الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
وصايا «الوالى محمد على» للحوار الوطنى

وصايا «الوالى محمد على» للحوار الوطنى

تشغلنى روسيا من سنوات بعيدة، تحديدًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتى وتفتيته إلى دول، وكنت أتعجب كيف لدولة تملك كل هذه الثورات الاقتصادية الهائلة ولا تصبح إمبراطوية اقتصادية عظمى، مساحة هائلة من الأراضى هى الأكبر على كوكب الأرض، 17مليون كيلو متر مربع، منها مليون كيلومتر مربع أرضًا زراعية، أى 250 مليون فدان تقريبًا غابات ومحاصيل، وكميات وفيرة من الموارد الطبيعية مياه ونفط وغاز طبيعى ومعادن: حديد، ونيكل وألماس، وفوسفات، وفضة ورصاص، وذهب، وخلفها تراث ثقافى وفنى رفيع المستوى مؤثر فى العالم أجمع: أدب وموسيقى وباليه وفنون تشكيلية..إلخ.



لماذا لا تكون قوة اقتصادية عظمى، إن لم تكن رقم واحد فى العالم؟، وكيف تسبقها اليابان والصين وألمانيا والهند وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والبرازيل وكندا وكوريا الجنوبية وهي أفقر منها فى الموارد بدرجة أو بدرجات؟

مسألة محيرة جدًا، وتشى بأن ثراء الموارد الطبيعية ليس هو «أصل» التقدم، فاليابان مواردها الطبيعية على باب الله قياسًا بموارد روسيا، وناتجها المحلى الإجمالى يزيد على مثيله الروسى مرتين ونصف المرة.

ويبدو أن تلك «الأحوال الأقتصادية» التى لا تتفق مع غنى الموارد الطبيعية هى التى دفعت الخبير الاقتصادى البلجيكى «بول دو جْروى» أن يكتب دراسة عن الحرب الروسية فى أوكرانيا بعنوان «روسيا أصغر من أن تفوز»، واصفًا روسيا اقتصاديًا بأنها ليست دولة كبيرة على الإطلاق، وأن ناتجها الإجمالى (1,7 تريليون دولار)، بالكاد يعادل 10 % من الناتج المحلى الإجمالى للاتحاد الأوروبى، الذى يناصر أوكرانيا، ويزيد قليلًا عن مجموع ناتج بلجيكا وهولندا، وبالمناسبة مساحة روسيا أكبر من مساحة الدولتين بـ 234 مرة، وعدد سكانها خمسة أضعاف عدد سكانهما.

إذن أشياء أخرى غير تنوع الموارد الطبيعية وغناها هى سبب تفوق اليابان والبرازيل وكندا وكوريا الجنوبية، ولم أذكر بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا باعتبارها دولًا استعمارية «نهبت ثروات دول أخرى لسنوات طويلة، مع تفاوت قى قدر النهب».

ويبدو أن العقل الروسى الحديث مختلف فى ثقافة الإدارة والعمل والإنتاج عن العقل الأوروبى الغربى، بالطبع أوروبا تجمعها ثقافة عامة، لكن اختلاف نظم الإدارة السياسية ونظم الإدارة العامة من بعد الثورة البلشفية 1917 ونهاية الحرب العالمية الثانية صنع ثقافتى عمل وقيم مختلفتين بين شرق أوروبا وغربها، أو الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، ثقافة أفرزت عقلًا وقيمًا رفعت من مكانة الإنسان العادى وكفاءته العملية والإنتاجية إلى مستويات جيدة وجيدة جدًا، وثقافة عجزت عن ذلك، فتراوحت مكانة الإنسان وكفاءته بين الأداء المتوسط والأداء فوق المتوسط لا أكثر.

