الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
شبرا التى كانت ثم أصبحت!

شبرا التى كانت ثم أصبحت!

عشتُ فى شبرا ثلاثين عامًا، طفولتى وصباى وشبابى وأحلامى، ولو وجدتُ فيها سَكنًا حين انفردتُ بحياتى الخاصة ما تركتها، حى بديع يتجلى فيه الله والوطن فى أعظم الصور، ويتحرك فيه البشر بتلقائية وسلاسة، الله واحد أيًا كانت الطريقة التى نحبه بها ونعبده، الوطن واحد أيًا كانت فصيلة الدم التى تجرى فى عروقنا.



حى بسيط يبدو فيه التسامح جزءًا من عادات أهله، وأساس بيوته وطلاء عمائره وروائح شوارعه وحاراته، سكانه لا يعرفون لفظ الآخر؛ لأنهم «أهل وجيرة وعِشْرَة»، العلاقات على سجيتها، والمسافة بين أنا والآخر وهُم فركة كعب، يقطعونها فى نكتة وعَشرتين طاولة وعزومة على العَشاء وزيارة عائلية ووقوف على الناصية وذهاب إلى السينما. 

أعود إليه من آن لآخر، تحديدًا إلى الشارع الذى عشت فيه وتربيت فيه، وسهلت لى خبرتى بالحى طرُقًا ومسارات أدخل وأخرج منه دون تعقيدات، لكن هذه المرّة شدنى الحنين إلى كل شوارعها ودروبها التى جريت فيها ولعبت فيها وتعلمت فيها، شارع طوسون وبديع وشكولانى وخلوصى وروض الفرج ومدرسة شبرا الثانوية وكنيسة سانت تريزا والجامع الهجين والترعة البولاقية وميدان فكيتوريا وسينما شبرا بالاس ومدبولى الحلوانى وعمارة حسين رياض ومكتبة دار المعارف وكنيسة خمارويه وجامع الخازندار ومطار المنوفية!

ياليتنى ما فعلت..ليست هذه شبرا التى تصورت أننى أعرفها، هذا بعض ما تبقى من شبرا، غارق فى قدر غير قليل من الفوضى.

شبرا حى حديث نسبيًا، عمره لا يزيد على مائتى عام، ليس له عراقة أحياء القاهرة القديمة، كالسيدة زينب والحسين ومصر القديمة وبولاق والقلعة، وكان إلى بداية القرن الماضى مجرد أرض زراعية تشقه ترعة شهيرة، رُدِمَتْ وسُمّيت شارع «الترعة البولاقية»، والبولاقية لأنها كانت تروى أرض بولاق التى كانت تمتد إلى شبرا، وأول عمران بالمنطقة كان قصر محمد على باشا بقرية شبرا الخيمة، ومَهّد له طريقًا من القاهرة هو شارع شبرا، فأقبل الأمراء والأغنياء والشوام على بناء القصور والبساتين على جانبى الشارع الذى يمر به «ولىُّ النّعم»، ثم زحفت المبانى الأخرى تدريجيًا حتى أخذت شكلها النهائى.

وشبرا خلطة من الطبقات الاجتماعية، طبقة وسطى غالبة وقليل من الموسرين الذين تربطهم بالحى وشائج لا يستطيعون قطعها، مع طبقة دنيا محدودة الدخل أو فقيرة بالمعنى الحَرفى، لكن ما يميزه هو عقول أبنائه، عقلية الطبقة الوسطى، المتفتحة للتواصل والتعليم والتفهم والتطور.

 ولعبت طبيعة شبرا الجغرافية دورًا رئيسيًا فى زحامها وتكدس سكانها؛ أولاً هى على حدود القاهرة الشمالية الملاصقة تمامًا للدلتا، ثانيًا: هى منجم فى فرص العمل، فيها أكبر سوق خضار وفاكهة قبل أن تنتقل إلى العبور، وسوق غلال، ومصانع ومئات الورش والمَتاجر وساحل روض الفرج، أى كانت بمثابة «أرض الأحلام للمهاجرين من قراهم الفقيرة»!

