الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ليلة عاطفية وسياسية فى القوصية

ليلة عاطفية وسياسية فى القوصية

كلما ركبتُ قطارَ الصعيد، تنشرح نفسى وتبتهج، أحب الصعيد والصعايدة منذ وعيت على تاريخ مصر القديمة ، وقرأت عباس محمود العقاد والدكتور طه حسين ولويس عوض، وزاد ولعى حين زرت أسوان أول مرّة فى حياتى فى نهاية السبعينيات وتعرفت على بحيرة ناصر وجزيرة النباتات والمَعابد المصرية، ثم توالت الزيارات فى سلسلة من تحقيقات صحفية عن التطرف والإرهاب، فى الفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا..وتعرفتُ على ناسها واقتربت منهم صداقة ومودة وحكايات وموروثات قد تتفق معها أو تختلف.. لكن تشدك دومًا نفوسٌ على سجيتها وبساطة فى المشاعر وتلقائية فى ردود الأفعال حتى لو كانت عنيفة أحيانًا.



لهذا قبلتُ دعوةَ جمال أسعد إلى لقاء فكرى فى «القوصية» بأسيوط دون تردد، مع مجموعة من مثقفيها عن كتابه المهم «أيامى..شهادة على خمسة عصور»..

ولجمال أسعد مكانة خاصة فى نفسى، سياسى مصرى قبطى من تحت السلاح، مثقف عاشق لمصر أمّ الدنيا، مُعارض واقف بـ«طوله» فى مواجهة السُّلطة لأكثر من ثلاثين سنة، يعمل من أجل أهل مصر البسطاء الباحثين عن الستر.. لم يخن، لم يتلون، لم يفقد الطريق وإن فقد الحزب واستبدله، تحت ظروف ضاغطة وغير صحية، وعمومًا الأحزاب فى مصر هى أشخاص ولا فتات ومقرات شبه مهجورة.

وحتمًا نحترم مثقفًا وسياسيًا مثل جمال أسعد، فالمثقفون والسُّلطة فى مصر علاقة معقدة أشبه بطريق ذى اتجاه واحد من عصر محمد على باشا إلا فى القليل النادر، فالسُّلطة هى التى صنعت المثقفين والنخبة السياسية، حين أرسل الوالى محمد على بعثاته إلى أوروبا؛ ليتعلموا وينهلوا من مَعارف الغرب وعلومه ثم ينقلوها إلى مصر والمصريين، ثم منحهم العطايا والهبات التى رفعت من مراكزهم الاجتماعية والاقتصادية، وظلت هذه القاعدة تعمل تلقائيًا، مَن يريد الحظوة فعليه أن يدق على باب الحكومة، أملاً فى عطاياها: أرضًا أو عقارًا أو مناصب، لكن بالقطع بالطبع ثمة مثقفون وسياسيون صعدوا ونجحوا دون أن يدقوا على الباب، لكنهم لم يكونوا القاعدة السائدة.. وركبتُ القطار محملاً بمَحبة الصعيد وتقدير جمال أسعد، كان معى الفنان طارق الدسوقى وهو مثلى من بحرى، لكن له علاقات وثيقة بأسيوط: مثقفين وفنانين وجامعة، والقصّاص هانى مِنِسَّى ابن أسيوط..

كان الحوارُ فى القطار ثريًا، عن الفن والثقافة والتقدم والتخلف والإعلام والدراما الرمضانية، بدّد رتابة خمس ساعات ونصف الساعة أو أزيد قليلاً، ولا أعرف كيف يقطع القطارُ ثلاثمائة وسبعين كليومترًا فى هذه المُدة الطويلة فى الربع الأول من القرن الحادى والعشرين، ولم يقف سوَى فى محطة واحدة فقط فى المنتصف هى المنيا، يعنى 70 كليومترًا فى الساعة، وطبعًا وصلنا متأخرين أربعين دقيقة تقريبًا، وهو ما تكرّر فى قطار العودة الـ «فى أى بى».

