السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
إذا كان إصلاح الفرع واجبا.. فإصلاح الجذر ضرورة  الهروب من نادى الفرص الضائعة

إذا كان إصلاح الفرع واجبا.. فإصلاح الجذر ضرورة الهروب من نادى الفرص الضائعة

لا يمكن أن نقف عند تاريخ الإنسانية على أنه أباطرة وملوك وأمراء وأحداث ومؤامرات وحروب وغزوات وصراعات على السلطة وعصور تنوير وعصور ظلام، التاريخ هو «مخرون خبرات البشر»، تجاربهم بالتفاصيل منذ وعوا أشكال الرسم  وحروف الكتابة، حامل الحكمة والمعنى فى أسباب صعودهم وأسباب تراجعهم. لكن التاريخ ليس أمرا سهلا أو بسيطا فهو خليط من المرآة والظل، قد يستخدمه البعض فنارا يبحر تحت ضوئه فى الممرات الآمنة إلى مرافئ التقدم والنمو والتحضر، متجنبا الصخور والحدوب والأرض الضحلة التى يمكن أن تُفسد مسيرته، وقد يحوله البعض إلى مخزن كراكيب يدخله، ويعيش فيه ويتجمد فى أوراقه الصفراء متصورا أنه قد يعثرعلى عصر ذهبى يستعيده من جديد.



 

المسافة بين الفنار والكراكيب خيط رفيع غير مرئى، يميزه فقط العقل السليم المنظم، وإذا نظرنا إلى أحوالنا نظرة تأمل عميق، نجد أنفسنا فى منطقة وسطى بينهما، لا قادرين تماما على الإبحار فى ضوء الفنار، ولا محبوسين كليا فى مخزن الكراكيب، نتقدم خطوات مع الضوء وتشدنا ثقل الكراكيب إلى الخلف، نحاول أن نقفز إلى المستقبل لنبنى عالما مختلفا عما ألفناه قرونا طويلة، وفى الوقت نفسه نهوى الحسابات القديمة والعادات القديمة والأفكار القديمة والصور القديمة، والقديم مهما كان تجربة انتهت، يستحيل أن تتوقف حركة  الإنسان عندها، فالزمن ليس مجرد دقائق وثوان وساعات وأيام وسنين؛ وإنما هو حضارة وتقدم، الزمن مثل قطار فائق السرعة يجرى على قضبان لانهائية من المعرفة، من لا يركبه يتخلف، ومع كل طرفة عين تتسع المسافة بينه وبين ركاب القطار، وهذه الحالة وصفها عالم الاجتماع الأمريكى الشهير «الفين توفلر» فى ثلاثيته الشهيرة «صدمة المستقبل، الموجة الثالثة، تحول السلطة»، وصدر أولها قبل خمسين سنة، وتنبأ فيها بالتغييرات الهائلة التى ستحدثها المعرفة، فى بينة حياة الناس اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.

باختصار نحن أمام معضلة تصنع مستقبل التنمية والتقدم تتكون من ثلاثة أضلاع: التاريخ كفنارة، المعرفة كآلة زمن، النظام كماكينة تشغيل.

المدهش أن رؤية الفين توفلر للمستقبل كانت تفسر كيف يعمل التاريخ كفنارة.

من معالم تاريخ الإنسان أن العقل هو صانع الثروة والحضارة، العقل صاحب المعرفة الذى يقود عملا جادا؛ بل إن السماء نفسها تخبرنا بصحة هذه البديهية فى قصة الخلق، فحين عوقب الإنسان الأول على معصيته الأولى ونزل مع حواء إلى الأرض، لم يمنحه الله شيئا سوى عقله والأسماء التى علمها إياها حتى يتعرف على ما يراه فيها، وكانت الأرض فى بدء الخلق أقرب إلى بيئة طاردة، براكين وزلازل وأمطار وعواصف ورياح وحيوانات مفترسة: زاحفة وطائرة وعلى قدمين، نزل هو وزوجه تسترهما ورقة توت لا غير، لا ثروة، لا عقارات، وكان على آدم وذريته أن يستثمروا «عقولهم» فى التأقلم مع البيئة ومع وحوشها العملاقة، وإخضاع هذه البيئة وما تنعم به من إمكانات فى صناعة الثروة والسلطة وإدارتهما. 

