الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الوعى  وأزمة الجاهل العبقرى

الوعى وأزمة الجاهل العبقرى

لنا مثل شعبى شهير، نصفه جميل ونصفه قبيح، يقول المثل: «اعطى العيش لخبازه ولو سرق نصه»، شىء منطقى أن نعطى العيش لخبازه، فهو الخبير الفاهم الشاطر، الذى يجيد الصنعة ويتقن المهنة، لكن لماذا ربطت عقولنا بين «الإتقان» و«لو»؟، ربما لأن حظ المصريين مع أصحاب المهارة والكفاءة والشطارة « دون أن يكونوا «حرامية»، كان ضئيلا، عبر تاريخهم الطويل، وإلا ما اخترعوا هذا المثل.



 

ويبدو أن المصريين فى هذا الزمان لم يعودوا يؤمنون بهذا المثل، لا أقصد أنهم يرفضون ربط الشطارة بالسرقة، فنبزوا الخباز الشاطر الذى يمد يده إلى نصف خبزهم، وإنما أقصد أنهم تخلوا عن إتاحة أى مساحة أصلا للخباز الشاطر فى أفرانهم، وباتوا يتساهلون ويقبلون أى خباز دون التمسك بشطارته، مهما لخبط العجين، أو حرق العيش أو خبزه ملعبكا أو مُعجنا»، لا يهم.. المهم أنه عيش والسلام.

باختصار.. صارت الفهلوة أهم من الشطارة والمهارة والمعرفة.

لهذا نفتقد الجودة فى مهن كثيرة، قطعا مصر متخمة بالأكفاء المهرة الموهوبين القادرين على إتقان أعمالهم، لكن «تقليب العيش والاستسهال» هما الفكرة المسيطرة، وصنعت التيار الأعم الغالب، رافعين شعارا شائعا «يا عم خلص وبلاش وجع دماغ».

لكن أخطر أنواع «الفهلوة» وأشدها ضررا، الفهلوة التى تمس العقل والوعى، فأى خسائر مادية من غياب الجودة والإتقان فى العمل يسهل تعويضها أو تحملها والتخلص منها،، لكن خسائر الوعى والعقل باهظة ممتدة التأثير وبطيئة فى العلاج، وتفسد عجلة الحياة نفسها. وقد انتجت ثقافة الفهلوة ظاهرة تنامت مع الألفية الجديدة، أى زاد عمرها الآن على عشرين سنة، وهى «الجاهل العبقرى»، والجهل ليس هو عدم المعرفة بالقراءة والكتابة، هذه أمية، الجهل نمط فى التفكير والتصرفات وإشاعة آراء وخواطر مشوهة لا تستند إلى معارف حقيقية، والمعارف غير المعلومات، فالمعارف لها قدرة على التفسير والتحليل، أما المعلومات فهى المادة الخام التى تصنع منها المعرفة، وقد تُصنع بطريقة صحيحة تنتهى إلى بنايات من الأفكار والمفاهيم والرؤى تقود صاحبها فى مسارات الحياة العامة والخاصة، أو التى تتراكم فى العقل، كما تتراكم الكراكيب فى مخزن المخلفات، فلا وظيفة لها.. ولا دور فى حياة أصحابها.

دعونى أروى لكم هذه الحكاية الواقعية..

كنا فى أوائل المرحلة الإعدادية، ثلاثة صبية مغرمون بالمعرفة والقراءة والتعليم، ولم أكن أفضلهم، ومعنا زميل فى نفس السنة الدراسية ولكن فى التعليم الخاص، والتعليم الخاص على أيامنا كان «سبةً» وقلة قيمة، موقوفا على أصحاب المجاميع الضعيفة فى الشهادة الابتدائية، والتى لا يمكنها أن تعبر بهم إلى التعليم العام الجيد، وأيضا كان يضم تلاميذ أذكياء لكنهم من المشاغبين أو المهملين الذين لم يستثمروا قدراتهم بطريقة جيدة، ربما لأسباب تتعلق بعائلاتهم وأساليب التربية التى تعاملوا بها معهم.

المهم أن زميلنا فى التعليم الخاص كان أحيانا يأتى الينا ونحن وقوف على ناصية الشارع، كل منا فى جيبة ورقة بها مجموعة من الأسئلة فى اللغة العربية أو الإنجليزية أو التاريخ الذى نعشقه أو الرياضيات خاصة فى مسائل الجبر والهندسة بكل تعقيداتها وألغازها، نلقيها على بعضنا البعض، نختبر مدى قدرتنا على التحصيل العلمى والتعليمى، ونكتشف منها نقاط الضعف التى سقطنها فيها ويجب أن نجد لها حلا.

فى الغالب لم نكن نوجه إلى هذا الزميل أية أسئلة، فيغضب، ويتركنا.

وأحيانا بعد أن نلعب سويا الكرة الشراب فى الشارع، يغيب ساعة أو ساعتين ثم يعود مناديا علينا، أيامها لم تكن شوارع القاهرة قد تكدست بالبشر، وتحولت إلى جراجات للسيارات الخاصة والميكروباصات والتكاتك، أو تخنقها المقاهى والأكشاك والباعة الجائلون، فننزل إليه تباعا من بيوتنا القريبة المتلاصقة، فيقول متباهيا: انتهيت من كتاب التاريخ أو الجغرفيا أو النحو والصرف..الخ.

