الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ولماذا لا يعمل كل المصريين بجدية؟

ولماذا لا يعمل كل المصريين بجدية؟

جار جديد فى شقة مجاورة، شاب بشوش فى الثلاثينيات يفيض «مصرية»، وقد تتعجبون من صفة «المصرية» التى ألحقتها به.. ألسنا جميعًا مصريين بحكم المولد وشهادة الميلاد والبشرة والملامح واللكنة وجواز السفر؟.. نعم، لكن «المصرية» تعنى لى شيئًا إضافيًا وهو «ابن بلد»، وابن البلد تعبير نحته أهل القاهرة بعد أن احتل العثمانيون مصر بفترة غير قليلة، تمييزًا لهم عن الأجانب أصحاب الامتيازات سواء الأتراك أو المماليك، الذين كانوا يأخذون خير البلد دون أهلها ويتعالون على ناسها، وبمرور الزمن وفعل الأحداث والحوادث اكتسب الوصف معانى نفسية وأخلاقية جديدة ترادف البشاشة والجدعنة والشهامة والمروءة.. إلخ.



وكلنا إلى حد كبير «أولاد بلد» بجد..

لكن تحت سيف الزحام ولقمة العيش المراوغة وانكماش فرص الحياة الكريمة وتباطؤ التنمية وطغيان ثقافة الفهلوة والكسب السريع توارت نسبيًا تلك الصفات عند البعض، أو اختفت أو انسحبت مثل المهن القديمة التى تفككها المعارف والتكنولوجيا بأدوات حديثة ومخترعات جديدة.

 وقطعًا لا يكون السبب فى غياب «أخلاق ابن البلد» إلى عيب ما فى هؤلاء الناس، فالناس يعيشون حسب «الظروف» المتاحة المحيطة بهم، وحين يزيل الزحام مساحات الراحة والخصوصية والتنفس الطبيعى بينهم، أو تمسك النيران فى عربة يركبونها، فلا تنتظر منهم أن يتصرفوا كالملائكة أو النبلاء أو القديسين، فمن المؤكد أن ينحرفوا إلى تصرفات قاسية لها دافع وحيد «أنا ومن بعدى الطوفان».

باختصار كلما اتسعت المسافة بين ما يحتاجه الإنسان وما يتوافر له، ينكمش أجمل ما فيه وتتسلل إليه صفات قبيحة فى تصرفاته وتعاملاته مع الآخرين فى كل جنبات الحياة.

ومع ذلك تظل أخلاق «أولاد البلد» ساكنة تحت جلودنا وتصادفنا بعطرها الفريد فى سلوك بشر يصرون عليها!

المهم أن جارى الجديد تعاقد مع مقاول تشطيب، فنظرت إلى السماء مشفقا ودعوت له: كان الله فى عونه فى رحلة عذاب شاقة، ربما تنتهى بشق الأنفس أو بشق الجيوب، أو بهما معًا.

ودعوتى كانت ثمرة خبرة طويلة فى التعامل مع «الحرفيين والعمال».. وأظن أنكم جميعًا جربتم هذه الخبرة المؤلمة بشكل أو بآخر، وأظنكم تتساءلون بدهشة: ماذا حدث لنا؟!..أين ضاع إتقان العمل واحترام المواعيد وعدم المبالغة فى الأجر؟!، وأعرف أناسًا لا يصلحون أشياءهم حين يضربها العطب، وإنما يستبدلونها تحت إكراه «نغرم وندفع ولا نسلم أنفسنا لصنايعى»، وهذا لا يمنع من وجود أسطوات فى غاية الجدية والإتقان والقناعة، لكن العثور عليهم يحتاج إلى جهد أكبر من جهد طالب شاطر فى الثانوية العامة يحلم بكلية الطب.

