الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حتى لا يقع أهل «الحوار الوطنى» فى أوهام سياسية!

حتى لا يقع أهل «الحوار الوطنى» فى أوهام سياسية!

نفر كبير من المثقفين يتعاملون مع الحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية والدولة الحديثة وفق المعايير التى وصل إليها الغرب، كما لو أنها برشامة لو تناولها الشعب المصرى أيًا كانت ظروفه من ثقافة وتعليم وصحة واقتصاد وعلاقات اجتماعية وتقاليد وموروثات سوف يصحو فى اليوم التالى مواطنًا مختلفًا فى مجتمع مختلف عما ألفناه.



وتتشابه هذه الرؤية مع رأى ساد بعد 11 فبراير 2011، حين بهر المصريون العالم بتنظيف ميدان التحرير والميادين التى شهدت الأحداث الصاخبة بجدية وحماس وشغف، ثم أرسلوا لبعضهم البعض رسائل على تليفوناتهم المحمولة قالوا فيها: لن نرشو، لن نلقى زبالة فى الشارع، لن نعطل ونسىء إلى شوارعنا المرور، لن نسرف فى استخدام الكهرباء، لن نهمل فى أعمالنا.. إلخ، لكنهم لم ينفذوا منها حرفًا واحدًا، لسبب بسيط، وهو أن هذه السلوكيات تتشكل فى وجدان الناس وعقولهم فى سنوات طويلة وليس فى 18 يومًا ملتهبًا فى الميادين العامة، وهذا هو حال الديمقراطية أيضا، يستحيل أن تتحول إلى نمط حياة فى مجتمع إلا بعد تجارب وتمرس، فالديمقراطية ليست صندوق انتخابات نزيهًا كما يصورها البعض، الانتخابات مجرد إجراءات فى نظام يحدد منهج وأساليب عمل المؤسسات وإدارة الدولة وواجبات وحقوق المواطنين وعلاقاتهم بالسلطة ومراكز صناعة القرار، وقادر على تطوير أدواته وعلاج العوادم الناتجة عن تشغيله وحصار سلبياتها فى أضيق حيز ممكن.

لا تصنع المجتمعات ديمقراطية حديثة بين يوم وليلة، ويمكن أن نضرب ألف مثل ومثل من أول بريطانيا أقدم ديمقراطية بالمعنى الحديث فى العالم، مرورا بالولايات المتحدة، ومنهما إلى فرنسا ثم بقية دول أوروبا، واليابان وكوريا الجنوبية، وحسب مؤشر الديمقراطية العالمى 19 دولة فقط من 176 دولة، هى التى تتمتع بديمقراطية متكاملة، ليس منها الولايات المتحدة، مقابل 99 دولة تتراوح نظمها بين التسلط والديمقراطية الهشة.

والمصريون بينهم وبين الديمقراطية بالمعايير الفلسفية والقانونية فى الدولة الحديثة مسافة ما، لأسباب ثقافية بالدرجة الأولى، ثقافة المجتمع وثقافة السلطة، وهذا لا يعنى أن نظل على أحوالنا محتفظين بهذه المسافة التى قد تتسع، ومن مثالبها عوار فى تنفيذ العدالة، وزيادة رقعة الامتيازات والاستثناءات الضاربة فى بنية المجتمع، ما أقصده أن التوصيف الدقيق للواقع يتيح لنا معرفة الطريق الصحيح إلى ما نريده لمصر، وهذه الثقافة السائدة لم تتغير فى تاريخ مصر الحديث، فقط قلقلنا بعض أركانها، هدمنا أحيانًا جزءا من مكوناتها، لكن قلبها الصلب ظل متماسكا.

والمعضلة فى ثقافتنا أنها سلفية فى جانب، وأبوية فى جانب آخر.

ذات مرة من سنوات، وفى صلاة جمعة، راح إمام المسجد فى خطبته لنصف ساعة كاملة يسخر من الديمقراطية والحرية، وينعى انحطاط الأخلاق وسوء السلوك والابتعاد عن شرع الله، واتباع بدع مستوردة أفسدت علينا حياتنا، وأخذ يعدد أمثلة من مكارم الأخلاق فى زمن النبوة بين بنات الرسول وزوجاته، بالفعل كان إمام المسجد جادا ويتحدث من قلبه وهو يدافع عن الأخلاق، ولكنه لم يعرف أنه «جاهل» بماهية الأخلاق وكيف تتشكل من منظومة القيم السائدة فى المجتمع، ولا يستوعب أن منظومة القيم نفسها هى منتج نهائى من أحوال المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وليست من «الدين» منفردا.

بالقطع لا يدرك إمام الجامع أن القيم ومنها الأخلاق ليست مجرد رغبة من الإنسان أن يكون مؤدبا متحليا بها، وإنما هى حالة تُنميها البيئة وطبيعة العلاقات الاقتصادية والسياسية المسيطرة على نشاطه، يعنى يستحيل أن يتمتع الفقراء فقرا مدقعا بالأخلاق، فالجوع الذى لا يُسد والرغبات التى لا تهدأ والحاجات التى لا تُشبع ستظل ضاغطة بقوة على أعصاب أصحابها وعقولهم حتى تنهار مقاومتهم، وهذا ضعف إنسانى طبيعى.

المهم أن إمام المسجد لم يقرأ فى علم الاجتماع السياسى ولا فى علوم أخرى غير «الدين»، فلم يجد أمامه غير الديمقراطية والحرية سببا فى انهيار الأخلاق، وهو دون أن يقصد يقلب الناس ضدها.

