الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مصر أولا.. غريب.. فاسد.. مريب.. سرقة المرضى وابتزازهم.. استثمار الأمراض وتجارة الأدوية!

مصر أولا.. غريب.. فاسد.. مريب.. سرقة المرضى وابتزازهم.. استثمار الأمراض وتجارة الأدوية!

دائمًا ما كنا ننتقد الخدمات الطبية الحكومية، بداية من الشكل العام للمستشفيات ومستواها، ومرورًا بعدم توافُر أطباء متخصّصين، وصولًا إلى عدم توافُر غرف عمليات مجهزة وخدمات تمريض جيدة.



الآن.. حدث تغيير جذرى تدريجى وجذرى فى القطاع الحكومى الطبى المصرى، الذى قدّم العديد من المبادرات الطبية لصالح المواطن المصرى، ولا تزال هناك مبادرات المستقبل.

 

فى جلسات لأحد الأصدقاء، تعرفتُ على ضيف جديد جلس بجانبى، عرفتُ بعد ذلك أنه طبيب أحد التخصّصات الدقيقة وأستاذ بإحدى جامعات الصعيد. وبالطبع تطرّقنا لحال الطب فى مصر؛ خصوصًا ارتفاع قيمة الكشف والعلاج والخدمات الطبية. وانتقدت ما يقوم به القطاع الخاص الطبى فى مصر ضد المرضى، وفى الوقت نفسه الإشادة بتطور أداء خدمات وزارة الصحة بشكل عام؛ خصوصًا فى ظل الأزمات على غرار وباء «كورونا». 

تطرّق الحديث لذكرى الراحل د.محمد عبدالغفار مشالى الملقب بـ«طبيب الغلابة».. فوجدت ملامح الضيق على صاحبنا بشكل رأيت أنه مُبالغ فيه. ووجدته مستاءً جدًا من الشكل العام الذى كان يظهر به «طبيب الغلابة»، واعتبره أنه شكل غير مشرّف للأطباء؛ بل وواجهة مسيئة بملابسه القديمة. والغريب فى الأمر؛ أنه فى بداية الحديث.. تحدّث بشكل إنسانى مبهر عن طبيب الغلابة، ومع نهاية الحديث.. ظهر موقفه المَخفى بوضوح.. وانتقد بشدة تصرف «طبيب الغلابة» من تحديد قيمة منخفضة للكشف على المرضى. وقال بالحرف الواحد «ده إهانة للأطباء». وتحولت كلماته فى لحظة لـ «عدو طبيب الغلابة». وغفلت بصيرته أن «طبيب الغلابة» تعرفه مصر كلها بل ونشرت قصته على مستوى العالم، وهو لم يسمع عنه أحد.. ربما من أفراد عائلته نفسها.

فى هذا السياق؛ أذكر أنه من أصعب المواقف التى تعرضتُ لها طيلة حياتى، عندما تم احتجاز «أبى» قبل رحيله بشهر فى أحد المستشفيات، وطلب الطبيب المعالج إجراء «منظار» للاستكشاف، ثم خرج مسرعًا من غرفة العمليات.. يطلب الموافقة على إجراء عملية سريعة.. باعتبارها فرصة لأنه تحت تأثير المخدر «البنج».. وفى كل الأحوال يجب إجراؤها؛ تجنبًا لدخوله غرفة العمليات مرّة ثانية.

وعرفتُ بعد ذلك من عدد من الأطباء الأصدقاء المتخصّصين بعد الاطلاع على التحاليل والأشعة.. أنه لم يكن فى حاجة لإجرائها حسب طبيعة سنّه. وتدهورت حالته، ودخل فى غيبوبة ورحل. وأخطأتُ حينها أنى لم أتخذ الإجراءات القانونية المفروضة.

إنه الملف المسكوت عنه..

المسكوت عنه فى القطاع الطبى المصرى هو القطاع الخاص الطبى بأباطرته من كبار الأطباء وكبار المستثمرين. والحلقة الأضعف دائمًا هو المريض الذى يتم استنزافه بين رُحَى عيادات الأطباء الخاصة والمستشفيات والصيدليات ومراكز التحاليل والإشاعات. وفى النهاية.. نلجأ لهم خوفًا من التقصير ولضمان العلاج وعبور المشاكل المرضية.

بعض الأطباء يبيعون مرضاهم، ويتعاملون معهم باعتبارهم عملاء بأشكال متعددة، وعلى سبيل المثال:

- عندما يفرض قيمة مالية مرتفعة للكشف، وقيمة أخرى صغيرة عند الاستشارة. بالإضافة إلى أضعاف هذه القيمة عند الزيارة المنزلية. وعندما يقرر إجراء عملية.. رغم أنه يمكن تجنبها بالعلاج. وهو ما يحدث على نطاق واسع فى القيام بعمليات الولادة القيصرية.. رغم إمكانيتها بشكل طبيعى. ومثلما يقرر إدخال المولود للحضانة رغم عدم الاحتياج لذلك.

- عندما يصمم على استنزاف أموال المريض بإجراء العملية فى أحد المستشفيات الخاصة المرتفعة التكاليف بأسعار مُبالغ فيها.. تحت مبرر ضمان تعقيم غرفة العمليات، وضمان التمريض للفترة ما بعد العملية. وإعادة العملية بسبب سوء التشخيص أو عدم دقة إجرائها. والسيناريو الأسوأ لو حوّله إلى مستشفى ليس لديه الإمكانيات والتخصصات التى تحتاجها حالة المريض، ثم يطلبون من أسرته نقله لمستشفى متخصص لأن الحالة خطيرة.