عمومًا لا أود أن أظلم صنايعية «فقدوا الالتزام»، فعدد غير قليل من أصحاب مهن أخرى مضوا على هذا الدرب المعوج، أطباء، محامون، مهندسون، صحفيون، باحثون، مدرسون، وأساتذة جامعة.. إلخ، وتحكمهم رؤية فى غاية الغرابة: أنهم يجب أن يأخذوا أكثر مما يعطون.. أن يكسبوا أكثر مما يحق لهم، فالشائع أننا جميعًا إلا قليلاً نظن أننا نستحق أكثر مما ننال فعلاً.

أما كثير من العاملين فى الوزارات والمؤسسات العامة، فهم يرفعون شعارًا قديمًا «العمل قد فلوس الحكومة».

نعود إلى جارى وحين بدأ الخبط والدق و«الرزع»، رحت أراقب «العمل والعمال» بدقة، أود أن ينتهوا بسرعة من عمليات الهدم التى أقلقت مضجعى وأودت بتركيزى كلما هممت بالقراءة أو الكتابة..فشد انتباهى شىء مذهل تصورت أنه اختفى من حياتنا، وهو العمل بنشاط ودأب والأداء بإتقان وذمة.

قلت فى نفسى: ربما صاحب الشقة يراقبهم.

كان من المستحيل أن أفكر فى سبب آخر.

قبل سنتين عاد صديق من ألمانيا بعد سبع سنوات عمل فيها هناك وشغل وظيفة مرموقة فى شركة عابرة للقارات، ولم تكن تشغله العودة مطلقا، لكن حين كبر أولاده واقتربوا من سن المراهقة، خاف عليهم من «ثقافة حقوق المثليين» التى زحفت واحتلت حيزًا محسوسًا من الوجود الاجتماعى، فى مناهج التدريس، فى برامج التليفزيون، فى الحوارات العادية.. فآثر السلامة واتخذ قراره، وراح يجدد تشطيب شقته، فعانى الأمرين، وما كاد يرتاح حتى اضطر إلى فتح الملف بإصلاح بعض العيوب التى تركها الصنايعية.

وحين واسيته قال: لو نعمل بنظام واضح كما فى ألمانيا، ما حدثت كل هذه البهدلة والخناقات مع الصنايعية أو حتى مع شركات التشطيب.

سألته: كيف؟

قال: فى ألمانيا مستحيل أن يعمل صنايعى دون ترخيص، أيًا كانت الصنعة، حتى شغالات البيوت بالترخيص، حلاقة الشعر، غسيل السيارات، نجارة الدواليب والأبواب، عمال الكافيهات.. إلخ، ويستحيل أن يحصل على الرخصة إلا بعد الدراسة فى مراكز تدريب مهنى، تختلف فيها سنوات الدراسة والتدريب العملى معا حسب نوع «الصنعة»، وتوجد لائحة أجور محددة لكل «عمل»، والأجر بالساعة (25 يورو)، ولا يبدأ الصنايعى مهمته دون أن يبلغ العميل «الوقت» المطلوب لإنجاز عمله حسب تقديره، حتى يعرف العميل قيمة ما يدفع ويوافق عليه، ويسلمك العامل «شغله» كاملاً وبجودة عالية.

باختصار.. كل شىء منظم وفق لوائح محددة مدونة فى كتاب، وهذا لا يمنع «الشغل الأسود»، هكذا يسميه الألمان، وأغلبه من عمال أجانب يتقاضون أجرًا أقل، ولا يدفعون ضرائب، لكن «شغلهم» لا يحميه القانون إذا حدث غش أو سوء تنفيذ، وهو نادر الحدوث.

هل يمكن أن نصنع نظامًا للصنايعية فى بلادنا مشابهًا حسب ظروفنا؟

 قبل أيام فى سهرة مع بعض الأصدقاء على شرف ضيوف من دولة عربية خليجية، وحَلَقَ الحديث خفيفًا متنقلاً من السياسة إلى الدين، من المرأة إلى العادات، من الفن إلى الاقتصاد، فسألت مصريًا يعمل هناك منذ خمس سنوات فى وظيفة مرموقة تتيح له أن يعرف الكثير من شئون الناس والمجتمع: ما حال العمالة المصرية الآن؟

قال فى أسى: غير جيدة بالمرة.

