الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ومازال المصريون يشترون «الترماى»!

ومازال المصريون يشترون «الترماى»!

تشابه عجيب يفوق الخيال بين عملية نصب هوج بول فى الربع الأول من القرن الحادى والعشرين، وعملية نصب شراء «الترماى» التى حدثت فى أربعينيات القرن العشرين، وهو قدر السذاجة التى يتصف بها «ضحايا النصب»!



قد لا تصدقون..وتتساءلون: كيف هذا؟، نصاب القرن العشرين كان على قد الحال، صادف ضحيته فى الطريق وباع له الترام فى بضع ساعات، والضحية قروى ساذج بلا تجارب خارج حدود قريته الصغيرة وعلاقاته البريئة وعالمة الضيق، وكانت تلك أول مرة فى حياته ينزل إلى القاهرة الصاخبة، لكن نصاب القرن الحادى والعشرين فائق الذكاء والقدرات، ابتكر «سوفت وير» على منصة إلكترونية، وراح يصطاد به زبائنه على مدى مائة وثمانين يوما بتخطيط وأدوات علمية حديثة، والضحايا أطباء ومهندسون ومحامون ووظائف مرموقة وأصحاب تجارب فى عالم مفتوح..فكيف تقارن بين العمليتين؟

 

للأسف.. المقارنة صحيحة، بالرغم من بعد المسافة الزمنية بينهما، 75 عامًا بالتمام والكمال..

من المدهش أن جانبًا وحيدًا مضيئًا فى ملامح التشابه بين الجريمتين، هو رد فعل الشرطة السريع وتمكنها من القبض على الجناة خلال فترة قصيرة، لا تتجاوز بضعة أيام!، مع فارق فى غاية الأهمية أن ضحية الترام كان من العاديين «الغلابة» الذين يعيشون ويموتون ولا يحس بهم أحد، بينما أغلب ضحايا هوج بول بهوات من علية القوم، وبعضهم له صلات واتصالات وصوت مسموع.

لكن أشد عناصر التشابه وجعًا وألمًا هو «المعنى الكامن فى عملية هوج بول»، ويلطمنا على رؤوسنا صارخا أن الزمن مر علينا مرور الكرام، فلم نتغير تغييرا حقيقيا، وأن الحفرة التى سقط فيها القروى الساذج قليل المعرفة والخبرة، هى نفسها التى سقط فيها المتعلمون الجهابذة بنفس البساطة المذهلة!

على فكرة لا أتوقف عند الأموال الضائعة، بالطبع نتألم على ما حدث لعائلات مصرية، مثل موت ضحية بالسكتة القلبية حسرةً على ما فقده، وتفكك أسر بالطلاق، وتهديد بالعوز يطارد آخرين أضاعوا تحويشة العمر..إلخ، لكنها ليست مربط الفرس، أوجاعنا أكبر من ملايين أو مليارات الجنيهات الطائرة، فالأموال تجئ وتذهب، تتكاثر وتتبدد، تربح وتخسر، أى يمكن للمجتمع تعويضها والقفز عليها.. لكن ما تعنيه الخسارة قيمته أكبر من «المال» بكثير، وهو الإنسان، وبالتحديد «عقله»، ولو تمعنا فى الواقعة حقا، لهالنا حجم المأساة، وأدركنا سببا  من أسباب الأزمة الممتدة التى نعيشها، والتى طال أمدها، ولماذا كلما أوشكنا على الخروج منها لا نعثر على الأبواب الصحيحة..

 تعالوا نفسر المسألة..

فى عام 1948 سقط حفظ الله سليمان فى فخ النصاب القاهرى رمضان أبو زيد العبد، واشترى منه ترام رقم 30 بمائتى جنيه، 80 جنيها نقدا، و120 جنيها بالكمبيالات، وقبض البوليس على رمضان وأخذ حكما بعامين ونصف العام، وبعد خروجه من السجن استقبلته صحف القاهرة بالحوارات والأحاديث التى يروى فيها تفاصيل عملية الخداع وبيع الترام!

وقتها كان عدد سكان مصر 20 مليون نسمة تقريبا، 85 % منهم يعيشون فى الأرياف، فريسة للأمية والفقر والمرض (12 مليون مصاب بالبلهارسيا و14 مليونا بالرمد الحبيبى)، وظروف بيئتهم لم تتغير منذ قرون، ولا يعرفون عن العالم خارج قراهم إلا ما نعرفه نحن الآن عن كيفية عمل الثقوب السوداء فى الفضاء، وكانت القاهرة العامرة يسكنها مليون مصرى فقط.

كان الراديو أعجوبة ذلك الزمان وفى بيوت الأقلية، وكان الترام أعجوبة القرويين القادمين إلى القاهرة، أغلبهم على «أسطح» المراكب النيلية إلى مرسى روض الفرج، فكان سهلاً أن يسقط حفظ الله سليمان فى شباك رمضان العبد!

لكن فى عام 2023 الدنيا مختلفة، ولو عملنا مقارنة بين عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وعالم اليوم، قد نتصور أننا انتقلنا من كوكب إلى كوكب آخر، من حجم التطور الهائل الذى ضرب سكان الكرة الأرضية فى الـ75 سنة الأخيرة، تعليم وصحة ومعلومات وفضائيات وإنترنت وموبايلات وشبكات تواصل اجتماعى، عالم مفتوح بلا خفايا أو خبايا، كله على عينك يا تاجر، ما لا يُقال على وسائل الإعلام الرسمية والتقليدية، تفرد له وسائل الاتصال الحديثة ساعات من الثرثرة والشائعات والحكايات التى لا أول لها ولا آخر، إلى حد انتهاك «الخصوصية» بشكل فج ومتواصل، بالرغم من حمايتها بالقانون.

