الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
السلطة المطلقة وخيوط العنكبوت!

السلطة المطلقة وخيوط العنكبوت!

قبل أيام شهدت فيلم «خيوط العنكبوت» بالمصادفة، لم أكن رأيته من قبل، شدتنى الفكرة التى كتبها الدكتور نبيل راغب، ونبيل راغب أستاذ نقد أدبى وكاتب مصرى متعدد المواهب غزير الإنتاج، من هؤلاء الذين لم ينالوا شهرة ومكانة على قدر ما قدموا من فكر وعمل، ربما لم يبن جسورا مع السلطة فى عصر الرئيس حسنى مبارك، كالتى بناها فى عصر الرئيس أنور السادات، ويبدو أن هذا الجسر قد تهدم لأسباب لم تُعرف أبدا بعد اغتيال السادات، فاعتمد على نفسه، ولا تكره السلطة فى أى زمان ومكان أكثر من هؤلاء الذين يفضلون استقلالهم ويتمسكون به ويحافظون على نزاهتهم، إذ تعتبرهم «مسامير» فى الطريق يمكن أن تصيب إطارات سطوتهم، فتفرغ هذه الإطارات من هواء الهالات التى ترفعهم عاليا فوق الرؤوس، فينزلون إلى الأرض.



 

المهم أن الدكتور نبيل راغب حاول أن يفسر كيف «يفسد» إنسان شريف عفيف نزيه حين يتولى رئاسة مجلس إدارة شركة عامة ويقبض على السلطة فيها.

الفيلم ظهر للوجود عام 1985، وحاولت الوصول إلى النص الأدبى الأصلى فلم أفلح، ولم يبق أمامى غير الفيلم، وهو كاف خاصة أن كاتب السيناريو والحوار أستاذ فى الكتابة السينمائية، هو الأستاذ مصطفى محرم.

فى الحقيقة لم أقتنع بالنصف الثانى من الفيلم، وهو تفاصيل إفساد رئيس مجلس الإدارة، إذ بدت عملية بلهاء تقليدية، لعبت فيها المرأة دور الشيطان الأكبر، فهى التى وسوست للشريف العفيف بضرورة أن يفسد حتى يتمتع بها.

وفى الحقيقة لم يكن رئيس مجلس الإدارة ولا صاحب أى سلطة فى حاجة إلى «وسوسة الأنثى اللعوب»، لينتقل من ضفاف الشرف إلى ضفاف الفساد، سابحا فى مستنقع التلوث بكل اقتناع وإصرار، فالسلطة مفسدة فى حد ذاتها، إذا لم تكن محكومة بمعايير للمراقبة والمتابعة والمحاسبة، والمسألة ليست ضميرًا حيًا وضميرًا ميتًا، فالضمير «عامل موضوعى» مرهون بأشياء كثيرة تحيط بالإنسان، عناصر البيئة، النظام العام، القانون ومدى جدية تطبيقه بصرامة فلا تعبره ذبابة خاطئة، أو مدى تساهله بثغرات تسمح بمرور سفينة عملاقة تحمل مليون حاوية مهربة.. إلخ.

باختصار.. لا يعمل الضمير فى الفراغ أو تحت إلحاح الشعور الدينى، وعلى رأى صديق عزيز يعمل فى شركة عالمية لها مستخلصات فى شركات كثيرة، لا تمر فاتورة إلا بعد أن يدفع «إكرامية» على إنجازها، وفى آخر مرة اتفق معه الموظف على أخذ المعلوم، أمام باب مسجد قريب، فتصور أن المسجد مجرد علامة مميزة يسهل عندها اللقاء، فوجده خارج من الصلاة والناس من حوله يتبركون فيه، فهو كان إمامهم (القصة حقيقية وليس فيها كلمة من الخيال)، أى أن الصلاة شىء والضمير شىء آخر مقطوع الصلة بالصلاة، أو أن الأزمة الاقتصادية والخوف من العوز أقوى من الضمير.

عموما الحاشية لها دورها حتمى فى إفساد المسئول أى مسئول، فهو لا يمكن أن ينحرف دون أن تمهد له الحاشية «الطريق» بنعومة فائقة، ودأب لا ينقطع، ووسائل تبدو نظيفة.

وهذا ما حدث فى فيلم خيوط العنكبوت، فحين صار المهندس الشرف خالد أمين «رئيسا لمجلس الإدارة»، لم يتعظ مما حدث لسلفه المنحرف الذى مات كمدا حين قبضت عليه الشرطة، وسقط فى طريق الغواية وابتعدت به نفس الحاشية عن كل المبادئ التى عاش عليها قبل أن يجلس على كرسى السلطة، العيب الوحيد أن الحاشية كانت من شخصين فقط، إلهام السكرتيرة، التى تريد أن تثأر من رجال الحكومة التى فرضت الحراسة على عائلتها، وفايق شاكر موظف علاقات عامة فاسد بالسليقة.

بالطبع شخصان فقط لا يكفيان لإفساد رئيس مجلس إدارة فى شركة لها قطاعات وأقسام ومديرون وشئون قانونية.

