الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
 الجماعة وتسعون عامًا  من الدم والتربص

الجماعة وتسعون عامًا من الدم والتربص

فى نهاية الثمانينيات كنا فى اجتماع التحرير فى روزاليوسف نكاد ننتهى من أفكار العدد الجديد، حين دخلت سكرتيرة رئيس التحرير قائلة: فيه واحد اسمه الدكتور عصام العريان قاعد فى مكتبى منتظر.



 دقائق بعد نهاية الاجتماع وذهابنا إلى مكاتبنا، دعانا رئيس التحرير وجلسنا مع الدكتور عصام العريان الذى سألنا: لماذا تعادون الإخوان وتنكرون عليهم حق الوجود السياسى ونحن مصريون مثلكم؟

 

كان عصام العريان شابا نشيطا فى الجامعة، ويبدو أنه بادر بتوجيه من المرشد فى فترة المد فى الشارع المصري، بأن يتحاور مع روزاليوسف أشد خصومهم فكريا، وتصور وقتها أنه قادر على اختراق أفكارنا عن الجماعة ودورها.

كانت روزاليوسف فى ذلك الوقت تشن حربا شعواء على جماعات العنف والإرهاب التى تقنعت بالإسلام ورفعت شعاراته، وأفردت صفحاتها لعشرات التحقيقات والمقالات عن تشوهاتها الفكرية وجرائمها فى عشوائيات القاهرة والجيزة ومدن وقرى الصعيد، وعن زيف شعارات جماعة الإخوان التى تقدم نفسها بديلا معتدلا للسلطة والناس، وكان مصطلح «الإسلام السياسي» الذى صكه الغرب يأخذ طريقه إلى الأسماع والدراسات وأصبح شائعا، وهو مصطلح شاذ لا يمت للدين أو العلم بصلة لا من قريب أو بعيد، ولكنه كان محاولة مبكرة من الغرب أن «يستر» إرهاب الجماعات الدينية وراء المعارضة السياسية، باعتبار المعارضة حقا من حقوق المواطنة!

لم يصمد عصام العريان نصف ساعة أمام الأدلة والبراهين أن الجماعة هى أصل العنف الدينى فى مصر الحديثة، وأن التنظيمات الدينية السرية عبر التاريخ لا تعرف اعتدالا ولا وسطا، فالكيفية التى تنشأ بها والمسارات التى تمضى فيها تمضى بها حتما إلى «الخروج» على أى سياق طبيعى للمجتمع، وتظل كذلك ولا يمكنها أن تغير جيناتها التى ولدت بها  سواء أرادت أو لم ترد، ولو حللنا أقوال المتهمين المدانين فى جرائم الإرهاب مثل قضية اقتحام الفنية العسكرية أو إعدام الشيخ حسين الذهبى أو اغتيال الرئيس أنور السادات، سنجد أن أفكارهم مستمدة من أدبيات الجماعة.

 أمام الأدلة والبراهين الدامغة خرج بخفى حنين ولم  يجرب الحوار مرة ثانية..

وهذا ما نحتاجه مع أجيالنا المقبلة أن نحفظ لهم «تاريخ العنف والإرهاب مجمعا» فى وثائق، حتى نحميه من السقوط سهوا أو عمدا فى الفخ الذى انزلق إليه بعضنا، منذ تأسيس الجماعة فى عام 1928، بمعاونة الإنجليز، وكان خطوة حسبتها بريطانيا جيدا تستكمل به وعد بلفور فى عام 1917، الذى تعهدت فيه بريطانيا بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، إذ كانت تدرك أن تأسيس دولة على اليهودية، حتى لو بالكذب، لن تضمن القوة وحدها بقاء هذه الدولة وتفوقها، وإنما أن تجاورها دول ودويلات على أسس دينية تبرر وجودها وتحافظ على دوامها، وكانت بريطانيا قد جربت هذا السيناريو الدينى فى الهند بتدشين تنظيمات إسلامية وهندوسية، ردا على ثورة السيبوى المطالبة بالاستقلال الهندى، واستمرات اضطراباتها عامى (1857-1858 ).