فى عام 1948 رأى القروى الأمى حفظ الله سليمان زحام الترام وتكدس الركاب والإيراد النازل يرف على «الكمسارى»، فزاغت عيناه وهاجت رغبة الثراء داخله، وحين عرض عليه رمضان الشراء، لم يفكر لحظة ويسأل نفسه الأسئلة البديهية، فى عام 2023 تابعت الدكتور «........» القاهرية الحاصلة على درجة الدكتوراه نداءات منصة هوج بول على الإنترنت، للاستثمار فى ماكينات تعدين خاص بالعملات الرقمية المشفرة «بيتكوين»، وأن كل ألف جنيه تكسب فى اليوم 4 دولارات، لم تختبر المعلومات لحظة، لم تسأل كيف وسعر عملة البتكوين أكثر من 22 ألف دولار، وما قيمة الألف جنيه وهى بالكاد تساوى 33 دولارا؟، والأسهل ما هى التجارة التى رأسمالها 33 دولارا وتكسب 120 دولار شهريا و3600 دولارا فى السنة، وفى وقت يترنح فيه العالم شرقا وغربا من ضربات أزمة اقتصادية عنيفة؟، لم تسأل السؤال الساذج وغرقت فى السؤال الفخ شديد الإغراء: ماذا لو استثمرنا مئة وثمانين ألف جنيه؟، الحسبة تُذْهِب العقل فعلا، 8672400، نعم..يعنى تسعة ملايين جنيه فى سنة، هكذا حسبتها الدكتورة ومعها ما بين 500 ألف إلى 800 الف ضحية، فرقم الضحايا لم يعلن بدقة، وإن كانت وزارة الداخلية قد حددت فى بيانها قيمة المبالغ المرصودة فى البلاغات الرسمية بـ19 مليون جنيه، بينما ضاعفت أغلب المواقع الإخبارية هذا الرقم 315 مرة، ليقترب من 6 مليارات جنيه، وهو رقم يبدو أقرب إلى الصحة، بافتراض أن عدد الضحايا لا يقل عن نصف مليون شخص، بمتوسط 10 ألاف جنيه للشخص الواحد.

قطعا الطمع الذى يزغلل العينين يعطل عمل العقل، وهو «الوتر» الذى يعزف عليه النصاب ببراعة، لتنساب الأموال بسهولة من جيوب الضحايا إلى جيوبه.

الطمع ضعف إنسانى شائع، أو حالة غريزية تنطلق من عقالها تحت ظروف يوفرها النصاب للضحية، لكن الطمع قد يصلح فخا استثماريا للبسطاء الذين يجهلون عصرهم وتنعدم معارفهم وتنقصهم تجارب الحياة، وليس لديهم أولاد تعلموا ودخلوا مدارس، ولم يشاهدوا تليفزيونا، وعاشوا شبه منعزلين على حواف الصحراء أو قريبا من مناطق جبلية نائية. لكن أن يكون الطمع فخا لأشخاص من كريمة المجتمع، ناس «ملو هدومها»، تعلموا وأخذوا شهادات وشغلوا مناصب، ومعهم موبيلات ذكية وأجهزة تابلت، فهذه مصيبة هائلة مجتمعيا، أولا لأن الاستثمار له مفاهيم ومعارف ونظريات ومؤسسات، وثانيا أن هذا الفخ ضد أحدث تعريف للإنسان، وهو كائن ذو تاريخ، أى هو الكائن الوحيد الذى تتراكم خبراته ويتعلم من تجاربه ويأخذ العبرة مما وقع فى الماضى.

أذن كيف غافلهم النصابون ولا يكاد يمر يوم دون خبر عن «عملية نصب»؟

السؤال المزعج: ما نوع المستقبل الذى يمكن أن يبنيه متعلمون لا تحسن عقولهم التفكير الصحيح فى أمورهم، ولا ولا يعرفون أساليب التفاضل بين بدائل مطروحة عليهم حلا لأزمات مالية تعتصرهم؟

هل هى حالة ارتباك عقلى مؤقت أواضطراب نفسى أوغياب رؤية وفقدان ثقة فى الغد؟

مستحيل قبول هذا التشخيص إلا فى ظرف خاص وفى لحظة ما ولفترة محددة.

لكننا نتحدث عن «عمليات نصب» جماعية شبه مستمرة من أيام شركات توظيف الأموال، كم «مستريحا» قفز إلى خشبة المسرح فى أغلب محافظات مصر بعد أن لهف ملايين الجنيهات؟

قد نجد أعذارا وتتمزق قلوبنا على ضحاياهم من البسطاء الذين حرموا من التعليم والمعرفة والوعى، لكن ماذا عن الأساتذة المتعلمين الذى يسقطون فى «أفخاخ» نصبها من هم أقل منهم تعليما؟

الأخطر أن هؤلاء الأساتذة يشغلون وظائف ويتخذون قرارات؟، فكيف تكون الأحوال فيها؟

هذا هو مغزى الأزمة وليست الأموال الضائعة!

نسيت أن أقول لكم إن العقاب فى جرائم النصب الإلكترونى : الحبس مدة لا تقل عن 3 أشهر، وغرامة لا تقل عن 30 ألف جنيه، بينما رمضان العبد «اتحبس» سنيتن ونصف السنة على 80 جنيها على النصب المباشر فى عام 1948!