وخلال حياتى العملية تابعت رؤساء مؤسسات فسدوا، وكانوا فى غاية النزاهة فى أول حياتهم، منهم صديق من أيام الدراسة، تخرج فى كلية التجارة، وعمل فى مؤسسة مرموقة، وكان مجتهدا، وصنع علاقات وصداقات مع سنوات تقدمه مع شخصيات نافذة فى مجتمع، بعضها وصل إلى مناصب سياسية رفيعة، أتاحت له أن يصبح رئيس قطاع وهو فى الخامسة والأربعين، ثم رئيس مجلس إدارة المؤسسة بعدها بأربع سنوات.. وتابعت التحولات التى طرأت على شخصيته، من شخص متواضع بسيط مهموم بالناس إلى شخص نافذ أرستقراطى مشغول بتراكم ثروته.

وتقابلنا ذات يوم، بعد أن خرج على المعاش، فى سهرة على البحر، وفى لحظة صفاء نفسى فريدة، حكى لى ما حدث.

قال: البيئة المحيطة بك أقوى منك مليون مرة، فجأة تجد نفسك فى مكانة «المهدى المنتظر»، الكل يمد يده يتمسح بك، ينحنى لك، يمشى فى ركابك، رؤساء قطاعات، مديريون عموم، رؤساء أقسام، كل ما تقوله صواب، كل ما تطلبه أوامر، فى البداية تتمنع وتحاول أن تدافع عن قيمك، يتراجعون خطوة محسوبة ويتسببون فى بعض مشكلات ويحيلونها إليك ويلعبون معك ألعاب الرضا والنصائح والزعل الخفيف، وقد يرسلون شكوى أو شكوتين مجهولتين إلى جهات رقابية، ويتكلمون بشأنهما، ثم بالتدريج تعود ريما إلى عادتها القديمة أشد طاعة وتمسحا، أقف يقفون، أمشى يمشون، أجلس ينتظرون إشارة منى ليجلسوا، أخرج فى جولة بين الأقسام والمكاتب يحولونها إلى مظاهرة حب وتبجيل، باختصار يسهلون لى كل القضايا والأزمات، فأجد نفسى أتمتع بسلطة مطلقة أو شبه مطلقة، هم معهم كل مفاتيح الأبواب المغلقة باسم القانون، بعد فترة اعتاد تصرفاتهم ثم أحبها وأدمنها، وتصبح من حقائق الحياة اليومية، مثل التنفس وطلوع الشمس كل نهار ورنين التليفونات.. شىء رائع أن تشعر أنك تتحكم فى كل شىء، لك كامل التصرف فى الشئون المالية والإدارية للمؤسسة دون رقابة أو توجيه.. كأنك تملك مصائر البشر والثروة.

نعم تغيرت دون أشعر أو أفكر، كل من حولى يصفق ويهتف ويفسر ويهنئ، لم أكن فاسدا، لكن سمحت بأشياء كثيرة لمن يحيطون بى، وأخرجتها فى أشكال قانونية، لأظل متمتعا بهذه السلطة الرائعة التى تحلق بك فى فضاء السيطرة.

قلت: السلطة المطلقة كالنداهة من يسقط فى حبائلها لا يستطيع أن الفكاك منها، لكنها أيضا مفسدة بالضرورة، وأتصور أن أكثر الناس ورعا وتقوى يمكن أن تفسده السلطة المطلقة بسهولة مطلقة، فالإنسان إذا امتلك كل الشئون بين يديه، يطغى.

بدا صديقى رافضا لما قلته، فرويت له تجربة سجن جامعة ستانفورد التى نفذها عالم النفس الأمريكى الشهير فيليب جورج زيمباردو فى عام 1971، على مجموعتين من الطلبة يدرسون معه.

قسم زيمباردو الطلبة إلى مجموعة مساجين ومجموعة حراس، وأخذهم إلى سرداب فى الجامعة وشكله إلى ما يشبه السجن، وبدأت التجربة بأن سمح للطلبة الحراس مرتدين زى رجال الشرطة ومعهم عصيانهم، بأن يأخذوا الطلبة المساجين من بيوتهم مقيدين بالأصفاد إلى السرداب السجن، وأن يتعاملوا معهم دون قواعد، فقط أن يتخذوا كل التدابير الممكنة التى تخطر على بالهم للسيطرة عليهم دون أى مساءلة من أى نوع.. وتركهم لحالهم وراح يراقب النتائج عبر شاشات خاصة ويدونها أولا بأول.

1- حدث تغيير كبير فى شخصية الطلاب الحراس، إذا اكتسبوا خشونة لم تكن فيهم أصلا فى التعامل مع الطلاب المساجين، ثم تحولت الخشونة إلى عنف وتعذيب زملائهم بقسوة، ومن فرط استمتاعهم بالتجربة عمل كثير منهم ساعات إضافية دون أى مقابل، المدهش أن هؤلاء الطلاب الحراس كانوا معروفين بتهذيبهم وهدوئهم وتفوقهم الدراسى، وهو التفوق الذى مكنهم من الالتحاق بجامعة ستانفورد العريقة.

2- تحمل السجناء الممارسات السادية والمهينة، كالعرى والتحرش الجنسى، ثم تعودوا عليها، ولم يتمردوا على التجربة التى صارت بالنسبة لهم حياة حقيقية، ثم بدت اضطرابات عاطفية على بعضهم.

لم يتوقف زيمباردو عن التجربة القاسية إلا بعد أن ذاعت تفاصيلها، وأثارت جدلا هائلا فى الأوساط العلمية، لكنها أثبتت أن السلطة المطلقة تخرج أسوأ ما فى النفس البشرية، سواء على الذين يتمتعون بها أو الذين تمارس عليهم.

شكرا للسينما المصرية وهى تفسر جانبا من حياة الناس، حتى لو كان تفسيرا منقوصا.