- عندما يطلب إجراء التحاليل فى مختبرات محددة والأشعة فى مراكز محددة لأنه يثق فى جودتها. مع أن حقيقة الأمر، أنه يحصل على نسبة «عمولة» مقابل تحويل المرضى إليهم. فضلًا عن طلب تحاليل وأشعة لا تحتاجها حالة المريض الطبية للحفاظ على حصوله على «العمولة» المتفق عليها.

- عندما يتحول الطبيب إلى وكيل لتوزيع أدوية شركات محددة فى مقابل منحه نسبة من المبيعات، أو هدايا عينية (لاب توب وموبايلات وشاشات تليفزيونية..) أو تغطية قيمة حضوره للمؤتمرات العلمية، أو دعوته لرحلات ترفيهية داخلية وخارجية له ولأسرته. وما يترتب على ذلك من الترويج لدواء تلك الشركات، وتعظيم أثره العلاجى، رغم وجود مثيل أو أكثر له متوافر فى السوق بالفاعلية نفسها، وبسعر أقل.

وهو ما يعنى استعداد تلك الفئة من الأطباء للتنازل التدريجى عن قيم الطب وأخلاقياته فى مقابل الشهرة المتسقة مع نسبة العمولة من جهة، ومع توجهات شركات الأدوية من جهة أخرى.

أعود لصاحب القصة التى ذكرتها فى بداية المقال، ووصفت صاحبها بأنه «عدو طبيب الغلابة».. الذى شعرت للحظة أنه تحوّل إلى طبيب.. فاقد الأهلية الإنسانية، وكأنه ذئب قناص مبتز لاصطياد المرضى.. واستنزافهم ماليًا ونفسيًا وإنسانيًا.. 

شعرت أنه قد أقسَم على تنفيذ عكس كل ما جاء بـ «قَسَم أبقراط» تمامًا؛ خصوصًا بعدما تأكدت أنه شريك فى عدد من المستشفيات ومختبرات التحاليل ومراكز الأشعة التى يحوّل إليها مرضاه.

استفزنى هذا الطبيب الاستثمارى للدرجة التى جعلتنى أصفه بأنه طبيب دجّال «غريب.. فاسد.. مريب..» بعدما ذكر فى إحدى جُمَله أنه ببعض الأدوية يستطيع أن «يشغل دماغ المريض أو يوقفه حتى لا يزعجه بالأسئلة»، كما أنه سيشعر بالراحة والهدوء التى تجعله يعود لعيادته مرّة ثانية. فهو غريب عن مهنة الإنسانية، وفاسد فى استثمار المرض والألم لتحقيق مكاسب مالية، ومريب مبتز فى سلوكه. 

القضية ليست فى هذا الطبيب تحديدًا؛ بل هو مجرد نموذج لظاهرة مستفحلة فى المجتمع.. وهى ظاهرة تضم أساتذة كبارًا لهم أسماؤهم فى عالم الطب باعتبارهم من الاستشارين المتخصّصين، وفى الوقت نفسه من كبار مستثمرى حياة المرضى.

يحتاج الأمْرُ إلى إعادة النظر فى تلك الظاهرة التى حوّلت الأطباءَ من استثمار العلم لصالح الإنسانية إلى استثمار الأمراض لصالح تضخم حسابات البنوك، ومن شغف صغار الأطباء للتعلم واكتساب الخبرة إلى التجارة والبحث عن شركات الأدوية والحصول على عمولات وامتيازات.. بعد تدنّى المعايير الاخلاقية والإنسانية. وتسببهم فى انتشار الطب البديل (مثل تجارة الأعشاب) والأدوية الوهمية المنتشرة على بعض الفضائيات. 

نقطة ومن أول السطر..

الطب رسالة إنسانية.. قبل أن يكون مهنة. وهو علم وليس تجارة بكل الأحوال لأن الطبيب هو الوحيد الذى يستطيع أن يؤثر بشكل مباشر فى الحالة النفسية لمريضه، وما يتبع ذلك من بناء حالة من الثقة.. التى تسهم بشكل فعال فى الشفاء.

ولكن للأسف، استغل بعضٌ من كبار الأسماء وشبابهم هذه الثقة لابتزاز المرضى.. إنه ملف جشع الأطباء.. الملف المسكوت عنه فى القطاع الخاص الطبى. هذا الملف الذى ربما يفرض بعد ذلك إجراء اختبارات نفسية للأطباء قبل ممارسة المهنة حتى لا يتحولوا من ملائكة الرحمة إلى «غريب.. فاسد.. مريب..». 

ورُغْمَ وجود تلك الفئة؛ لكن لا يزال هناك عظماء سيخلدهم التاريخ، وعلى سبيل المثال لا الحصر: د.هانى الناظر «استشارى الأمراض الجلدية»، ود.أحمد شريف كريم «أستاذ جراحة التجميل»، ود.محمد ندا «أستاذ الأمراض الجلدية»، والراحل د.نبيل خطار «أستاذ الأشعة التشخيصية»، والراحل د.مصطفى المنيلاوى «أستاذ الجهاز الهضمى وأمراض الكبد».

جميعهم يمثلون نماذج مضية لمهنة الإنسانية بكل معانيها؛ لأنهم مع الرحمة والإنسانية، وضد الابتزاز والجشع والتربُّح من صحة الإنسان.. ولدينا منهم الكثير.