وحين غادرتُ الحىَّ فى عام 1990 كان قد وصل إلى ذروة الزحام والتكدس، ولم يكن مترو الأنفاق قد افتتح، وبدأ بعض سكانه فى مغادرته دون أن يتخفف من أثقاله، لكن حين سرتُ فيه هذه المرّة، كان الزحام مروعًا والتكدس مخيفًا، ليس بسبب الكثافة السكانية أو كثرة عدد العربات؛ لكن بسبب الفوضى، فالنظام يخفف كثيرًا من التزاحم، لكن الفوضى تحوّل الزحام إلى جحيم.

أخذت شارع شبرا من ميدان الخلفاوى، المسافة إلى سنترال شبرا معقولة نسبيًا، فإشغالات الطريق محدودة ولا تعطل السير كثيرًا، لكن بعد سنترال شبرا وكلية الهندسة، أجارك الله وعاونك، نحن فى فوضى عارمة، دوران شبرا يجسّد معنى القانون حين يغمض عينيه عَمدًا أو يفقأهما دلعًا، باعة الفاكهة والخضار احتلوا الجانب الأيمن من الشارع بعد كلية الهندسة التابعة لجامعة بنها، ولا تسأل كيف تكون بنها فى القاهرة، فهذه من تفانين الإدارة، المهم أن الباعة نصبوا سوقًا خاصة ممتدة حتى مدخل شارع روض الفرج، ثم فردوها إلى شارع جسر البحر، الحال نفسه فى شارع خلوصى.

ويبدو من شكل الباعة وطريقة تعاملاتهم وإحساسهم بالاطمئنان والأمان أن الأوضاع مستقرة، وأن ما يرتكبونه من قَطع الطريق أو احتلال جزء منه اكتسب شرعية ما، كما لو أنهم حصلوا على اعتراف مكتوم به من الحى وشرطة المرافق والمحال التجارية خلفهم ورجُل الشرطة الذى ينظم المرور فى «الدوران»، وبالمناسبة لا علاقة بين رجُل المرور واشغال الطريق وليست وظيفته، وقد ذكرته لأبيّن فقط مدى الصعوبة التى يؤدى به عمله فى «شارع» ثلث جانبه الأيمن مسدود أو مغلق طوال الوقت.

لا ينفك الزحام الشديد سيارات وبشرًا من أول دوران شبرا إلى نفق شبرا، والمسافة لا تزيد على أربعة كيلومترات، قطعتها فى ثلث ساعة تقريبًا، مع كثير من الألاعيب.

المدهش أن القاهرة لها أربعة مداخل للقادمين من الدلتا؛ شارع كورنيش النيل، شارع شبرا، شارع أحمد حلمى وشارع بورسعيد، ويخفف الطريق الدائرى بالالتفاف حول المدينة لمن يريدون الذهاب إلى أقصى شرق القاهرة أو جنوبها، ويظل شارع شبرا محورًا إلى وسط المدينة، والسؤال: مَن يسمح باحتلالات وإشغالات فى شارع هو أصلاً يتحمل فوق طاقته؟، ألا توجد حلول مبتكرة؟

انحرفتُ إلى شارع مسرة، الذى لى فيه ذكريات جميلة، الشارع كان به سينما مسرة، سينما درجة ثالثة، تعرفت فيها على «فن السينما» وأخذت أول دروس التذوق أسبوعيًا فى الصورة والموسيقى والدراما بـ«ثلاثة صاغ ونصف»، كانت تعرض ثلاثة أفلام فى بروجرام واحد، عربى على أجنبى، حفلة صباحية من العاشرة صباحًا إلى الخامسة أو قبلها بقليل، وحفلة مسائية من الخامسة إلى منتصف الليل أو بَعده بقليل. 