المدهش أن دراسات اجتماعية عديدة قالت إن 68 % من الروس يرغبون فى رؤية بلادهم «دولة ذات مستوى معيشى مرتفع حتى لو لم تكن واحدة من أقوى دول العالم»، والأكثر دهشة أن الرأى العام الروسى يميل بشكل ملحوظ إلى الاقتصاد المخطط، لكن هذه الدهشة تمحوها أسباب ملحة، فالتخطيط فى رأيهم قد ينجح فى مواجهة الفساد وتراكم الثروات فى أيدى فئات محدودة، لضمان الاستقرار المجتمعى والمعيشى للجميع.

وهذه رؤية أثبت الواقع صحتها، فالاتحاد السوفيتى كان قوة عظمى عسكريًا، ولم يكن كذلك اقتصاديًا، أيًا كان أشبه بعملاق هائل العضلات لكن يتحرك على مفاصل هزيلة، فلم تتحمله، وقطعًا بناء قوة اقتصادية عظمى أصعب كثيرًا من بناء قوة عسكرية عظمى، فالقوة الاقتصادية نقلة حضارية يلزمها تغييرات جذرية وعميقة فى بينة المجتمع، تعليم ومعارف وثقافة وقيم، بينما القوة العسكرية:

تسليح حديث وتدريب عالى المستوى، ويكفى أن يكون قوادها فقط هم الذين يملكون المعارف والتعليم والثقافة اللازمة، وحدث هذا فى عصور كثيرة قبل الاتحاد السوفيتى، مع الهكسوس، والتتار، والعثمانيين، فبنوا إمبراطوريات عسكرية وحضارات هشة.

ولا ننكر أن دوافع التفوق العسكرى المطلوب لغزو الآخرين عبر التاريخ الإنسانى كانت وراء الكثير من الاختراعات والابتكارات، والتى تطورت وتوسعت فى الحياة المدنية تباعًا.

لكن طفرات التطور ودوامها مرهونة دائمًا بإحداث تغييرات اجتماعية وفكرية وثقافية فى بنية المجتمع، وهى تغييرات ضرورية يستحيل أن تتمكن الدولة دونها من تأسيس قوة اقتصادية كبيرة.

وتجربة الاتحاد السوفيتى تشبه تجربة التحديث التى سار فيها محمد على وحاول بها أن يبنى مصر عصرية، أقصد فى المنهج وليس فى التفاصيل، وكلاهما تكالبت عليه أوروبا أو بمعنى أدق الحضارة الغربية؟

وهنا لا أعنى أن الحروب والمؤامرات هى سبب فشل التجربتين، فالحروب والمؤامرات خبز يومى فى حياة الجماعات الإنسانية على كوكب الأرض، منذ قديم الأزل، والتحجج بها مجرد شماعة للخيبة والعجز، فاليابان لم تتوقف عن الحرب قرونًا طويلة إلا فى الثمانين سنة الأخيرة، وبعد أن أنجزت مهمة التحديث وكذلك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.. إلخ.

وكانت تجربة محمد على ذات سمات واضحة.

-التأكيد على الإمكانات الكامنة داخل الأمة المصرية، وأنها تحتاج فقط إلى طاقة قادرة على تعبئتها وإدارتها بشكل رشيد، وتفتح سقف الأحلام والطموح أمام المصريين دون استثناءات.

- دور الدولة فى حماية مشروع النهضة وتوفير المناخ لنجاحه.

- أن مصر تمتلك مقومات النمو المعتمد على الذات.

-كشفت عوامل الضعف الداخلى المترسخة فى الثقافة والتراث السياسى والاجتماعى.

لكن تلك التجربة كالتجربة السوفيتية تماماً حملت فى داخلها الكثير من عوامل انهيارها.