بالطبع تلعب الموارد الطبيعية دورا مهما فى صناعة الحضارة والتقدم، وقد مضى وقت طويل جدا، قبل أن يدرك الإنسان كيفية تسخير موارد الطبيعة فى «دوام حياته والحصول على بعض الراحة والاستقرار»، وهنا انقسم البشر إلى نوعين، نوع تغنيه موارده الطبيعية ويستغلها بالقدر الذى يحتاجه ولا يطمع فى تراكم ما تنتجه، ونوع بخلت عليه بيئته بموارد طبيعية تكفيه أو توفر له الحد الأدنى للمعيشة الجيدة، هذا النوع الثانى بعضه طموح وجشع وبعضه خامل قانع، الجزء الطموح الجشع قفز خارج حدود بيئته ومعيشته غازيا وسالبا لموارد الآخرين المنقسمين على أنفسهم فى صراعات داخلية على السلطة أو يعانون من حالة ضعف وسوء أحوال ناتجة عن عقل محدود التفكير، هكذا فعل أهل اليونان القدماء الذين عاشوا على جزر صخرية قليلة الموارد الطبيعية، فغزوا الأمم المجاورة والبعيدة وصنعوا امبراطوريتهم القديمة، فى أوروبا وآسيا وإفريقيا، وهو ما فعله الرومان أنفسهم بعدهم، ثم العرب فى القرون الوسطى حين خرجوا من الصحراء الجرداء وفتحوا أمم الرخاء والثروات وكونوا واحدة من أكبر الامبراطوريات عبر العصور المختلفة (أيا كانت الدوافع لأنها ليست موضوعنا)، وهذا ما فعله البريطانيون والفرنسيون والهولنديون والطليان والبرتغاليون والإسبان، وصنعوا بهذه الثروات حضارتهم الحديثة، وأيضا اليابانيون عبر تاريخهم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وغيرهم وغيرهم!

لكن اليابان تجربة مميزة جدا فى تاريخ الإنسان، فهى جزر بركانية فى قلب منطقة زلازل وأعاصير عاتية ومواردها الطبيعية محدودة، فكان يخرج مقاتلوها الساموراى إلى دول الجوار غازيين وهو سر عداء الكوريين والصينيين التاريخى لهم على سبيل المثال، لكن بعد القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكى اشتغل العقل اليابانى بطريقة مختلفة، وتبنى فلسفة «كل أرجاء المعمورة تحت سقف اليابان» دون حرب، وبالفعل بنوا المعارف والنظم وفنارة التاريخ التى حولتهم إلى قوة اقتصادية عظمى، حتى وصلت كل سلعة يابانية إلى كل بقعة فى المعمورة، وفى أغلب الأحيان كانت اليابان تبيع سلعا لا تملك من موادها الخام مقدار خردلة، لكنها ملكت العقل والنظام العام الكفء لإدارة البشر، واستخلاص أفضل مواهبهم وقدراتهم فى العمل الجماعى، فكان العقل يفكر ويقلد ويبتكر ويبدع وينتج ثم يبيع.

وهذا الدرب سارت عليه دول جنوب شرق آسيا، كوريا وسنغافورة وماليزيا وتايوان وفيتنام وإندونيسيا، أما الصين فقد تحولت إلى قوة عظمى اقتصادية. 

