الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الحقيقة مبدأ.. ملحمة المستحيل

الحقيقة مبدأ.. ملحمة المستحيل

لا تزال تلك الأيام عالقة بذهنى وتكاد تكون بشكل يومى رغم مرور خمسين عامًا ونحن نجلس فى «روزاليوسف» نستمع للكبار آنذاك يحللون الموقف وبيانات الجيش وما تذيعه الإذاعات المصرية والعربية؛ بل حتى البريطانية والعبرية.. هم يسمونها حرب يوم الغفران «كيبور» أمّا نحن فنسميها باسمها المنطقى «نصر أكتوبر»، كانت حرب عام 1973 التى أصبحت نقطة تحول فى التاريخ الإسرائيلى، وبالقطع فى التاريخ العربى بكلمة كان بطلها الأول هو الجيش المصرى.. وعلى غير المعهود فى مقالاتنا العربية رأيت أن أضع فيها اجتهادًا للتأثير السياسى والاجتماعى على إسرائيل من الداخل إيمانًا عميقًا من شخصى بأن الجيش المصرى ليس فقط هو المؤسّسة العسكرية الضاربة الأكثر قوة فى المنطقة بأسْرها؛ وإنما صاحب أقوَى تأثير سياسى واجتماعى فى تاريخ الأمة.



بدأت الحرب فى 6 أكتوبر 1973، وهو اليوم الأكثر قدسية فى التقويم اليهودى، عندما شنت مصر وسوريا هجومًا مفاجئًا على إسرائيل. فوجئ الإسرائيليون، وتكبّدوا خسائر فادحة خلال الحرب وامتد الأثر حتى لحظة كتابة هذا المقال.

وليكن الحديث حول آثار نصر أكتوبر 1973 على المجتمع الإسرائيلى بجميع مؤسّساته وأنماط تفكيره لما لها من عمق على المجتمع الإسرائيلى، وتركيبته السكانية والتعليم والدخل والتنقل الاجتماعى والمؤسّسات الاجتماعية والمؤسّسات السياسية والرأى العام.

 التركيبة السكانية

أدت الحرب إلى سقوط ضحايا كُثر؛ حيث قُتل الآلاف من الإسرائيليين وجُرح عشرات الآلاف أيضًا فضلاً عمّن قاموا بالاستسلام. وكان لهذا تأثير كبير على التركيبة السكانية للبلاد؛ حيث إن هذه الخسارة فى الأرواح كان لها تأثير مدمر على العائلات والمجتمعات فى جميع أنحاء إسرائيل. كما أدت الحرب إلى موجة من الهجرة العكسية؛ حيث فقد العديد من الإسرائيليين الثقة فى قدرة البلاد على حماية نفسها.

التعليم

كان للحرب أيضًا تأثير كبير على التعليم فى إسرائيل. اضطرت الحكومة هناك فور الهزيمة إلى تحويل الموارد من التعليم إلى الجيش لدفع ثمن المجهود الحربى. مما إلى انخفاض فى جودة التعليم فى المدارس الإسرائيلية. كما كان للحرب تأثير سلبى على معنويات المعلمين والطلاب على حد سواء. وبعدها بسنوات بدأت الحكومة فى الاهتمام بالتعليم التكنولوچى كى تستعد لحروب قادمة لا مَهرب منها.

الدخل والتنقل الاجتماعى

كان للحرب تأثير سلبى ومختلط على الاقتصاد الإسرائيلى، وأدى هذا إلى انخفاض فى الدخول والتنقل الاجتماعى. كما أدى زيادة الإنفاق الحكومى على الدفاع إلى تخفيضات فى البرامج الاجتماعية، مما زاد من تفاقم المشكلة. وأدت زيادة الإنفاق العسكرى الحكومى إلى ارتفاع الضرائب والتضخم. جعل هذا من الصعب على الإسرائيليين تلبية احتياجاتهم الأساسية.