كنا نتعجب، وتمسك بنا الدهشة، كيف ينتهى من كتاب فى ساعة أو ساعتين، بينما الدرس الواحد يستهلك هذه الساعة فى غمضة عين وأحيانا ساعتين، فى الأول كنا نصدقه، ونبدأ نسأله فى معلومات أساسية فى جغرافيا قارة آسيا أو أسباب ثورة القاهرة الأولى على الحملة الفرنسية أو ما هى صيغ الممنوع من الصرف، فينظر إلينا كما لو أننا كائنات فضائية تتحدث لغة لا يفهمها!

وحين تكررت الأسئلة والصمت مرات، لم نعد نهتم بما يقول، وذات مرة أصر علينا، فسألناه: كيف تذاكر؟، وعرفنا منه أن يقرأ عناوين الفصول، ثم عناوين الموضوعات الرئيسية والفرعية، ويظن انه خلص الكتاب فى «قعدة واحدة»، المدهش أنه كان يقاوحنا بصوت عال جدا، كلما انكرنا إجاباته غير الصحيحة..وطبعا فشل فى الإعدادية ولم يكمل تعليمه.

هذا هو «الجاهل العبقرى»، وإن كان قد تطور الآن، وحصل بعضهم على شهادات جامعية. بالطبع تفرقت السبل بيننا وبين هذا الزميل، ولا نلتقى إلا مصادفة كل بضع سنوات، كلما جرنا الحنين إلى مرتع الصبا.

وتصورت أن حكايته القديمة غادرت عقلى، فإذا بهى تقفز أمامى بكل تفاصيلها من وقت لآخر، كلما قابلت أو سمعت شخصيات معروفة من نوعية هذا الزميل قارئ عناوين الكتب، بعضهم يتردد على مؤسسات لها علاقة بالمعرفة والثقافة بحثا عن دور ومكانة، وبعضهم يشغل وظائف مرموقة.

وكله كوم والثقة التى يتحدثون بها كوم آخر، ثقة تصل إلى الجرأة فى الجدل، وقول أشياء قد يحسدهم عليها أصحاب المؤلفات التى يدعون أنهم قرأوها، وهم يشبهون جنرالات المقاهى الذين يغيرون مسارات الحروب والتاريخ العسكرى وربما تاريخ العالم، بإطلاق أحكام وحلول لم يفطن إليها الجنرالات والقادة الحقيقيون، يفعلون ذلك ببساطة، بل يفتون فى كل شىء تقريبا، من أول الشريعة إلى كرة القدم، من قرارات الحكومة إلى مستقبل الحرب الروسية فى أوكرانيا، وطبعا فتحت لهم شبكات التواصل الاجتماعى ملاعبها الحرة يجولون فيها ويصولون فيها، وتجد الواحد فيهم ينطع رأيا انطباعيا فى الحب أو العلاقات الزوجية أو البرلمان أو الحوار الوطنى أو الأزمة الاقتصادية أو قضايا التنمية أو قانون المحليات وانتخاباتها المؤجلة..الخ، ويكتبه بعبارات قاطعة وتعال شديد، كما لو أن السماء هى التى أوحت إليه بهذه الأفكار الجهنمية، وتكاد جماعة الإخوان وأنصارهم يتفوقون على الجميع فى هذا المضمار.

لكن المدهش أن أعداد هؤلاء الخبراء الشفاهيين زادات على شاشات الفضائيات، ضيوفا أو مذيعين يتحدثون بكلام عام يبدو فخما فى معارف لا يدركون منها إلا اسمها أو ما سمعوه فى جلسات مع أساتذة وكتاب وصحفيين كبار، وهذه مصيبة لأن أشاعة الجهل بين الناس على أساس أنه معرفة وعلم وحقيقة ورأى صائب هو عملية إظلام بطئ للعقل الجمعى للمجتمع، مد ستائر من العتمة تمنع رؤية الواقع كما هو، وحبذ لو ظل هكذا دون تفسير وتحليل، مجرد صورة فوتغرافية يمكن أن يفك شفرتها أحد العارفين فى قادم الأيام.

بالطبع يمكن أن أروى لكم عشرات الحكايات والإجابات خالية الدسم من المعرفة الصحيحة عنهم، يستغلون فيها نتف من معلومات صحيحة ثم يضخمون فيها ويلوون عنقها إلى أن تصبح فيلا لا وجود له فى الواقع، بل تصل بهم الوقاحة فى بعض الأوقات إلى حد التنظير فى علاقات إقليمية ودولية بجهل فائق الجودة، أو يتناولون أحكاما قضائية وإجراءات قانونية دون معرفة بأصولها، أو يفيضون فى الحديث عن دقائق حياة النجوم الخاصة التى يستحيل أن يلموا بها أو يعرفوها، لأنها جرت خلف الجدران العالية والأبواب المغلقة.

ويبدو أن هذه الثقافة السمعية أمسكت بكثير من الناس وصنعت حالة غوغائية واضحة فى تصرفاتنا، وهذه الغوغائية ضد الوعى أو مُفسدة للوعى، والوعى هو الإدراك لما يحيط بالإنسان فيتخذ قراراته وفق هذا الإدراك، وهذه هى خطور الثقافة السماعى التى لا تعتمد على معارف صحيحة. 

ويصعب على المجتمعات السماعية أن تعالج أزماتها وتحل مشكلاتها دون معرفة مجتمعية بها وليست فردية، معرفة تسكن العقل ولا يستخدم فيها الأُذن ولاعناوين الكتب.

نحن فى حاجة ماسة إلى غربال إعلامى يُنَقْى الفضائيات من هؤلاء الخبراء السماعى، فهم خطر شديد على وعى المجتمع.