
نبيل عمر
الإسلام دين ودولة أَمْ دين ومجتمع؟
بعد سهرة رمضانية فى بيت صديق، تصدرها القرآن الكريم والسيرة النبوية العطرة وحديث عن مكارم الأخلاق، جلسنا نحتسى شايا، نظر ناحيتى رجل قانون وهو من المترددين على جلسة دينية تعقد فى بيت صديقى كل أسبوعين، أحيانا أحضرها وسألنى: لماذا أنت ضد الدولة الإسلامية؟
فوجئت بالسؤال.. وقلت: لست ضد أى دولة، والدولة الوحيدة التى أقف ضدها هى الدولة الصهيونية، ليس لسبب دينى، ولكنها لأنها رأس حربة فى قلب المنطقة العربية.
قال: لا.. كتاباتك ضد فكرة الدولة الإسلامية!
قلت: تقصد ضد الدولة الدينية، أيا كان اسمها ورسمها، فهى دولة استبدادية بطبيعتها، والاستبداد الدينى هو أشد أنواع الاستبداد شراسة كما هو مدون فى تاريخ البشربة، لأن حكامها ينسبون تصرفاتهم إلى الله، ويصنفون معارضيهم «رافضة لحكم الله»، ويحق عليهم القتل، يعنى السجن فى أى نوع من الاستبداد غير الدينى حلم مقارنة بالقتل.
قال: الإسلام دين ودولة، عقيدة وسياسة ولا يعرف الاستبداد.
سألته: هل تعنى أن المسلم لا يصح إسلامه إلا إذا أسس دولة إسلامية أو عمل على تأسيسها؟
أجاب ببساطة: نعم.
قلت: هذا كلام خطير وأتحدى أن ثمة نصا فى القرآن تلميحا أو تصريحا بهذا المعنى أو قريب منه، أعتقد أن الدولة ليست من أركان الإسلام، فكيف لمسلم يعيش فى البرازيل أو أستراليا أن يؤسس دولة إسلامية ليحتفظ بدينه.
قاطعنى: رأيك هذا يفصم الارتباط الشرعى بين الدين والدولة، ويعمل على «حبس» الإسلام فى الشعائر داخل المساجد بعيدا عن حياة الناس.
قلت: الإسلام دين وليس دولة، الدين مطلق ودائم، لا ينزله الله على الدول ولا يكلفها به وإنما على الإنسان الفرد ويكلفه به مهما هاجر من أرض إلى أرض ومن دولة إلى دولة، والدولة حالة نسبية تغزو وتنكمش، تقوم وتختفى، تنهار وتنقرض، زالت دولة العباسيين وظل الإسلام قويا عفيا، سقطت الإمبراطورية الرومانية وظلت المسيحية تنتشر وتتوسع، وكل الرسل دعوا الفرد للإيمان، الدول لا تدخل النار أو الجنة، ولا تحاسب على فضائل الأعمال أو الشرير منها، لكن الأفراد هم الذين يُحاسَبون: يثابون أو يعاقبون يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ولا كلمة واحدة عن راعيه أو أميره أو خليفته، لكن هذا لا يعنى أن نحبس الإسلام فى الشعائر أو نبعده عن حياة الناس، فالصحيح أن الإسلام دين ومجتمع.
سأل: ماذا تقصد وما هو الفرق؟
قلت: الدولة تعبير سياسى بكل ما يحمله من مناورات ومؤامرات وأساليب وأدوات، الدولة ليس لها شكل واحد، فقد تكون بسيطة مركزية مثل مصر واليابان أو دولة مركبة مثل بريطانيا العظمى مكونة من عدة دول كل منها له حكومة محلية (إنجلترا وأيرلندا وأسكتلندا وويلز)، أو دولة متحدة من أعراق وأجناس ولغات مختلفة فى جمهورية فدرالية مثل الهند والولايات المتحدة.
المجتمع تعبير اجتماعى بكل ما تعنيه كلمة اجتماعى من علاقات ومعاملات، ويمكن أن نؤسس مجتمعا مسلما فى مصر ذات الأغلبية المسلمة، أو فى اليابان ذات الأقلية المسلمة أو فى كوستاريكا أو فوق جبال الهمالايا أو جزر المالديف.. فالإسلام دين عام، لكل سكان المعمورة، بينما الدولة بقعة جغرافية محددة. باختصار..الفارق بين الدولة والمجتمع كبير.
المجتمع مجموعة من البشر يعيشون جنبا إلى جنب وفق ثقافة وقواعد وأعراف مشتركة، وإذا انتقلوا بين دول العالم يتبعون نفس المعايير والتقاليد، الدولة رابطة سياسية داخل مجتمع يهدف إلى حماية الشعب، ولها سلطة الإكراه فى حين أن المجتمع لا يملك سوى قوة الإقناع.
أنتم تريدون أن نجمع الدولة والمجتمع والدين فى كيان واحد منصهر، أى بقع جغرافية مختلفة وأعراق مختلفة ولغات مختلفة وأجناس مختلفة وديانات مختلفة فى كيان واحد إذا كان ذا أغلبية مسلمة، وهذا يتعارض مع قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»، وهذا خطاب عام للناس كافة على كوكب الأرض.