 فى المساء ركبنا إلى القوصية، وكان معنا صديق لجمال أسعد لم يكف تليفونه المحمول عن إشارات التنبيه، فسألته، فأجاب: هذه أسعار الذهب كل لحظة!

حين أبديت دهشتى، روى لى حكاية عن صفقة حدثت مع ابن عم له جواهرجى، جاءه قبل يومين زبون؛ ليشترى ذهبًا بمليون جنيه تقريبًا فى سوق تعز فى البيع والشراء ولا تأخذ أسعارها هدنة مؤقتة، فطلب ابن العم تاجرًا من الكبار بالقاهرة وسأله، فأجابه: 2525 جنيهًا للجرام 21، فقال له: دقيقة وأرد عليك، وقال للزبون: وأنا سأبيعه لك بـ 2530، وافق الزبون، وعاود ابن العم الاتصال بالتاجر القاهرى، رد عليه: آسف.. السعر بقى 2535، فقال للزبون على السعر الجديد، فقال الزبون: لا علاقة لى .. أنا اشتريت بـ 2530 جنيهًا وحوّلت لك الفلوس بالتليفون على حسابك، وبعد جدل طويل مع تاجر القاهرة وافق أن يبيع لابن عمّى بـ 2530، يعنى البيعة أصبحت «بلوشى» وكان مكسبها بالكاد 1800 جنيه.

نظر إلى التليفون ثم قال:عارف سعر الجرام كان بكم حين تحركنا من أسيوط؟، 2670 جنيهًا، عارف بكم الآن؟، 2700جنيه.

على ما وصلنا القوصية كان الجرام قفز إلى 2800 جنيه، أعلى من السعر العالمى بأكثر من 40 %.

سألت السبب، قال: مغالاة شديدة من عدد محدود من كبار تجار الذهب فى سعر الدولار، وهم الذين يتحكمون فى السوق، بالاتفاق بينهم.

وصلنا القوصية..استضافنا جمال أسعد فى بيته لنصف ساعة قبل اللقاء الفكرى..

جمال أسعد حالة مصرية خاصة، لم يدخل فقط السجن فى عصر الرئيس أنور السادات بقرارات 5 سبتمبر 1981، وإنما وجد نفسه منبوذًا أيضًا من الكنيسة بعد فترة؛ لأنه كان يدافع عن حقوق أقباط مصر من منظور وطنى وليس طائفيًا، فالوطن هو عمود الخيمة للمصريين سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، والمواطنة الكاملة هى الملاذ الآمن للجميع دون نقصان أو استثناءات، والكنيسة لها الرعاية الروحية فقط ويجب ألّا تخلط دورها الدينى بأى أدوار سياسية فى هذا الملف.

لم تقبل الكنيسة رؤية جمال أسعد، واعتبرته تجاوزًا فى حقها؛ خصوصًا أن البابا شنودة كان حريصًا أن تؤدى الكنيسة «دورًا يتجاوز الرعاية الدينية» فى حفظ حقوق الأقباط والدفاع عنهم فى مواجهة الجماعات الإسلامية المتطرفة وأحداث الفتنة الطائفية.

وبالطبع كان موقف جمال أسعد صائبًا، فأى حلول طائفية للمشكلات والأزمات تعمق «الرؤية الطائفية، بينما الحلول الوطنية تفك الرؤية الطائفية وتطفئ نارها، وهو ما أثبتته الأيام والأحداث فى السنوات العَشر الأخيرة.

وقد عانى جمال أسعد كثيرًا، هو وعائلته؛ إذ ظهر للعامّة فى ثياب المُعادى للكنيسة؛ خصوصًا أن بعضًا من رجال الدين «وضعوه» بالإكراه، فروى فى «أيامه» تفاصيل مريرة عن معاناته وعائلته، وقد سألتُ زوجته ونحن جلوس فى بيته عن هذه الفترة وهى مصرية من عائلة مسيحية متدينة مواظبة على الكنيسة، وأكيد تعرضت لضغوط قاسية من كل جانب.

