الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
زيارة وأسئلة صادمة تبحث عن إجابات!

زيارة وأسئلة صادمة تبحث عن إجابات!

فى أوقات كثيرة تسيطر عليَّ رغبة فى الهروب من القاهرة بلا عودة، وأسال نفسى: لماذا لا أهجرها إلى مدينة ساحلية صغيرة أو إلى الريف، فالقاهرة مدينة مزعجة حقًا، ضوضاء وتكدس وتكاتك وسُباب وقلة ذوق وفوضى شوارع وسطو على الأرصفة وتوتر وتلف أعصاب، وإن كانت تخلع قبحها فى عز الليل، ليعود لها بعض جمالها القديم الساحر.



لكن تبدو العادة أقوى من أى رغبة، فلا أهجرها، وأظل مثل بطل أغريقى ملعون مصلوب بين العشق والكراهية.

قبل أيام شدنى الرحال إلى قريتى على الرياح المنوفى، من ثلاث سنوات ربما أكثر لم أذهب إليها، رحيل الأحبة والأقربين إلى العالم الآخر يقطع الروابط مع الأماكن، ولم تعد العلاقات بالأجيال الجديدة فى متانة التى تقطعت، كما أن الريف لم يعد ريفًا، وأجرى أهله عمليات تجميل غشيمة، غيرت شكله وملامحه ليبدو مثل المدينة، فصار مسخًا مشوهًا، بين الريف والحضر، دُورُه انقلبت إلى علب من الحديد والأسمنت والأعمدة الخرسانية، نشاز على البيئة المحيطة بها، وزاد الطين بلة عمليات ذبح الأشجار على الرياحين والترع والطرق وأمام الدور «جمع دار». 

 قدت سيارتى على الطريق الرئيسى خفيفًا هادئًا أتطلع إلى كل غصن أخضر، وعصفور محلق وأى دار قديمة والغيطان الممتدة فى الأفق، أستمتع بها كأننى أراها لأول مرة، ثم انحرفت إلى طريق جانبى قديم ضيق مواز للرياح، وتجول بصرى بين المحال والأزقة والأسطح المتراكم عليها أطباق الدش، علامات العصر متناثرة فى كل ركن، من أول السوبر ماركت إلى الكمبيوتر، بل وجدت بقالة فى قرية معلق على بابها يافطة «هنا تباع منتجات..»، ومكتوب اسم سلسلة سوبر ماركت شهيرة زبائنه من علية القوم.

عادت بى الذاكرة إلى الطفولة فى أوائل الستينيات، وقتها لم يكن بالقرية كلها تليفزيون واحد، فقط بضعة راديوهات نتحلق حولها فى مسلسل الخامسة وربع عصرًا، والبقال الوحيد لا يبيع إلا أشياء بسيطة، سكر وشاى وحلاوة طحينية وزيت، أحيانا بالمقايضة مقابل سلع أخرى كالبيض والجبن وكيزان الذرة والسمن، والجزار لا يذبح إلا كل يوم خميس وفى المواسم والأعياد، لا كهرباء لا ماء نظيف لا مرافق، الحياة بسيطة وبدائية إلى حد كبير.

باختصار كان الفقر كظل الحياة تحس به فى كل زقاق، والجهل كالذباب يحط على عقول لا تهشه.

قطعا.. أحوال المصريين المعيشية الآن أحسن مائة مرة، لعب فيها الزمن والتطور دورًا، ولعبت فلوس النفط دورًا أكبر.

لكن جوهر التخلف هو هو.. ربما أشد.

التخلف الذى أقصده هو حال العقل ونمط التفكير السائد والسلوك العام.

لكن كنا نحن غارقين فى الأحلام، أحلام النهضة والتقدم وبناء حياة عصرية، كانت الوجوه متعلمة أو نصف متعلمة أو أمية تنضح بالبشر والتفاؤل، كان نادرا ما تجد من يجأر طوال الوقت بالشكوى، لم يكن الحال عال العال، لكن التفكير كان منصبا على العمل وإتقانه وتغيير هذا الحال وليس مجرد الصراخ والأنين.