وإذا ضربنا بالولايات المتحدة مثلا خاصا، لأنها لا تصلح مثالا عاما، فهى قارة شديدة الغنى فى الموارد الطبيعية، لكن سأتحدث عن استثمار الرمل فيها، ويمكن للمرء أن يشترى شيكارة رمل بثمن نقلها فقط من الصحراء مضافا إليه حيز ربح محدود للغاية، تخيلوا معى أن ثمن هذه الشيكارة يمكن أن يصل إلى مئة ألف دولار، وربما مليون دولار، فى هيئة زجاج رفيع بمواصفات خاصة وخلايا إلكترونية، أى ألف أو عشرة آلاف ضعف ثمنها الخام.

باختصار العقل السليم هو صانع الثروة وصانع التنمية، بشرط أن يعمل فى نظام عام كفء، وقد يحتاج الفقراء تمويلا مساعدا للهروب منه، لكن الثروة وحدها لن تكون بوابة الخروج من التخلف.

قطعا قلب أزمات مصر هو فقرها، وتواضع المعيشة التى تحيط بأكثر من نصف المصريين، وقطعا نريد أن نتخلص من الفقر بالعمل ومن تواضع المعيشة بتنمية الثروة، لكن أخطر الصعوبات التى تواجه مصر هو «كراكيب التاريخ»، التى تحتل جزءا ليس قليلا من العقل الجمعى للمجتمع، بالرغم من أن المصريين أمة فيها مواهب فردية عظيمة فى مجالات كثيرة، لكن العقل الجمعى يجسد ثقافة المجتمع وقيمه.

ولن يتخلص المصريون من هذه الكراكيب إلا بصناعة نظام عام مختلف، والنظام العام ليس السلطة السياسية ولا الحكومة ولا المؤسسات، كلها أدوات فى النظام العام، وهو مجموعة القواعد التى تنظم حركة الناس والأوامر التى يجب أن يتبعوها فى تنفيذ أى نشاط مهما صغر شأنه، رخصة العربية، شروط البناء، العلاج فى المستشفيات، أساليب تعليم الأطباء وتعيينهم، تنظيم السير فى الشوارع للسيارات والمارة، التقاضى بكل درجاته وآلياته، تعيين المدرسين وتدريبهم، المكافآت فى المؤسسات العامة، دخول الجامعات، الامتحانات، لوائح تنظيم العمل فى منجم أو مصنع أو محل بقالة، اختيار القيادات من أول مشرف نظافة إلى رئيس مجلس إدارة، التصرف فى ثروات بطن الأرض، القيم الحاكمة للوقت والجودة..كل شيء.. كل شيء..

قد تكون مصر محدودة الموارد مع كثافة سكانية عالية، وهذا سبب من أزمتها، لكنّ ثمة سببا آخر ممتدا من عشرات السنين وهو إدارة الموارد بشرا وثروات بطريقة لم تستخرج منهما أقصى طاقة ممكنة وأكبر عائد لهما، وهذا أنتح مشكلات مزمنة متوارثة من عصر إلى عصر فى الصحة والتعليم والبيئة والعدالة..إلخ، فالنظام العام أشبه بجذر شجرة ضخمة ضاربة فى الأرض لها أفرع يعيش عليها المحيطون بها، فإذا كان الجذر مصابا ببعض التهابات، بالقطع تنتقل إلى الأفرع بالتبعية، وأى إصلاح فى التوابع هو إصلاح مؤقت، لأنه سرعان ما يمده الجذر بالدم الملوث فيتلفه من جديد.

وبالقطع يجب أن نتحرك فى مشروعات جديدة تبث الأمل والحلم فى أفئدة الناس، لكن علينا أيضا التفكير فى تعديل منظومة العمل العام وقوانينها وإجراءاتها الحاكمة لنشاط البشر، لنستفز طاقاتهم وقدراتهم الكامنة، ونصلح بالتبعية نظم التعليم والصحة والنقل والعدالة والإسكان والإدارة، حتى نفر جميعا من نادى الفرص الضائعة ونبنى جمهورية جديدة تتحرك دوما إلى الأمام دون أن تشدها أى كراكيب للخلف.