الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
صرخة محمد أفندى عمر وتحديث مصر!

صرخة محمد أفندى عمر وتحديث مصر!

أرجوكم لا تعصروا أذهانكم، ولا تفكروا كثيرًا أو قليلاً، ولا تسألوا أنفسكم: من هو محمد أفندى عمر هذا وما علاقته بتحديث مصر؟، مؤكد إنكم لا تعرفونه، فهو شخص مجهول، لا سيرة ذاتية له ولا نعرف متى ولد ولا متى رحل عن عالمنا، مجرد موظف فى البوستة المصرية فى أوائل القرن العشرين، والبوستة المصرية أسسها الخديو إسماعيل فى عام 1865، بعد أن اشترى مشروع البوستة الأوروبية من الخواجة الإيطالى «موتسى»، فالأجانب هم الذين بدأوا مكاتب البريد فى مصر سنة 1831، تسهيلاً لمرسلاتهم مع دولهم ذات النفوذ فى البلاد، ثم سميت هيئة البريد المصرى فى عام 1957.



نعم مجرد موظف بريد، لكنه مصرى قُحّ، كان مهمومًا بوطنه، يحلم بخروجه من مستنقع التخلف والفقر والجهل، فجلس إلى نفسه وأمسك قرطاسه والمحبرة والقلم البوص، وهى أدوات الكتابة فى ذلك الزمان، وراح يسجل شهادته ويدون رؤيته فى «حاضر المصريين أو سر تأخرهم»، كتاب مهم جدًا نشره فى عام 1902، لكن المصريين ألقوه خلف ظهورهم ولم يلتفتوا إليه، فهو لا أحمد لطفى السيد، ولا قاسم أمين ولا عبدالرحمن الكواكبى، ولا الشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد الرنانة فى ذلك الزمان، هو من آحاد الناس ودخل إلى معارف معقدة ومتشابكة عن «الحضارة وأسبابها والتخلف ومظاهره».

المهم أن الكتاب ظل مطويًا ومنسيًا قرابة قرن من الزمان، حتى أعيد طبعه مع نهايات القرن العشرين، واقتنيتُ منه طبعتان بالمصادفة، طبعة قدمها الدكتور مجدى عبدالحافظ بدراسة عن أحمد فتحى زغلول باشا، وسوف تعرفون السبب لاحقًا، وطبعةٌ حققها الأديب الكبير مجيد طوبيا الذى رحل عن عالمنا فى أبريل 2022، وأيضًا لم ينل الكتاب حظه من الشيوع والانتشار.

المدهش أنه كلما قلبتُ فى الكتاب وأعدت قراءته، لا تفارقنى الصدمة، كتاب عمره أكثر من مئة وعشرين سنة عن مصر وأحوال المصريين وسلوكياتهم، كأنه يصفهم الآن مع فارق طبعًا فى تفاصيل تتعلق بـ«أساليب الحياة» راجعة إلى التقدم التكنولوجى المذهل، لكن «الجوهر» يكاد يتطابق أو طرأ عليه تغيير فى الشكل دون أن يمس «نواته الذرية».

وكلما انتهيت من قراءته يقفز سؤال من بين سطوره: كيف قرر محمد أفندى عمر موظف البوستة المصرية أن يكسر روتين الموظفين الممل ويخرج على المألوف ويدلو بدلوه فى شأن مصر المحروسة؟

نعم هو مهموم بوطنه، لكنها مهمة شاقة جدًا، وبعيدة عن ثقافته وعالمه، قد يدردش عنها فى مقهى شعبى مع أصدقائه كما نفعل جميعًا أو على عزومة على العشاء، أو فى نزهة بحديقة الأزبكية، لكن أن يجلس ويكتب، وينبه أولاد بلده إلى خطر التخلف المحيط بهم، فقطعًا هو مصرى عظيم، لم يتسمر عند حدود مصالحه الشخصية وانشغل بأهل مصر أجمعين، دون أن يعير اهتمامًا بالمقولة الخبيثة الخائبة «يا عم وأنا مالى».

