الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مصر أولا.. راغب مفتاح.. ولغة الصلاة المقدسة..  صاحب تدوين أقدم موسيقى فى العالم!

مصر أولا.. راغب مفتاح.. ولغة الصلاة المقدسة.. صاحب تدوين أقدم موسيقى فى العالم!

الموسيقى هى اللغة الوحيدة التى يستطيع أى إنسان على مستوَى العالم أن يفهمها ويستوعبها؛ بل ويتذوقها بغض النظر عن جنسيته أو ثقافته.. فالموسيقى هى تراث إنسانى راقٍ.



من هذا المنطلق، تعد الألحان والموسيقى الكنسية فى مصر هى واحدة من أقدم أنواع الموسيقى التى عرفها الإنسان؛ لأنها ببساطة شديدة امتداد مباشر للموسيقى التى استخدمها الكهنة فى مَعابد مصر القديمة، وهو ما تشهد عليه اللوحات المنحوتة فى المعابد القديمة.. بعد تطور تلك الموسيقى وتطويرها لتصبح ذات صبغة مسيحية، وهو ما يؤكد أنها مدرسة خاصة من الألحان ليست شرقية أو غربية؛ بل مدرسة مصرية خالصة متميزة لها خصائصها المنفردة؛ خصوصًا أنها موسيقى صوتية لا تعتمد على الآلات الموسيقية.

 موسيقى صوتية..

الموسيقى والألحان الكنسية هى امتداد لألحان المَعابد الفرعونية بعد تطويرها بالنصوص المسيحية. كما أن هناك نوعين من الألحان الكنسية؛ ألحان الفرح وألحان الحزن. يستخدم النوع الأول فى عيد الميلاد وعيد القيامة؛ أمّا النوع الثانى فيستخدم فى طقوس أسبوع آلام السيد المسيح. 

تعتمد الموسيقى والألحان الكنسية على استخدام بعض الآلات، وعلى سبيل المثال: الدف والناقوس. وتعتمد الموسيقى الكنسية فى غالبيتها على الموسيقى الصوتية التى يتم نطقها من خلال حنجرة الإنسان على اعتبار أن هذه الموسيقى فى الأصل هى صلوات.. تجعل الكيان الإنسانى من نفس وروح ووجدان فى حالة خاصة، ويتوقف استخدام الآلات الموسيقية أو الموسيقى على نوع اللحن سواء الفرح أو الحزين.   

 جرجس البتانونى..

تمر هذا الأسبوع، ذكرَى مولد الفنان الراحل القدير الدكتور راغب مفتاح، الذى وُلد قبل 125 عامًا فى 28 سبتمبر عام 1898. أنه الفنان الذى كرّس حياته لتحقيق هدف واحد فقط هو تدوين الموسيقى القبطية التى هى الموسيقى الكنسية فى شكل نوتة موسيقية للحفاظ عليها كجزء مهم من التراث الموسيقى والإنسانى المصرى. وهو التراث الذى يُعَد مِلكية مصرية حصرية على مستوى العالم.

قضى راغب مفتاح حياته للحفاظ على هذا التراث الموسيقى، فبحث عن المرتلين الذين يحفظون الألحان فى غالبية محافظات الصعيد، ثم قام بتسجيلها بعد مراجعتها ومقارنتها لكى يحافظ على عدم الخروج عن النص فى الألحان الكنسية المصرية؛ خصوصًا أنها كانت تسلم – قبل تدوينها – وتنتقل من جيل إلى جيل شفاهة من خلال «المعلمين» أو «العرفاء» الذين يقودون خورس أو فريق الشمامسة الذين يرتلون الألحان داخل الكنائس. بدأ راغب مفتاح هذه المسيرة عام 1926، فدعا الموسيقار العالمى أرنست نيولاند سميث (الأستاذ بالأكاديمية المَلكية للموسيقى فى لندن) عام 1928 لبدء أول مشروع متخصص لتسجيل المدونات الموسيقية للألحان الكنسية؛ حيث وقع اختيارهما على المعلم ميخائيل جرجس البتانونى كبير مرتلى الكاتدرائية القديمة بالأزبكية لما يتمتع به من إتقان للألحان ودقة النطق وسلاسة الأداء مع إلمامه الكامل باللغة القبطية وإتقانه لها وإلمامه بقواعد اللغة العربية ليسجلا عنه الألحان بالكامل خلال الفترة من عام 1928 إلى عام 1936، وأسفر هذا العمل عن تسجيل كل الألحان الكنسية البالغ عددها ثلاثمائة لحن مختلف لكل مناسبة أو طقس من طقوس الكنيسة على أسطوانات، وتم تدوينها على النوتة الموسيقية فى خمسة عشر مجلدًا.