 المؤسّسات الاجتماعية

كان للحرب أيضًا تأثير كبير على المؤسّسات الاجتماعية فى إسرائيل. تعرضت الأسرة، على سبيل المثال، للضغط نتيجة لارتفاع عدد الضحايا وموجة الهجرة العكسية. كما أدت الحرب إلى انخفاض الثقة فى الحكومة والجيش؛ حيث فقدت الكثير من العائلات أحباءها فى الحرب، واضطر العديد من الآخرين إلى التعامل مع الجروح الجسدية والنفسية لأحبائهم المصابين. كما وضعت الحرب ضغطًا على العلاقات الأسرية؛ حيث كافح الآباء والأطفال للتعامل مع التوتر وعدم اليقين فى الحرب وجدواها؛ بل الهدف منها.

  المؤسّسات السياسية

كان للحرب أيضًا تأثير كبير على المؤسّسات السياسية فى إسرائيل؛ فتعرضت الحكومة لانتقادات بسبب فشلها فى توقع والاستعداد للحرب، هذا ما أدى إلى المزيد من انخفاض الثقة العامة فى الحكومة وزيادة فى الاستقطاب السياسى. كما جعلت الحرب من الصعب على الحكومة تمرير التشريعات وتنفيذ السياسات.

دور الأحزاب السياسية ومجموعات المصالح ووسائل الإعلام

أدت الحرب أيضًا إلى تغييرات فى دور الأحزاب السياسية ومجموعات المصالح ووسائل الإعلام فى إسرائيل. أصبحت الأحزاب السياسية أكثر انقسامًا؛ حيث سعت إلى إلقاء اللوم على بعضها البعض فى إخفاقات الحرب. اكتسبت مجموعات المصالح، مثل الجيش وجماعة المحاربين القدامى، نفوذًا أكبر فى السياسة الإسرائيلية. كما أصبحت وسائل الإعلام أكثر انتقادًا للحكومة والجيش.. ما دفع الحكومة للمزيد من التدخل فى الإعلام بالحجب والمنع مما دفع بالمزيد من الرقابة الذاتية داخل المؤسّسات الصحفية والإعلامية.

 الرأى العام

كان للحرب تأثير عميق على الرأى العام فى إسرائيل، فقد الإسرائيليون الثقة فى قدرة البلاد على حماية نفسها، وأصبحوا أكثر انتقادًا للحكومة والجيش فى الأحاديث اليومية والتى تحوطها أى من أشكال السرية مما أدى إلى صعود القومية والعسكرة الطائفية.

 تأثير الرأى العام على القادة السياسيين

كان للرأى العام تأثير كبير على سلوك القادة السياسيين فى إسرائيل بعد هزيمتهم فى 1973. أدت الحرب إلى تحطيم أسطورة (إسرائيل التى لا يمكن قهرها) وهذا ما دفعهم دفعًا إلى فترة من التأمل العميق فى الذات من منطلق نقدى لكيفية تعامل الحكومة مع الحرب، وطالبوا بتغيير فى السياسات.

هنا اضطرت الحكومة إلى اتباع نهج أكثر حذرًا فى السياسة الخارجية. وقد انعكس ذلك فى اتفاقات كامب ديفيد عام 1978؛ حيث وافقت إسرائيل على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء مقابل السلام مع مصر. كما زادت الحكومة الإنفاق على الدفاع من أجل إعداد البلاد بشكل أفضل للحروب المستقبلية.

أصبحت الحكومة أيضًا أكثر استجابة لمطالب الجيش ورابطة المحاربين القدامى. تم منح الجيش دورًا أكبر فى صنع القرار، وزادت الحكومة من الإنفاق على مزايا المحاربين القدامى.

 مواقف ومعتقدات المجتمع بسبب هذه الهزيمة

كان لحرب أكتوبر تأثير دائم على مواقف ومعتقدات المجتمع الإسرائيلى. فأصبحوا أكثر انقسامًا حول عدد من القضايا، بما فى ذلك عملية السلام مع الفلسطينيين ودور الجيش فى المجتمع الإسرائيلى.

