت بها معاهد عسكرية عالمية..

ممكن أن نقرأها وترسم لنا صورًا عما حدث..لكن من حسن الحظ أن قابلت الواقع بعد الحرب بثلاثة أعوام، ولمست بيدى كيف صنع المصريون المعجزة.. وكيف غزلوا برجل فيل أعلام نصر يفوق خيال أى إنسان، أدركت ذلك حين جُنِّدت بالقوات المسلحة ضابطًا احتياطيًا فى سلاح المدرعات، السلاح الذى خاض أشرس معارك دبابات عرفتها ميادين القتال فى القرن العشرين، وخدمت فى منطقة صحراوية غرب مدينة فايد الواقعة على البحيرات المرة بين السويس والإسماعيلية، وعلى الحدود الشمالية لما عرف وقتها بالثغرة، كنت أقود فصيلة من الدبابات تى 55 الروسية، دبابة قوية درعها شديد الصلابة ومدفعها 100 مم، ورشاش آلى ورشاش مضاد للطائرات، لكنها من إنتاج ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت الجيل التالى المطور من الدبابة ت54، وكنت من أن لآخر أتجول فى المنطقة أحصى عدد الدبابات الإسرائيلية المحطمة، وكلها دبابات إم 60 أمريكية الصنع، وذات مرة كنت فى وحدة مدرعة أسرت دبابة إم 60 ووضعتها نصبًا تذكاريًا فى مدخلها، استأذنت وركبت الدبابة، لا يمكن أن تتصوروا الفارق فى الإمكانات بين تلك الدبابة الأسيرة والدبابة التى أسرتها، كالفارق تمامًا بين سيارة شيفروليه وسيارة لادا، مؤكد أن بدن اللادا أكثر متانة، لكن الشيفرولية أكثر راحة ورفاهية وإمكانات أكبر، فالدبابة إم 60 قوة نيران أكبر وجهاز رؤية ليلية وسرعتها القصوى أعلى..وعدت أسأل قادتى الذين شاركوا فعليا فى الحرب: كيف تغلبتم عليها؟

وراحوا يروون لى حيلًا وأعمالًا مبتكرة اصطادوا بها هذه الكائنات المدرعة، وكان الرائد أحمد الجمل قائد سريتى واحدًا من هؤلاء..

ولماذا أذكر الرائد أحمد الجمل تحديدا؟

لأن شخصيته تلخص شخصية القادة الذين خاضوا غمار هذه الحرب..عاشق لمصر مخلص لها إلى أقصى حد ممكن..

حين ذهبت إلى كتيبتى أول مرة موزعًا من قيادة الجيش الثانى، وجدته جادًا جدًا، وجهًا صارمًا، قوامًا رشيقًا، خطوات منتظمة، ديدبان يسعى على البسيطة، لا يبتسم. وكنا فى ملجأ تحت الأرض، حفرة مستطيلة عميقة مقسمة إلى جزءين، الجزء الأول للضباط قادة الفصائل بها ثلاثة أسرة، بالكاد نتحرك بينها، وفى نهاية المستطيل حجرة صغيرة من خمسة أمتار مربعة تقريبا لأحمد الجمل، يا دوب سرير وكومودينو وترابيزة صغيرة للغاية..صحيح أن الحرب قد توقفت، وسكتت مدافعها وقنابلها وصواريخها، لكن شبح اندلاعها لم يغادر الفضاء، وتحس به هائمًا فى الأجواء.

بعد أول عشاء فى ميز الضباط، عدت إلى الملجأ، وقبل أن أغير ملابسى، طلبنى أحمد الجمل، وقال لى فى هدوء: كل أسبوع عندنا امتحان نظرى، مرة فى الميكانيكا، ومرة فى الرماية، ومرة فى التكتيك، أكثر من 90 % لك يوم زيادة فى الإجازة الشهرية، أقل من 75 % ستكون فى مشكلة، سوف أخرج معك فى الشهر الأول فى تدريب الفصيلة، ثم تعتمد على نفسك فى تنفيذ البرنامج التدريبى، وسوف يمر عليك ضباط كبار من الكتبية أو اللواء يتابعون عملك..خذ حذرك وانتبه جيدًا فى كل التعاملات، سوف تتعرض لاخبتيارات قاسية من صف الضباط القدامى والجنود، ليعرفوا خصائص شخصيتك، بعضهم معرفته كبيرة وعندهم خبرات قتالية.

كان أحمد الجمل عطوفًا مع جنوده وفى غاية الصرامة أيضا، لا يقسو ولا يتسامح مع أى خطأ، كان يرى نفسه مسئولًا مباشرًا عن أمن وطنه وحمايته.

لم يتهاون يومًا، وكلما حصلت على 90 % كان يروى بعضًا من أعمال الحرب وماذا حدث فى معركة الدبابات الكبرى فى القطاع الأوسط من سيناء.

باختصار هذه الحرب عرت الصدأ عن معدن الإنسان المصرى النفيس وخصائصه الحضارية، لكننا لم نكمل المعجزة وأضعنا الفرصة، فلم يعمل هذا الإنسان بهذه الطاقات وهذه العقلية وهذه الإرادة فى التنمية وبناء مصر، وأتصور لو درسنا بجدية عن الأسباب ربما نعوض ما فاتنا، فالمصريون هم هم، والسؤال: ما هى البيئة التى يجب أن نوفرها لهم ليصنعوا تلك المعجزة فى بناء مصر الحديثة؟