الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كلام  فى الاقتصاد لأهل الحوار الوطنى!

كلام فى الاقتصاد لأهل الحوار الوطنى!

قد لا يتذكر كثير من الناس متى ذاعت العبارة الشائعة «إنه الاقتصاد ياغبى»، وإن كانوا يرددونها كلما حلت بهم أزمة اقتصادية أو ضربتهم «موجة من ارتفاع الأسعار»، أو زادت معدلات البطالة أو وقعت حالة كساد، وقد يزيد الطين بلة إذا تزامن التضخم والكساد فى آن واحد، وهما نقيضان إذا اجتمعا معًا فهما أشبه بتحالف الجراد والجفاف على الأرض الزراعية، أو ثورة بركانية مع عاصفة ثلجية.



 

وقد حدث فى أوائل تسعينيات القرن العشرين أن دخل الاقتصاد الأمريكى إلى نفق من الكساد، ولم يفلح جورج بوش الأب فى التعامل معه، فخرج عليه المرشح الجمهورى بيل كلينتون بالعبارة الساحرة «إنه الاقتصاد ياغبي»، وأزاحه من البيت الأبيض، ولم تشفع له نجاحاته فى السياسة الخارجية: حرب الخليج الثانية، الغزو الأمريكى لبنما، تفكك الاتحاد السوفيتى، توقيع معاهدات ستارت 1 وستارت 2، وإعلانه نهاية الحرب الباردة، فالبشر ومنهم الأمريكان يهتمون أولًا وأخيرًا بمعيشتهم اليومية، صحة وطرق وخدمات وتعليم ووظائف، ولا يعنيهم كثيرًا ما يدور خلف حدودهم، وجودة المعيشة مرتبطة بأحوال الاقتصاد ارتباطًا مباشرًا، حتى لو كانت السياسة هى طاقة التشغيل الأساسية، حتى لو كانت سياسة خارجية تقاتل من أجل المواد الخام وفتح أسواق جديدة.

ومن هنا نتابع باهتمام بالغ المناقشات الاقتصادية على مائدة الحوار الوطنى، وقد أثارت شغف المصريين قبل أى قضايا أخرى، خاصة وهم يتحدثون عن إصلاح اقتصادى كبير.

وثمة التباس فى المفاهيم بين الإصلاح المالى والإصلاح الاقتصادى، وتوجد مدرسة منتشرة تؤمن بأن الإصلاح المالى هو أهم خطوة فى طريق الإصلاح الاقتصادى، لأنه يعمل على التوازن بين أبواب الإنفاق ومصادر التمويل المتاحة، وهو ما يصد عن الدولة صعوبات مالية أكبر.

ومعروف أن إيرادات أى دولة تأتى من الرسوم والضرائب وأرباح الشركات العامة وبيع ممتلكات عامة، وإذا عجزت الإيرادات عن تغطية النفقات، تلجأ الدول إلى القروض: داخلية وخارجية، والحل «مد رجلك على قدر لحافك»، وهذا الحل لا تستطيع الدول العثور عليه، لأن احتياجات الشعوب وخدماتها ومطالبها تكبر ولا تقل، تكثر أنواعها ولا تنكمش، وهنا تأتى الروشتة الكلاسيكية سواء من صندوق النقد الدولى أو من بيوت المال العالمية كالقضاء المستعجل، بعنوان له جاذبية «القرارات الصعبة الصحيحة للإصلاحات المطلوبة»، وهو أن نمنحك قرضًا تسد به بعض عجزك، بشرط أن تبيع الخدمات العامة والسلع لمواطنيك بالسعر العالمى، وتسوق قروضها وشروطها باعتبارها بساط الريح الذى ينقل اقتصاد أى دولة من حالة الجمود أو التراجع إلى التحسن أو التقدم، مهما كانت ظروفها وهياكل اقتصادها ومستوى الأجور فيها، فارتفاع الأسعار يعنى أموالاً إضافية للخزانة العامة، تسد بها رتوقًا عارية فى جسم الإنفاق.

وهذه النوعية من الآراء محيرة للغاية، وتجعلنا نسأل: هل علم الاقتصاد انقلب حاله أو تغيرت مفاهيمه؟، هل علاج تشوهات الأسعار بإزالة الدعم أو خفضه وإحلال الأسعار العالمية فى تقديم الخدمات العامة للشعب هى الحل، وقد يكون شعبًا فقيرًا لا تقل نسبة العوز فيه عن 30 % من سكانه، أو يتراوح دخل مواطنيه من الطبقة الوسطى ما بين خمسة دولارات إلى 15 دولارًا فى اليوم، ويكاد يكون هذا حال نصف سكان المعمورة على الأقل!

دون ذكاء أو إعمال فكرى أو حسابات معقدة نستطيع أن نقول إن دول العالم الغربى وشركاتها العظمى العابرة للقارات ترتبط مصالحها ودوام غناها الفاحش بنظام سوق مفتوح يتنافس فيها العالم كله: سلعًا وخدمات بأسعار عالمية، يعنى أمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا واليابان وكندا وإيطاليا تنافس بنفس الشروط دولًا مثل بوروندى وإفريقيا الوسطى والنيجر وأفغانستان وباكستان وبوليفيا وسورينام وباراجواى.