وقد يلاحظ المتابعون المتخصصون فى قضية الصراع «العربى- الإسرائيلى» أنه فى السنوات التى أعقبت الحرب، أصبح الرأى العام الإسرائيلى أكثر علانية فى انتقاده للجيش والحكومة على حد سواء؛ وهو ما مهد لظهور مجموعات مؤيدة فى الداخل الإسرائيلى لحل الدولتين بل ومجموعات أخرى تتبنى حل الدولة الواحدة. (ليست أكثريات وليست ذات تأثير حقيقى حتى الآن).

على صعيد آخر؛ فإن هزيمة الجيش الإسرائيلى أدت أيضًا إلى صعود آراء أكثر تشددًا وتطرفًا من الأحزاب الكبرى آنذاك؛ يدفعهم فى هذا الخوف من تكرار الهزيمة مرة أخرى، فكما فعلها المصريون مرة إذن فقد يفعلونها مرات، وقد تتجرأ جيوش أخرى فى المنطقة أو تندفع مجموعات المقاومة مدعومة بالأمل الذى زرعه المصريون. يعتقد العديد من الإسرائيليين أن البلاد يجب أن تكون قوية عسكريًا من أجل البقاء فى بيئة معادية. أدى هذا الاعتقاد بدوره إلى زيادة الدعم للجيش الإسرائيلى وتصعيد العمليات العسكرى ضد أعداء إسرائيل.. رغم أن ذلك يدفع بتأثيرات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلى من جهة ويدفع بتصعيد مشروع من المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى.

كان لنصر أكتوبر تأثيرات عميقة على المجتمع الإسرائيلى، ولا يزال إرثها محسوسًا حتى اليوم. وهناك أمثلة محددة لكيفية تأثير الرأى العام على سلوك القادة السياسيين بعد الحرب.. 

 فى الانتخابات العامة لعام 1977، هُزم حزب العمل، الذى كان فى السلطة لمدة 29 عامًا، من قِبَل حزب الليكود. قاد حزب الليكود مناحيم بيجين، الذى كان ناقدًا صريحًا لطريقة تعامل حزب العمل مع الحرب.

فى عام 1978، وقّعت الحكومة الإسرائيلية اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر. وكانت هذه أول معاهدة سلام بين إسرائيل ودولة عربية. وبقدرما كانت اتفاقيات كامب ديفيد مثيرة للجدل أيضًا فى إسرائيل؛ لكنها كانت مدعومة من قِبَل غالبية الرأى العام هناك خوفًا من الحرب.

فى عام 1982، شنت الحكومة الإسرائيلية حرب لبنان. كانت هذه الحرب على غير هوى أو رغبة الشارع الإسرائيلى، وأدت إلى انخفاض الدعم الجماهيرى للحكومة. وهو ما أدى إلى ارتفاع شعبية «السلام الآن»، وهى حركة دعت إلى تسوية تفاوضية مع الفلسطينيين.

كانت حرب أكتوبر نقطة تحول فى التاريخ الإسرائيلى لما لها من تأثير بالغ العمق على المجتمع الإسرائيلى، والذى لعب رأيه العام دورًا مُهمًا فى تشكيل سلوك القادة السياسيين فى السنوات التى أعقبت الحرب حتى الآن، ولولا النصر الذى حققه الجيش المصرى والآثار المترتبة عليه بما وصلت عواصم صُنع القرار الدولى بمناقشة حل الدولتين حتى ولو على استحياء، فالقوة التى تحركها الخبرات المتراكمة والتاريخ الطويل للدولة المصرية هى الأساس الذى يبنى عليه.. أمّا الهرولة والانسحاق فلن تؤدى لشىء سوى زيادة أمد الصراع. تحيا مصر وعاش الجيش.