سألته: تقصد فى المهارة الفنية.

قال: ليست هذه المشكلة، المهارة موجودة لكن فى التصرفات الحرفية.

قلت: لا أفهم؟

قال: عمالة متعبة جدًا، إذا لم تضعها تحت المراقبة تتفنن فى إضاعة وقت العمل، أو لا تتقن ما تعمل، خذ مثلاً بوابًا فى بناية ضخمة أسكن فيها، كان مصريًا.. فى أول قدومه كان مجدًا نشيطًا يبادر من نفسه بكل الأعمال المطلوبة منه، بعد ثلاثة أشهر فقط مال إلى الدعة والراحة، لا يتحرك إلا بالأمر والتوبيخ، وإذا غسل سيارة ساكن بالإلحاح والضغط يريد بقشيشًا إضافيًا وفوريًا، وبات يجلس على باب البناية وأحيانًا يطبخ فى مدخلها.. وقد أنذرناه مرتين وثلاثة وأربعة.. ناهيك عن مطالبه التى لا تتوقف مثل عقد لواحد قريبه، فاستبدلنا به بوابًا هنديًا وقد مرت تسعة أشهر وهو يؤدى عمله فى صمت ومثابرة.

سكت محدثى قليلاً.. وتنهد وقال: وبسبب هذا العمالة الآسيوية الآن هى الأكثر عددًا، هنودًا وباكستانيين وفلبينيين بعدما كان المصريون رقم واحد.

فقلت: لا أتصور أن كل العمالة المصرية على هذا النحو!

بحسم: بالقطع لا.. فيه مصريون فى منتهى المهارة والجدية والإتقان.. لكن فى المهن والإدارة العليا.

وسمعت حكايات مشابهة من أناس آخرين فى مناسبات مختلفة.

فهل يمكن أن يؤدى هؤلاء العمال فى شقة جارى واجبهم بكل هذه الجدية دون ضغط ورقابة صارمة؟

وانتابنى شك وربما حلم.

وبحجة الدق والتخبيط دخلت إليهم..سائلاً: من المسئول عن الشغل؟

رد أكبرهم سنًا وكان يقترب من العقد الرابع: سيأتى فى المساء.

فسألت: ومن يتابع عملكم؟!

رد بأدب: نحن وهو يراجع ما نفذناه حين يجىء باعتباره صاحب العمل.

انتهى التخبيط والدق والرزع، وبدأوا فى الترميم والتشطيب.

ولم أتوقف عن المتابعة.. وأنا أقول فى نفسى: يا ليتهم يستمرون على نفس الجهد دون تكاسل أو «كروتة»! وفعلاً.. لمدة تزيد على عشرين يومًا لم تتسلل إليهم فيروسات الملل أو التواكل أو ادعاء التعب والقرف من الظروف.

ودخلت الشقة بعد أن أنهوا عملهم فى زمن قياسى تمامًا، وأسعدنى ما رأيت من دقة وفن بخامات محلية ليست من تلك التى نسميها «سوبر لوكس»!

ورحت أهرش فى رأسى متعجبًا: لماذا لا نعمل بهذه الروح دومًا؟، ألا يعيش هؤلاء العمال نفس الظروف التى يعيشها الآخرون؟، لماذا هم يلزمون أنفسهم بهذه الدقة والإتقان دون رقابة؟، لماذا لم يتحججوا بالإحباط؟!

لم أعثر على إجابة شافية، وحين سألتهم أجابونى ببساطة: كل واحد يحب شغله يتفنن فيه، ولازم نراعى ضميرنا!

قلت: الدنيا بخير.

وفعلاً الدنيا بخير.