بينما الآن سواء كنا مستورين جدا نركب سيارات أحدث موديل ونتفرج على القنوات الفضائية المشفرة ونأكل السيمون فيميه ونسهر على عزف الموسيقى ونلبس على الطريقة الأمريكية ونتحدث بنصف لسان أعجمى ونصيف على الساحل الشمالى ونشتى فى شرم الشيخ، أو بسطاء على باب الله نعيش والسلام، لا يتقابل مصرى وآخر إلا وكانت الشكوى ثالثهما.

لم تعد عبارة : سمعت آخر نكتة هى طبق الحلو فى أى لقاء، تراجعت أمام حكايات الأسعار ونظام التعليم ومشكلات العيال وسعر الدولار وأزمات البيوت واستغلال التجار،لا فرق بين من يكسب مليون جنيه أو مائة جنيه، من يركب شبح أو يركب رجليه، من يسكن قصرا أو حجرتين وصالة خمسين مترا، من يعلم أولاده فى الجامعات الخاصة أو فى ورشة الأسطى حنفى، من يصيف فى مايوركا أو يتسول فى الشوارع.

أحاديث تقلب المزاج وتستفز القلق..

فى الماضى.. كنا نعرف أننا فى أزمة.. لكن نحاول النهوض منها..ونحلم ونعمل.

الآن.. ندرك أننا فى أزمة.. لكننا نشكوى أكثر مما نحلم ونعمل..

هنا السؤال واجب: كيف تغيرت حياتنا المادية ولبست ثيابا عصريا، لكن سلوكياتنا وتصرفاتنا تراجعت وأخذت شكلا أقل انضباطا؟

كيف زادت أعداد المدارس والجامعات والمستشفيات وأجهزة التليفزيون والكمبيوتر والشوارع المرصوفة والطرق العامة والقطارات السريعة والأتوبيسات المكيفة والسيارات الخاصة وأموال البنوك.. لكن أداء الإنسان أضعف وثقافته أخف ونهضته الحضارية أقل؟

كيف تعلمت البنات ثم غطين عقولهن بثياب سوداء قبل أجسادهن باعتبارهن «عورة وغواية» باسم الدين؟

كيف تقدمنا فى شكل الحياة وتخلفنا فى جوهرها؟

قبل أن نجيب بحثا عن باب إلى مستقبل لامع دعونى أكمل لكم الحكاية..

حين وصلت إلى دوار العمدة، وهو مهندس بترول مثقف ثقافة رفيعة، ورث العمودية عن عائلته حتى لا تخرج منها، كانت ثمة مشكلة عائلية بين أفراد من القرية يطلبون مشورته، وحين تقدم طرف وأقسم بالله، مال العمدة ناحيتى وهمس: لقد بدأ صاحبنا يكذب!

بعد الأخذ والرد وانفضاض المجلس، سألته: ما حكاية أنه يكذب؟

أجاب: الخبرة.. أنا هنا منذ مدة طويلة وتعاملت مع أهالى من كل القرى المجاورة، فى البداية تصورت أن كل من يقسم يكون صادقا وبعدها تبين لى عكس ذلك!

سألته: لى ملاحظة أخرى وهى قراءة الفاتحة فى كل تعامل كالبيع والشراء والقرض وفض الاشتباكات، وحدث ذلك معى بالسوق الكبيرة فى قرية قريبة.

أجابنى: الفاتحة هى الدمغة الشعبية لا يجوز الحديث دونها..مجرد عادة مثلها مثل القسم! سألته: وكيف حدث هذا؟

قال: تقليد القدوة، والقدوة هنا أدعياء الدين، وهم كثيرون ومنتشرون كالأنفلونزا المعدية ولهم سطوة، وهم من أخطر أسباب التخلف فى الريف المصرى، الدين تجارتهم الرابحة التى تدر عليهم المكاسب والمزايا، يفتون فى كل شىء وأى شىء، ولا يتورعون عن القسم وقراءة الفاتحة للحفاظ على هذه المكاسب.