ومعضلة الثقافة الاجتماعية أنها أبوية، قائمة على الطاعة، فالولد المؤدب هو المطيع، والتلميذ المؤدب لا يناقش أستاذه، والبنت المؤدبة لا صوت لها وتخجل من خيالها، فنحن نربط الاحترام ربطًا تعسفيًا بالطاعة وسَمَعْ الكلام «وما تردش عليا»، فى البيت والمدرسة والجامع والكنيسة والشغل والحزب والنقابة والجمعية الأهلية، واللى أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة، يعنى لازم تسمع كلامه وتسلم بما يقول، بل إن الجماعات الدينية صنعت لنفسها أمراء قطاع خاص يؤمرون فيُطاعون حتى الموت، نهيك عن الشيوخ والدعاة والمرشد العام.. إلخ، أى جعلنا الطاعة العمياء فى العموم فرضا دينيا، طالما لا تقترب من الشرك بالله. 

ثم نأتى إلى ثقافة السلطة، أى سلطة: أب، كبير عائلة، رئيس عمل أى عمل، أمير جماعة، مرشد عام، رجل أمن، كل هؤلاء يتحدثون دوما عن الحرية والديمقراطية بشرط ألا تقترب منهم، وقد تبعت حالة إنسان ممتاز وخلوق ورأيت ماذا صنعت فيه السلطة حين جلس على عرشها، وبالفعل تحتاج علاقة المصريين بالسلطة ممسكين بها أو خاضعين لها دراسة عميقة وجادة من المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، لعلها تضع أيدينا على التغيرات النفسية والعقلية التى تصيب عددًا كبيرًا من المصريين حين يعتلى أحدهم السلطة أى سلطة بقوتها الساحرة، وكيف يتصرف وكيف يُطاع ويُنافق، فهو يعتبر نفسه فوق الأخرين إنسانيا وليس وظيفيا فقط كما لو المنصب يحوله إلى كائن خاص من طينة غير طينة البشر الآخرين.

وثقافة التمييز بكل أشكالها عميقة الجذور فى المجتمع المصري، فصارت سلوكا طبيعيا، قد يتحدث المصريون عن المساواة والعدالة، إذا كانت تخصهم ولا تخص الأخرين، حالة غير ديمقراطية تسفر عن وجهها القبيح مع أى خلاف وتصادم فى المصالح، إذ يختفى القانون وتحكم العادات والتقاليد المنحازة للكبير ضد الصغير.

كما تتمتع مؤسسات ومهن ونقابات بامتيازات واستثناءات عامة محروم منها المصريون الذين ليسوا أعضاء فيها، ولا أطالب هنا بالمساواة فى الحقوق الوظيفية بين كل الناس، فهذا ضد المنطق وضد مصلحة الوطن، لأنه دون الاعتراف بالفروق الفردية والإمكانات الخاصة والمواهب الشخصية وتقدير أصحابها تقديرا جيدا لا سبيل إلى التقدم والتطور، لكن دون أن نجور على حقوق المصريين العاديين وفرصهم فى النمو الاجتماعى والاقتصادى والسياسى حسب أعمالهم وقدراتهم، دون أن نحبسهم داخل أوضاعهم الاجتماعية المتوارثة.

هل يعقل مثلا أن يمتلك مصريون بحرا وهواء وشاطئا ويفترض أنها من عناصر الطبيعة ذات الملكية العامة؟، هل يعقل توريث وظائف فى مؤسسة العدالة والجامعات وبعض الهيئات..الخ؟، ألا تتعامل بعض الفئات مع القطاع الذى تعمل به كما لو أن له حقا يورث لأبنائها؟، صحيح أننا بدأنا تصحيح هذه الأوضاع لكن ما زال الطريق طويلاً، ومن الواجب أن نؤسس ثقافة عامة جديدة قائمة على المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة وحقوق الإنسان، يفرضها القانون دون ثغرات مصنوعة بعناية.

بالقطع يناقش الحوار الوطنى كيفية الانتقال الديمقراطى الصحيح، وأتصوره انتقالا تدريجيا، حتى لا نصنع ديمقراطية على مقاس «الجماعات الدينية» تتفق وهوى الثقافة السلفية السائدة، وأيضا لا نريد ديمقراطية على غرار الهند، مع كامل احترامى للتجربة الهندية التى تجاوز عمرها 70 عامًا، ولم تفلح فى صناعة ما صنعته اليابان أو كوريا الجنوبية من تقدم ورفع مستوى جودة الحياة لمواطنيها، فمتوسط دخل المواطن الهندى يأتى فى المرتبة 144 على العالم، بالمناسبة مصر فى المرتبة 86، فالفقر والتفاوت الطبقى الرهيب لا يصنعان إلا ديكورا ديمقراطيا على قبح شديد، ومن يعرف غير ذلك فليدلنا وله الأجر والثواب.

أى سهل أن نصنع انتخابات نزيهة ونظل فقراء ومتخلفين، حتى لو صنعنا بعض التقدم فى جزء من جوانب حياتنا، والحل تأسيس نظام يدير الدولة: موارد وبشرا بكفاءة تُعلى من قيمة الثروة وتستخرج من البشر أقصى طاقة ممكنة منهم، ثم يوزع عوائد الثروة والسلطة بين طبقات المجتمع بطريقة أقرب للعدالة عادلة، وفيه قوانين أساليب تمنع وقوع مظالم اقتصادية واجتماعية فادحة على شرائح من المجتمع لأى سبب من الأسباب.

باختصار.. الدولة الحديثة لا يصنعها صندوق انتخابات نزيه فقط، فهذا وهم كبير، وإنما يصنعها نظام عام كفء وعادل.