كيف يمكن لدول لم تبدأ التعليم الحديث والتنمية والتصنيع إلا فى النصف الثانى من القرن العشرين أن تنافس دولاً قطعت قرونًا فى هذه المجالات، ولها تقاليد وتراث وقيم حديثة؟!، كيف لدول تعرضت شعوبها للنهب المنظم من دول استعمارية لعشرات السنين أن تنافس دولًا اغتصبت الموارد أو تملك موارد طبيعية هائلة؟

هل يمكن لإنسان مصاب بفقر دم مزمن أن يسابق إنسانًا يتمتع بصحة جيدة ويكاد الدم يفر من وجنتيه؟

والمنافسة محكومة، دول تطرد دولًا من الأسواق سواء محلية أو عالمية أو تترك لها «صناعات» لم تعد مجدية لها.

ليست هذه دعوة للكسل والنوم فى العسل، وإنما لفهم الشروط العادلة للمنافسة، والفوارق فى الإمكانات البشرية بين دولة ودولة؟، وهذه الفوارق تترجم إلى سلع وخدمات ونمط حياة.

فماذا حدث مع السوق الحرة التى عمل عليها الغرب فى السنوات الأربعين الأخيرة؟

وصلت ثروات ما يقرب من 2700 ملياردير فى العالم إلى 13 تريليون دولار، ربع هؤلاء المليارديرات من الولايات المتحدة وحدها، ولهم نصف هذه الثروة.

 باختصار أقل من 3000 شخص يملكون ما يزيد على إجمالى الناتج القومى السنوى لـ11 دولة من أكثر دول العالم كثافة سكانية عدا الصين واليابان، وعدد سكانها ثلاثة مليارات نسمة، فى مصر والهند وإندونيسيا والبرازيل وباكستان ونيجيريا وبنجلاديش وروسيا والمكسيك والفلبين وإثيوبيا.

ولم يكن هذا التفاوت موجودًا فى بداية الألفية الجديدة، إذ كان العالم به 470 مليارديرًا فقط، ثرواتهم أقل من 900 مليار دولار.

فأى تنافس عادل أو نصف عادل يمكن أن تتمتع به سوق مفتوحة؟، وكما قلت لا نفتش عن أعذار للكسالى ومعطوبي العقول والأنظمة السيئة، ولكن من أجل «توفير» قدر من الحماية العادلة، التى تسمح للذين نهب الاستعمار ثرواتهم وتركهم فى الجهل والفقر طويلاً أن يتنفسوا ويعملوا؟

 والسؤال الأهم: هل اقتصاد أى دولة هو السوق فقط؟، هل الاقتصاد هو علاج خلل الموازنة العامة؟، هل لو بيعت السلع والخدمات بالسعر العالمى يختفى الخلل فى الاقتصاد، وينقلب إلى اقتصاد كفء فى إنتاج السلع والخدمات؟

طيب تعالوا نعيد التصور المطروح لنرى مدى صحته، ونسأل: هل نهضت أى دولة نفذت روشتة المؤسسات الدولية؟، هل جلبت القروض الدولية استثمارات أجنبية إلى الدول المقترضة؟

هل تقدمت اليابان بالقروض مثلًا وبفتح أسواقها على البحرى للاستيراد؟

حسب معلوماتى أن أسواق اليابان فى فترة النمو بعد هزيمتها ودمار اليابان فى الحرب العالمية الثانية عزلت نفسها عن الاقتصاد العالمى لما يقرب من عشرين سنة (1950 - 1970)، وأخضعت أسواقها لضوابط شديدة، منها نظام رقابة على سوق النقد الأجنبى، وحافظت على سعر صرف «رسمي» لعملتها «الين» مقابل الدولار طوال هذه الفترة، وبعد منتصف السبعينات لم تزد الواردات الكلية للسلع المصنعة على 3 % من الناتج المحلى الإجمالى لليابان.

وكوريا الجنوبية لم تعتمد فى تجربة نموها على قدوم الاستثمارات الأجنبية المباشرة على نطاق واسع، وها هى صاحبة أكبر شركة من شركة الاتصالات العالمية، ناهيك أنها تملك أكبر ترسانة بحرية تصنع فيها السفن العملاقة جدًا.

باختصار الإصلاح الاقتصادى يتزامن مع إصلاحات مالية وربما يسبقها بخطوات حتى يشعر المواطنون بتحسن فى جودة حياتهم، فالسوق ليست أسعارًا فقط، فهي قبل كل شيء سلع وخدمات، أى زيادة مطردة فى السلع والخدمات.

   وإذا ابتعدنا عن المفاهيم العامة وتعمقنا فى أحوالنا، فالسؤال: كيف نحول اقتصادنا من اقتصاد ريع موارده الأجنبية من إيرادات قناة السويس، والعاملين فى الخارج والسياحة وتصدير المواد الخام، إلى اقتصاد صناعى زراعى يقلل من استيرادنا ويزيد من قدرتنا على التصدير؟

نريد تصنيعًا جادًا، لا نطلب منافسة الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبى ولا اليابان، بل أن نعيد المصانع المغلقة إلى العمل، وعلى الحكومة أن تفكر فى حزمة امتيازات للصناع الجادين، ولصناعة المعلومات والمعرفة، وأن نرفع مساهمة التصنيع فى الناتج المحلى من 16 % حاليًا وهى نسبة لا تليق بمصر إلى 40 % فى سنوات محددة نخططها بدقة.

لا التوكتوك ولا عربات الطعام الجاهزة ولا المقاهى والكافيهات ولا الباعة السريحة ولا شرائح الموبايل واكسسواراتها تصنع دولًا متقدمة أو تحل أزمات اقتصادية، ونريد عمالة ماهرة لا أن نستوردها.

إصلاح طرائق التفكير وإنتاج الثروة ورفع كفاءتها، أهم من الإصلاح المالى.