أصابتنى الدهشة بالصمت ورحت أفحص بعقلى أحوالنا اليومية.

كم منا يتقن عمله دون رقابة أو يؤدى واجبه على أكمل وجه؟

كم منا يراعى جاره أو يعترف بحقوق الآخر ويحترمها أو يلتزم بقواعد المشى فى الشارع سيرا على الأقدام أو بالسيارة؟

كم منا لا ينافق رئيسه فى العمل ويكاد ينحنى أمامه أو يلتزم بميثاق شرف داخلى فى تعاملاته ومعاملاته؟

كم منا يصرخ قائلا: لم يعد فيه أخلاق ولا ضمير؟

السؤال لنا جميعا بلا استثناء، الوزير والغفير، الطبيب والسباك، المهندس والمدرس، أستاذ الجامعة والبائع، الضابط والجزار، الطيار وسائق التاكسى، الصحفى والكهربائى، المحامى والبقال، الموظف وماسح الأحذية، الصيدلى والطالب، العامل والعاطل.

بالقطع..لو قلنا صدقا لن تكون الإجابة فى صالحنا.. وإلا كنا فى مقدمة الأمم.

يا ترى ما السبب؟،

أتصور أن الأزمة فى أحد جوانبها هى «عوادم» منظومة القيم التى تحكم حياتنا. نعم نحن فى أزمة قيم، وهى أفدح مشكلاتنا على الإطلاق..

ومنظومة القيم ليست مجرد الأخلاق، هى أشمل منها بكثير، هى الوقود الذى يدير تصرفاتنا، هى الدوافع التى تحركنا، هى آلة الجر التى ندير بها الحياة، هى مجموعة المعايير التى تضبط أى أداء لنا: صغيرا أو كبيرا، مهما أو تافها، دائما أو مؤقتا، فرديا أو جماعيا.

 

منظومة القيم هى سلوكياتنا فى ديوان الوزارة ورواق الجامعة وعيادة الطبيب وعنبر المصنع، وإدارة الشركة وغرفة العمليات ومكتب الهندسة وقاعة المحكمة ومعمل الأبحاث وعمارات السكن وعربة الميكروباص ونقابات المهنيين وورش الفنيين ومجلس النواب.

 

منظومة القيم هى العمل والسوق والمقهى والشارع والنادى والشاطئ والمنتدى والملهى والفرح والمأتم.

ومنظومة قيمنا تحتاج إلى إصلاح شامل، إذ تشبه غربالا عيونه أوسع من عين الشمس يمر منها سلوك منحرف بحجم فيل.

ولو نظرنا إلى قيم العمل وإتقانه، والبحث العلمى والترقى والتعامل مع الوقت والنزاهة والشفافية.. إلخ

كيف حلت الفهلوة محل إتقان العمل؟

كيف تمكن النفاق من زحزحة الجدية من مكانها؟

كيف سيطرت المجاملات على الحياة العلمية والمهنية؟

كيف توحش الطموح الفردى إلى هذا الحد؟

كيف صارت سيرة الناس مباحة بهذه السهولة؟

بالطبع.. نحن فى أزمة، لكن لا أود أن نكتفى بالشكوى منها.

 وقبل أن نسأل ونعك وندخل فى أحاديث وحاسبات، هل يمكن أن يبدأ كل منا بنفسه ولا ينتظر الدولة.. حتى نمثل قوة ضغط عليها تجبرها على إعلاء شأن منظومة القيم الجميلة وتغيير النظام العام، نعم فالانضباط العام هو الذى يضبط تصرفات الأفراد ومنظومة قيمهم.