اختفت سينما مسرة وانتصبت مكانها عمارة ضخمة، تقريبًا اختفت كل سينمات شبرا، 13 دار عرض، وبالطبع معها سينمات أحياء القاهرة الشعبية، وحلت سينمات المولات، تذاكرها من 90 جنيهًا إلى 160 جنيهًا.

كانت السينما زمان مصدر إشعاع قبل أن تكون صناعة مدرة للربح والعملات الصعبة لمصر، وأداة مهمة فى التعليم وبناء الوعى الفكرى والاجتماعى والثقافى؛ لقطاع كبير من سكان الأحياء الشعبية.

أرجوكم لا يتعلل أحدٌ بالسوشيال الميديا ومنصات الإنترنت سببًا فى تدهور صناعة السينما المصرية، فما زالت السينما الأمريكية تعمل بكامل طاقتها وأيضًا السينما الهندية، فقط الأفكار والوسائل والأدوات تغيرت وتطورت وعملت بالتكنولوچيا الحديثة، ولم يتراجع إنتاجها ولا حجم مكاسبها.

نعم ينقصنا العقل الذى يحسن التفكير والتخطيط والبناء الصحيح.

المهم شارع مسرة حاله من حال شارع شبرا، فوضى يتزعمها «التوك توك» بجدارة فائقة، تشعر أنك تتحرك فى «منطقة حُرّة»، كل واحد «يعمل اللى هو عاوزه»، يمشى كما يريد، يركن كيفما شاء، يعطل الشارع إذا أراد، أو يتعارك مع عربة بجواره أو يسبه من بعيد لبعيد..ناهيك عن مقاهٍ منصوبة إلى منتصف الشارع.

لا يختلف الحال فى شارع الجسر من أول سوق روض الفرج القديمة إلى نهاية الشارع عند معهد ناصر، إشغالات لا أول لها ولا آخر، طبعًا عبور التقاطع مع شارع روض الفرج بسلام ودون ألفاظ وكلاكسات زاعقة وفى مدة معقولة نسبيًا هو نوع من الإنجاز التاريخى الذى يمكن أن يكتبه العابر فى مذكراته، وإذا كان يريد يسارًا إلى كوبرى روض الفرج؛ فعليه أن يضبط أعصابه بحبوب مهدئة، فالكل داخل فى الكل، وأحيانًا يستفز الموقف بعض الجالسين على المقاهى، فيتبرعون بتنظيم الفوضى، حتى يتحرك الشارع بسرعة السلحفاة.

طبعًا لم أحدّثكم عن مواقف الميكروباصات فى هذه الشوارع، فهى حسب مزاج السائقين، وفى الحقيقية حسب حركة الركاب، فالمواقف العشوائية ظاهرة فى أحياء كثيرة بالقاهرة والجيزة.

المهم قررتُ أزور مَدرستى القديمة، شبرا الثانوية، قصر طوسون باشا الفخيم، ذهبت إلى باب المَدرسة فى شارع طوسون فوجدته مغلقًا نظرتُ من فتحة فيه فأوجع بصرى إهمال فاقع، المَدرسة القديمة لم يعد لها وجود، وبنيت بدلاً منها واحدة جديدة تقابلها مَدرسة ابتدائية، والاثنتان مبنيتان على الحوش وملعب كرة القدم، والبابان على شارع الجسر..أصابنى الغم فلم أحاول الدخول.

نعترف أن الحياة تتحرك سواء أردنا أو لم نرد، وأن خُطى البشر فى قضاء حوائجهم أسرع من خُطى الحكومة، وإذا لم تسبقهم الحكومة بخطوة وتخطط وتنظم وتضبط بصرامة؛ تتكاثر العشوائيات وتتوحّش، والعشوائيات فى النهاية سلوكيات وتصرفات وثقافة، وإذا كنا نتوسع حاليًا فى إنشاء شبكات هائلة من الطرُق والمَحاور حتى نقطع دابر العشوائيات؛ فعلينا أيضًا أن نعيد الضبط والرّبط إلى ما أهملناه لأكثر من أربعين سنة.