 تدوين الموسيقى الكنسية..

واصل «مفتاح» إسهامه بين عامَى 1954 و1955 حينما شارك فى تأسيس المعهد العالى للدراسات القبطية مع نخبة علماء القبطيات (المصريات) على مستوى العالم: د. عزيز سوريال عطية ود. مراد كامل، ومن ثم إسهامه القيّم فى تأسيس القسم الخاص بالألحان والموسيقى الكنسية داخل المعهد نفسه، والذى أسفر عن تنفيذ مشروع ضخم سنة 1968 للتدوين الكامل للموسيقى الكنسية. وتوج راغب مفتاح مسيرته بإشرافه على إصدار المجلد الضخم عن «الليتورجية القبطية الأرثوذكسية للقديس باسيليوس»، والمعروف باسم «طقس القداس الباسيلى» وألحانه مع المدونات الموسيقية الكاملة له، بالإضافة إلى كتابة الصلوات باللغة العربية واللغة القبطية واللغة الإنجليزية. وهو العمل الموسوعى الذى استغرق إنجازه أكثر من خمسة وسبعين عامًا لإصداره عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سنة 1998. وقد سبق ذلك تكريمه من مكتبة الكونجرس الأمريكية سنة 1995؛ حيث تم للمرة الأولى تخصيص ركن خاص بالمكتبة للاحتفاظ بمدونات الموسيقى الكنسية القبطية (المصرية).  

 دلالات..

أسعدنى كثيرًا قيام قسم النشر بالجامعة الأمريكية بإصدار «الليتورجية القبطية الأرثوذكسية للقديس باسيليوس» هو أمرٌ حَسَن، ولكن يظل السؤال التقليدى: لماذا لم يقم أى ناشر مصرى أو أى مؤسّسة مصرية بتولى نشر هذا المجلد؟، وأتحفظ هنا بشدة على أن نطالب المؤسّسة الدينية المسيحية المصرية بالمشاركة فى هذا الشأن؛ لأنه تراث موسيقى عام مِلك لمصر وتاريخها قبل أن يكون مِلك فرد أو مؤسّسة أو حتى الكنيسة نفسها.

ترى؛ هل سمعت وزارة الثقافة بمؤسّساتها المتعددة؛ خصوصًا المجلس الأعلى للثقافة عن المواطن المصرى المدعو راغب مفتاح الذى يعد واحدًا من بين أهم عمالقة تدوين التراث المصرى أَمْ أنه خارج نطاق الاختصاص؟. أمْ أنهم يعرفونه؛ ولكنهم يمارسون هواية الصمت.. الرهيب!  

سؤال أكثر سذاجة: لماذا لم يتم إلى الآن تكريم راغب مفتاح من الدولة؟، ولماذا لم تتبنَّ أى مؤسّسة رسمية ترشيحه لنيل إحدى جوائز الدولة؟ وأين جامعاتنا ومعاهدنا المتخصّصة ومراكزنا البحثية من الاهتمام بهذا التراث الوطنى الضخم؟  

د. راغب مفتاح هو واحد من بين أهم عمالقة التراث المصرى خلال القرن العشرين، وهو ما يعود إلى إسهامه القيّم فى الحفاظ على الموسيقى والألحان الكنسية كأحد أعظم فنون التراث الدينى والقومى فى مصر. 

صار د.راغب مفتاح الحارس الأمين للموسيقى الكنسية القبطية (المصرية)، وهو ما جعل التاريخ الحديث لها هو تاريخ راغب مفتاح الشخصى. هذا الرجل الذى حافظ من خلال مشروعه الضخم لتدوين الموسيقى على عدم الخروج عن النص فى الألحان الكنسية. لقد أسهم د. راغب مفتاح فى الحفاظ على التراث الحضارى والتراكم الثقافى للمصريين جميعًا. 

نقطة ومن أول السطر..

يرحل العديد من علمائنا دون أن يشعر بهم أحد.. ولكن تظل إسهاماتهم الفكرية والبحثية تروج لمكانتهم وقامتهم.. فى ظل غياب مقصود أو تجاهل متعمد.

د. راغب مفتاح هو الذى حافظ للإنسانية على الموسيقى والألحان الكنسية المصرية المتداولة.. باعتبارها أول وأقدم موسيقى عرفها الإنسان فى العالم. 

من أقوال د.راغب مفتاح المأثورة: أكرّر دائمًا أن اللغة الفرنسية هى لغة الصالونات، واللغة الإيطالية هى لغة المسارح، أمّا اللغة القبطية فهى لغة الصلاة المقدسة.