ويبدو أن محمد أفندى عمر قد قرأ كتاب «سر تقدم الإنجليز السكسونيين» لعالم الاجتماع التربوى «إدمون دومولان»، وترجمه إلى العربية القاضى أحمد فتحى زغلول باشا، شقيق الزعيم سعد زغلول، ورئيس محمكة مصر الابتدائية، وأحمد زغلول شخصية مثيرة للجدل، بسبب تناقضاتها الكثيرة، بين حب الوطن والانتهازية السياسية التى جعلته على علاقة ود باللورد كرومر المندوب السامى للاحتلال البريطانى، فكان قاضيًا فى محاكمات «دنشوى»، التى أعدمت عددًا من الفلاحين المصريين أمام أهاليهم، وهو الذى صاغ حيثيات الحكم، وفى الوقت نفسه هو من رواد حركة الترجمة باعتبارها جسرًا إلى المعارف الحديثة الضرورية لارتقاء وطنه، وساهم فى وضع العديد من القوانين الجديدة ونظم المعاهد الدينية الأزهرية.

ومؤكد أن محمد أفندى عمر تأثر جدًا بما كتبه «إدمون دومولان» عن أسباب تفوق «السكسونيين» حضاريًا، لم يكن إدمون يقصد بريطانيا فقط، وإنما العرق السكسونى عامة فى أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، لكنه خص الإنجليز بالمساحة الأكبر من الكتاب، فالأمريكان وقتها كانوا معزولين خلف المحيطين الأطلنطى والهادى، ولم تكن أطماعهم فى قيادة العالم قد تشكلت بعد، ولم يعلنوا عن أنفسهم خارجيًا إلا بعد الحرب العالمية الأولى.

المهم أن محمد أفندى لم يمض على درب إدمون دومولان ومنهجه كاملا، فـ«دومولان» انصب اهتمامه على التعليم والتربية بالدرجة الأولى وقارن بين نظامهما فى بريطانيا وفرنسا، وقال إن التعليم من أجل الحصل على وظيفة كارثة، لأن يجعله يعتمد على الحفظ بغرض التذكر فى الامتحان ثم النسيان، وفى الغالب نجد هؤلاء المتعلمين فقراء فى مواهب البحث والتحليل، وأيضًا هم متوسطو الكفاءة فى حرفهم ومهنهم، يجب أن يكون التعليم عملاً عقليًا وثقافيًا وتربية مهارات وقدرات على التطور مع الزمن وتقلبات العصر، فلا يتعطل إذا ألغيت وظيفته أو ظهر اختراع جديد.. إلخ، وبعدها انتقل إلى مقارنة بين السلوكيات وأنماط الحياة.

أما محمد أفندى فقد قسم المجتمع المصرى إلى ثلاث طبقات اجتماعية، أغنياء ومتوسطى حال وفقراء، وراح يرصد كل صغيرة وكبيرة فى حياة المصريين، من بيوت وزواج وعشرة وتربية أولاد وتعليم وكرم وبخل وإسراف وعصبية وتعصب ومجالس وصراع أجيال (دون استخدام لهذا الوصف)، وتقاضى فى المحاكم الشرعية، واستدانة ومدارس وأوهام وأحلام وعمل وحرف ومسكرات ومغيبات وغناء، وأسماء محلات أجنبية، وحياة الأزهريين والعلماء والوعاظ والفقهاء، لم يترك شاردة ولا واردة فى حياة المصريين إلا وكتب عنها بما فيها العلاقة الخاصة بين الأزواج عند الأغنياء، وضعف العزيمة عند الفقراء.