أولًا: لم يكن فى ذهن محمد على نموذج واضح للإصلاح وهو يبدأ حكمه، أو حتى فكرة متكاملة عن سبيله إلى حكم البلاد، وقد سار على نظام أقرب إلى رأسمالية الدولة بالضرورة، فاحتكرت الدولة وسائل الإنتاج لأسباب تاريخية، فالوالى هو مالك الأرض والزراعة هى عمود الاقتصاد المصرى، واهتم محمد على بتصدير المحاصيل إلى أوروبا، وكان يغير فى نظام حيازة الأرض وفق احتياجات التصدير، واستثمر الفائض فى الصناعة، ومع زيادة الإنتاج كان لابد من التوسع العسكرى لإيجاد أسواق جديدة يجلب منها مواد خام ويصدر إليها منتجات، مما أثار مخاوف الدول الأوروبية ودفعها مبكرًا لمقاومة مشروعه.

ثانيًا: لم يوزع محمد على عوائد النمو ولا ثروات البلاد بطريقة أكثر عدلًا تسمح للمصريين بخلق سوق داخلية لمنتجاتهم، وكان ذلك ممكنًا، فدخل مصر فى سنة 1836 مثلًا ارتفع إلى 130 مليون فرنك فرنسى من التجارة الخارجية، ولم يتجاوز عدد سكانها 3 ملايين نسمة، وهو نفس دخل فرنسا وكان عدد سكانها 32 مليون نسمة، نعم 32 مليون شخص، وقد أشار البعض على محمد على بتعديل توزيع العوائد، لكن الصفوة الجديدة لم تقبل فكرة المساس بامتيازاتهم أو الإقلال من ثرواتهم.. فكان التوسع فى بناء مستعمرات على النمط الإنجليزى والفرنسى اختياره البديل، الذى جلب عليه المشكلات.

ثالثًا: اتجاه بريطانيا إلى سياسة الباب المفتوح وحرية التجارة، فوقعت مع الباب العالى معاهدة بلطة ليمان فى عام 1938، التى نصت على إلغاء كل أنواع الاحتكارات فى الدولة العثمانية الضعيفة، فانهار نظام الاحتكار الذى فرضه محمد على، وفقدت مصر جزءًا كبيرًا من مواردها.

رابعًا: أدى التطور الرأسمالى والتكنولوجى فى ذلك الزمان إلى تغييرات جوهرية فى الأبنية والمؤسسات والنظم الاجتماعية لم يستوعبه محمد على فى تجربة مصر، فظلت الأشكال الاجتماعية بما فيها تنظيم العمل على قديمه، وبالتدريج صارت هذه الأشكال بطبيعتها ضد التقدم التكنولوجى والتراكم الرأسمالى الذى يحتاجه دوام التحديث والنمو الاقتصادى.

خامسًا: لم يستطع باشا مصر أن ينشأ ويوسع رقعة الطبقة المتوسطة التى تقود التطور وتخوض مخاطر المبادرة والتجديد، بل يمكن القول أن مشروع محمد على برمته جرى بعيدًا عن الطبقة الوسطى.

سادسًا: غياب سياسات ضبط الاستيراد انتهى إلى تباطؤ حركة التصنيع المصرية، خاصة أن بريطانيا سهلت على مصر أمورًا كثيرة لتظل مزرعة للقطن.

سابعًا: مع تراجع إيرادات الدولة زادت الضرائب بشكل كبير وتضاعفت أربع مرات فى 20 سنة، بينما زادت مساحات أراضى «المقربين» المعفية من الضرائب، كما اشتد نظام الباشا فى عمليات السخرة التى صاحبت أعمال المنفعة العامة وفى إجراءات القمع، فحدثت اضطرابات فى المنوفية، وفى الصعيد، ومع نهاية عصر محمد على أعلنت التجربة فشلها.

هاتان تجربتان جديرتان بالدراسة، ويثبتان مع اختلاف البيئة والقارة أن غياب المفاهيم أو ضعفها خطر بالغ على مشروعات التقدم، فهل يمكن أن يصل الحوار الوطنى إلى مفاهيم حاكمة للحركة المصرية إلى المستقبل؟