هذا الحفظ والتوثيق الضرورى  لتاريخ العنف الدينى صنعه لنا الدكتور رفعت سيد أحمد فى موسوعته (تنظيمات العنف الدينى فى مصر 1928 2018- التحقيقات السرية الكاملة مع الإخوان والجماعات المسلحة)، وهى فى ستة مجلدات، وأتوقف عند أمرين مهمين فيها:

الأول: تفرقت الكتابات عن تنظيمات العنف وأعمالها فى عشرات الكتب التى لاحقت جماعة الإخوان تأسيسا وأفكارا: خطابات حسن البنا، التنظيم الخاص، الصدام مع ثورة يوليو سواء فى 1954 أو 1965 ،  الجماعات المنبثقة عنها مثل جماعة التكفير والهجرة وجماعة الجهاد الإسلامي، والجماعة الإسلامية والشوقيين، ما جرى فى السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات سواء فى الشارع السياسى أو الجامعة،  كاقتحام الكلية الفنية العسكرية، واغتيال السادات واقتحام مديرية أمن أسيوط واغتيال الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب ومحاولة اغتبال نجيب محفوظ ومذبحة الأقصر.. إلخ، وقد حان الوقت أن يكون لدينا موسوعة جامعة لكل هذه الأحداث والحوادث ممنهجة بطريقة علمية وتفسر وقائعها وفق رؤية رصينة..وهذا ما ما يقدمه الدكتور رفعت سيد أحمد.

ثانيا: فض الاشتباك بين الادعاءات والحقائق، وأتصور أن أهم ما رصدته الموسوعة هو العنف فى العصر الملكي، لأن هذا العنف أيام الملكية يزيل أوراق التوت عن «فكرة خبيثة» تروج لها الجماعة منذ 1954، وهى أن صراعها مع المؤسسة العسكرية وليس المجتمع المصري، وأن الرئيس جمال عبد الناصر هو الذى فجر هذا الصراع وأدخل الجماعة إلى نفق الصدام، وهو صدام اقتصر على الطرفين فقط.

منتهى الكذب والضلال، الذى لا يصمد أمام الحقائق التاريخية، فالجماعة ارتكبت 14 جريمة أو عملا إرهابيا من سنة 1945 إلى سنة 1949،  بدأت باغتيال أحمد ماهر عقب تشكيل التنظيم الخاص عام 1942، وانتهت بمحاولة اغتيال حامد جودة، وكان المقصود هو اغتيال إبراهيم عبد الهادى باشا رئيس الوزراء الذى لم يكن فى الموكب الذى تعرض للهجوم الإرهابي.

> أين كانت المؤسسة العسكرية وأين كان الضباط الأحرار؟

لم يعتمد الدكتور رفعت سيد أحمد فى موسوعته المهمة على أقوال مرسلة أو شهادات خصوم، وإنما وثق كل الحقائق والأدلة بشهادات قيادات الإخوان أنفسهم، أى اعتمد على اعترافاتهم التى أدلوا طواعية بها فى مذكراتهم وكتاباتهم أو فى تحقيقات رسمية ما زالت محفوظة فى أضابيرها.

والتنظيم الخاص هو الجناح العسكرى للجماعة، الجناح الخفي، الذى ادعوا أن تأسيسه كان هدفه الإنجليز واليهود، ولم توجد ورقة أو حادث بالمصادفة  يثبت هذا الادعاء ولو فى وجه ذبابة طائرة، إلا إذا كان نسف «حارة اليهود» المصرية نضالا من نوع خاص!