رد قائلا: لكن الشريعة تحدد نظام الدولة؟
سألته: من قال هذا؟، هل نظام الدولة فى عصر الخلفاء الراشدين هو نفسه فى عصر الأمويين أو العباسيين أو المماليك؟، هل نظام الإمبراطورية العثمانية مستمد من نصوص دينية؟ وبالمناسبة أغلبها نظم استبدادية، وما هى الدولة التى تقصدها وكانت الشريعة الإسلامية واقعيا هى مصدر نظامها السياسى وليس اداعاءات الخلفاء والأمراء والحكام بذلك؟
سأل: هل تنفى عن الشريعة وجود نظام حكم وسياسة؟
أجبت: الشريعة لها فى هذه الجزئية قواعد عامة نسترشد بها، فالشورى على سبيل المثال يصعب أن تشكل نظاما سياسيا متكاملا كالديمقراطية، فالنظام السياسى ليس مجرد شورى أو عدم شورى، وإنما علاقات متعددة متشابكة بين سلطات الدولة ومؤسساتها، وأيضا بين الأفراد وهذه السلطات، وإذا كانت الشورى هى الديمقراطية كما يقول البعض كيف تكون تلك الديمقراطية؟، على النظام البرلمانى أو الرئاسى أو الجمع بينهما؟ وهل تسمح بالتعددية الحزبية أم سيكون الحزب الحاكم هو حزب الله والحزب المعارض هو حزب الشيطان كما هو مكتوب فى أدبيات جماعات إسلامية كثيرة؟
طيب ما طبيعة العلاقة بين سلطات هذه الدولة، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية؟ وكيف يحدث الفصل بينها؟ ووفق أى نصوص فى القرآن أو من السنة المؤكدة؟ وكيف يُختار ممثلو السلطة التشريعية؟ من أهل الحل والعقد أم من عموم الناس حسنى السير والسلوك؟، وهل أهل الحل والعقد هم الدعاة والشيوخ وعلماء الدين أم من الشخصيات البارزة فى المعارف والعلوم والمتميزين على التواصل مع المواطنين واكتساب الشعبية؟، وهل انتخابات رجال هذه السلطة بالقوائم أم بالنظام الفردى، وعلى أى أسس؟
الدولة أعقد من الشورى كثيرا.
وفى الجانب الاقتصادى يصعب أن تشكل قواعد الميراث والزكاة والبيوع والتجارة وتحريم الربا نظاما اقتصاديا، فهذه جوانب منه وليست كل الجوانب، وكيف تكون التجارة تسعة أعشار الرزق فى عالم يتوقف التقدم فيه على الصناعة وعلى رأسها صناعة المعرفة والمعلومات؟، ويصعب كذلك أن تؤسس بعض الحدود مثل عقاب السارق وشارب الخمر وقاطع الطريق والزانى والقاذف نظاما قضائيا متكاملا، فالحدود جزء من نظام التقاضى وليس كل النظام، لأن الدولة العصرية أكثر تعقيدا واشتباكا مع حياة تتغير بإيقاع سريع للغاية، وقد تنوعت الجرائم فى شكلها العام وتفاصيلها تنوعًا شديدًا.
وهذا لا يعنى مطلقًا أن كتاب الله به نقص لا سمح الله، فهو ليس كتابا فى المعارف والعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، القرآن كتاب تعاليم من الله يحدد لنا علاقات الإنسان به، ثم بأخيه الإنسان فى جوانب كثيرة منها ما هو اجتماعى وما هو اقتصادى،والمنهج الذى يحكمها، وكلها محكومة بالعدل، والعدل هو مقصد الشريعة الذى يجب أن نلتزم به التزاما لا مناص منه، عدل الإنسان مع نفسه بطاعة الله ليقيها من عذاب الآخرة، وعدله مع الآخر بحيث لا يصيبه بضرر عامدا، وإذا كان الضرر سهوًا أو غفلة منه فعليه إصلاحه فورًا.. وبالطبع الشريعة فيها قدر من الأفكار العامة عن السياسة والاقتصاد، اختلف فى تفسيرها والعمل بها الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون والعثمانيون، فسالت دماء كثيرة عبر التاريخ.
سأل: أليس الحكم لله؟
قلت: نعم.. وكلمة الحكم وردت فى آيات القرآن الكريم بمشتقاتها اللغوية 97 مرة، وكلها بمعنى القضاء، وليس بمعنى السلطة والحكم، ونزلت فيها آيات الأحكام وتصرف الرسول على أساسها تفسيرا وشرحا، ليبين لنا الأسس والمفاهيم التى تضبطها، مثل أحكام الزواج والطلاق والميراث والزكاة والشروط العامة للبيع والشراء وتحريم الربا، وبالمناسبة ما زال الخلاف كبيرا فى تعريف مصطلح الربا، بين الربا الشخصى والإقراض المؤسسي؟، بمعنى.هل حين تستلف شركة قرضًا لأسباب تخص نشاطها كالتوسع مثلًا من شركة أخرى هى البنك..هل هذا ربا مثل أن يستلف شخص فى أزمة حياتية عاجلة قرضًا من شخص آخر يفرض عليه فائدة؟، هل حين يودع شخص قدرًا من المال فى بنك، هل هو يستغل حاجة البنك فتكون فائدته ربا؟
أما المعنى السياسى لعبارة الحكم لله فقد ظهر أول مرة على ألسنة الخوارج، بعد أن قَبِلَ الإمام على بن أبى طالب بالتحكيم فى صراعه مع الأمويين، وكانوا يصيحون بها فى وجهه فى كل مرة يدخل فيها إلى المسجد للصلاة، وكان يرد عليهم: قولة حق يراد بها باطل، ثم قتلوه بتأويل الآيات ليبرروا فعلتهم كما لو كانت تطبيقا لشريعة الله.
سأل: وماذا عن دولة «المدينة» التى أسسها الرسول؟
للحديث بقية