ويا للهول تكاد تكون عاداتنا وأمراضنا هى هى لم تتغير إلا فى التفاصيل والغياب والصعود والهبوط، إذ كان ذلك المجتمع البعيد قبل مائة وعشرين سنة يناقش حجاب المرأة، والغيبات من الحسد إلى أعمال الحب والكره وزواج البنات وربط الرجال عن نسائهم، وزيادة النسل والفقر، والوقيعة بين المسلمين والمسيحيين، بيروقراطية الإدارة وتحكم الروتين، ضعف التعليم الحكومى، الأغانى الهابطة، والصحافة الصفراء، النفاق، تناقض الولاء والوفاء، غياب النمط الإنتاجى وسيادة النمط الاستهلاكى، ازدواج الشخصية والقيم بطريقة « الناس مابقاش عندها ضمير»..إلخ.. إلخ.

يا الله.. ألا يمر بنا الزمن ويعدل منا أبدا؟!، أم يمر بنا الزمن فلا نلتفت إليه إلا التفاتة متسول على قارعة الطريق، فيقول لنا: على الله.

هل يعقل أن نصنع ثورتين (1919 1952-) ونبنى مصانع ونفتح مدارس وجامعات ونرسل بعثات للخارج ونبتدع وزارات ومراكز، ونتخلص من ملوك ورؤساء، ومع ذلك نظل ندور داخل نفس الدوائر كما لو أننا فى متاهة سرمدية.

وبالمناسبة كان تعداد المصريين وقت محمد أفندى عمر قد بلغ تسعة ملابين نسمة، وارتفع عدد البنات فى المدارس إلى 763 تلميذة، وكان عدد المجانين فى المستشفيات 1899 ، خليطًا من مصريين وأتراك وسودانيين وأحباش وهنود وفرنسيين ومالطيين ويونانيين وإسبان وإنجليز وأرمن وألمان وسويسريين، فقدوا عقولهم بسبب المخدرات والكحول ومرض الزهرى والسيلان والسل وسوء التغذية والوراثة والفقر.. هكذا كتب محمد أفندى عمر.

وفى الحقيقة كل ما كتبه محمد عمر فى كتابه «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» هو مجرد توصيف أحوال دون البحث والتعمق عن الأسباب، توصيف كان يجب أن يأخذنا إلى الخطوة التالية، لكن مازلنا حتى يومنا هذا نلت ونعجن فى التوصيف، دون أن نقترب من الأسباب.

وسؤالى: كم مصريًا الآن مهموما بأسباب دوام تأخر المصريين إلى القرن الحادى والعشرين كأنهم متجمدون عند حالة حضارية غير قادرين على التخلص منها؟

والتحضر ليس هو الإنترنت والفضائيات وركوب الطائرة والتصيف فى مارينا أو الريفييرا، ولا قيادة السيارات الحديثة أو التوكتوك، ولا المحاورات الخاصة على الموبايلات، ولا كتابة توتيتات وبوستات على مواقع التواصل الاجتماعى، أو انتخابات حرة وشفافة أو القدرة على تغيير المناصب السيادية كل بضع سنوات، هذه مظاهر التحضر، والتحضر أن يكون المرء متمدينًا قادرًا على «استخدام» منتجات الحضارة، مجرد مستهلك دون أن يكون له دور فى إنتاجها أو إدراك القيم خلف عمليات الإنتاج.

الحضارة ليست تاريخًا فى أجندة نحملها أو مكتوبًا على جريدة نقرأها أو فى برنامج «توك شو» نتابعه، الحضارة حالة عقلية وفكرية وثقافية وقيمية تحكم كل تصرفات أهلها فى كل جنبات حياتهم، أى هى أسلوب معيشى يعتاد عليه الفرد من تفاصيل صغيرة إلى تفاصيل أكبر يحياها فى مجتمعه، ولا تعنى استخدامه أحدث وسائل المعيشة، بل تعامله هو كإنسان مع الأشياء المادية والمعنوية التى تدور حوله وشعوره الإنسانى تجاهها.

وطبعا الحضارة هى نظام عام يتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد والقيم، ومتابعة العلوم والفنون.

والحضارة هى القدرة على امتلاك المعرفة والعلوم والفنون والإبداع الدائم فيها.