بل إنهم لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد الصهيونيين، ويقول الدكتور شريف أمير، استاذ القانون الدولى والجغرافية السياسية فى كتابه «التاريخ السرى للإخوان المسلمين»: قالوا سنرسل 10 آلاف فرد للقتال وطلبوا التسليح وحصلوا على التسليح بالفعل من الداخلية، وذهبوا إلى غزة، ولكن لم تطلق رصاصة واحدة، لم تذكر كل الوثائق المصرية والأجنبية عمليات قتالية لعناصر الإخوان المسلمين.

 وقتها كانت حرب أهلية قد نشبت فى فلسطين، تحديدا يوم 30 نوفمبر 1947 بعد يوم واحد من قرار الأمم المتحدة بالتقسيم بين دولة عربية ودولة يهودية، الفلسطينيون والمتطوعون العرب فى جانب والعصابات الصهوينية الأكثر تنظيما فى جانب آخر.

 وكتب أحمد حسين مقالا فى جريدة مصر الفتاة نشره فى 12 يناير 1948 عنوانه: أيها اليهود انتظروا قليلا فإن كتائب الشيخ حسن البنا ستتأخر بعض الوقت، وسخر فيه من أكاذيب الجماعة عن أعمالهم البطولية فى فلسطين، ثم وجه حديثه إلى حسن البنا قائلا: كفى تهريجا يا شيخ حسن وكن صادقا ولو لمرة واحدة فى حياتك.

باختصار كان صراع الإخوان مع الأمة المصرية بأسرها من اللحظة الأولى لتأسيس الجماعة، بهدف الوصول إلى السلطة والحكم، ولم يكن الدين ومزاعم النضال القومى إلا «عملية تسويق» للمشروع.

ولا يكتفى الدكتور رفعت سيد أحمد بتفاصيل القضايا الإرهابية التى اقترفتها التنظيمات الدينية، ولا يمكن أن أصفها بالإسلامية كما وصفت هى نفسها، فهى أبعد ما تكون عن الإسلام، وإنما هو يفند أفكارها سواء بنفسه أو بكتابات أزهرية، مثل تقرير الشيخ محمد عبد اللطيف السبكى رئيس لجنة الفتوى بالأزهر ردا على كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق» وهو مرجعية التكفير، بناء على طلب من الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر (1963 - 1969)، قال فيها: أولا: أسلوب الكتاب استفزازى يهيج مشاعر القارئ الدينية،خاصة إذا كان من الشباب أو البسطاء.

ثانيا: ينكر مؤلفه وجود أمة إسلامية منذ قرون طويلة، وأن أئمة الإسلام وأعلام الدين فى التفسير والحديث والفقه وعموم الاجتهاد جميعا كانوا فى جاهلية حتى يجيء سيد قطب.

ثالثا: يؤكد الكاتب على مقولة «الحاكمية لله» وهى كلمة قالها الخوارج قديما وكانت وسيلتهم إلى تشقيق المسلمين وتفريق الصفوف، والتى وصفها الإمام على بأنها كلمة حق أريد بها باطل،  أى كانت نزعة تخريبية.

رابعا: دعوة المؤلف إلى قيام المجتمع المسلم أولا، تحمل إنكارا لوجود مجتمع مسلم، أى هو يقترح هدم النظم القائمة دون استثناء وإيجاد المجتمع الذى يتصوره، ثم التشريع له.

خامسا: المؤلف مسرف فى التشاؤم واستباح باسم الدين أن يستفز البسطاء إلى ما يأباه الدين من إراقة دماء والفتك بالأبرياء وتخريب العمران وترويع المجتمع.

باختصار موسوعة «تنظيمات العنف الدينى فى مصر» جاءت فى توقيت فى غاية الأهمية، جرس إنذار معلق طول الوقت فى سماء المجتمع، خاصة فى أيامنا هذه التى تحاول فيها الجماعة أن تشق الصف وتستغل الظروف الاقتصادية الصعبة وتبذر الفتن والاضطربات لعلها تجد منفذا إلينا من جديد.