بالمناسبة؛ أهدَى جمال أسعد كتابَه إلى زوجته: «التى شاركتنى المَسيرة ودفعت الثمَن وكانت سَندًا فى كثير من الأوقات».

قالت: أصعب أيام حياتنا..عزلة وكلام وشتائم فى التليفونات من الخارج، تخيلوا أنهم منعوا «عاملات النظافة» أن يأتين للعمل فى البيت، وعندى بنات على وش جواز مرفوض الاقتران بهن.. وهكذا، لكن عبرناها بالبركة والمَحبة.

وتحركنا إلى مكان اللقاء الفكرى، قاعة كبيرة فى بيت مسيحى، تزين جدرانه لوحات السيدة العذراء والسيد المسيح عليه السلام وصور من التراث المسيحى.

 أكثر من نصف الحضور مسلمون، أصدقاء طفولة لجمال أسعد أو من تلاميذه أو من محبيه، وفى الصفوف الخلفية جلست السيدات، بعضهن محجبات..

ودار الحوار عاطفيًا إنسانيًا، شدنى فيه اعتزازهم بأمرَيْن..

1 - القوصية.. الجغرافيا والتاريخ والبَشر، صحيح أن مصر فى القلب والعقل، لكن القوصية تاج على صدرها، والعلاقات بين أهلها أيًا كان الدين واللون والثروة ماء رقراق يستحيل أن يعكره حدث طارئ أو موقف عابر أو تطرُّف مفاجئ؛ لأنها علاقات طبيعية منسوجة بالعِشْرة والمَحبة والعيش والملح والفهم الإنسانى والمَصالح المشتركة.

2 - الدور السياسى والاجتماعى الذى لعبه جمال أسعد فى مدينته وفى البرلمان وكيف أثر فيهم وتعلموا منه، إلى الدرجة التى جعلت دموعه تفر منه امتنانًا ومَحبة.

وحين تحدثت قلت إن أيام جمال أسعد ليست مجرد ذكريات أو تجربة مضت؛ وإنما تفاصيل تضع أيدينا على «أمّ» مشكلاتنا، وترسم خطوطا لعلاجها دون أن يقصد..

- التعليم..وضرب مثلاً بإلغاء السنة السادسة الابتدائية، وكان الدكتور فتحى سرور وزير التعليم الذى طلب إلغاءها، ثم عودة السنة السادسة وكان الدكتور فتحى سرور رئيس البرلمان الذى برر عودتها.. وقال إن الكارثة أننا نترك التعليم لاجتهاد الوزير ومَن يحيطون به أو مَن يأتون من شلته من خارج الوزارة.

- المُعارض المؤيد أو المؤيد المُعارض وهى نماذج موجودة صورها جيدًا فى أيامه، كائنات سياسية مشوهة، وتميل السُّلطة إلى هذه النوعية من المشوّهين، لا هم معارضون حقيقيون ولا هم يصطفون فى صفوف المؤيدين، هم باحثون عن «الامتيازات والمَنافع» وهو ما عطل كثيرًا من دَور البرلمان.

- التحالف السياسى مع التيار الدينى..خطرٌ داهم لا يجوز تجربته أو حتى الاقتراب منه، ويضرب عشرات الأمثلة الموثقة عن خطورة هذا النوع من التحالف على مَصالح الشعب.

- يصعب أن يمثل الشعب المصرى سياسيًا مَن لا يعيش حياته، حتى لو أقسم ووزع وتبرع للناس، فهو يرى الناس مجرد «كوبرى» إلى النفوذ واللعب مع الحكومة.

- ضعف الأحزاب السياسية فى مصر، وهو ضعف موروث ومتراكم، وبأوضاعها الحالية لن تصل أبدًا إلى مرحلة النضوج الشعبى.

انتهى اللقاء بعد منتصف الليل بساعة لكن «أجواء القوصية» بدفء مشاعرها لم تغادرنا حتى الآن.