الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

البرنسيسة والطيار المتشرد والمصور الأعرج! "الحكاية السابعة"

على صفحات المَجَلّة التى شهدت معاركه وتجربتَه الفريدة، نستعيد مع الأستاذ «عادل حمودة» أحدَ أهَمّ تحقيقاته الصحفية «ستيك هاوس.. شخصيات لامعة فى زنزانة الجنس الانفرادى».



هنا تصبح الكلماتُ بساطًا سحريًا ينقلك لتعرف الكثيرَ من الخبايا خلف الأبواب المغلقة، والبيوت التى ربما نَمُرّ أمامَها كل يوم لكن لا نعرف أىَّ شىء عمّا يدور بداخلها، يغزل بحكاياته الوجه الآخر لمشاهير وصعاليق.. فنانين وكُتّاب.

استطاع بحسّه الصحفى الذى لم يغادره أبدًا أن يغوص بنا فى أعماق وتفاصيل مجتمع «الشخصيات اللامعة»؛ ليظهر لنا جوانب حياتهم التى جاهدوا لبقائها بعيدة عن الأضواء.

ينتقل الأستاذ «عادل» من دراسة أسباب انتشار ظاهرة «زنَى المَحارم» فى العشوائيات وقتها، إلى قصر أحد الدعاة الذى تورّط فى علاقة مُحرّمة مع شقيقة زوجته.

أيضًا تكشف حكايات الكتاب الكثيرَ من التناقضات فى المجتمع وقتها فيما يخص علاقتنا بالدِّين؛ حيث يكشف تفاصيل قضية رشوة تورّطت فيها مهندسة مع مقاول شهير، ودخلت معه فى علاقة جنسية «لكنها لشدة تدَيُّنها كانت ترفض أن تلقاه يومَىْ الاثنين والخميس لأنها تصومهما»!

بين العشوائيات والقصور، نتعرّف خلال الحلقات المنشورة على حكايات لم نعلم عنها شيئًا.. حكايات مدهشة رُغْمَ مرور سنوات عليها.. وتفاصيل تؤكد أن فنون العمل الصحفى لا يزال لها بريقُها الخاص وأهميتُها فى رصْد ظواهر المجتمع بشكل محترف حتى فى زمن السوشيال ميديا..

امرأة استثنائية، كل ما يعرفه الشعراء من مفردات الأنوثة لا يغطى بوصة واحدة من سحرها، اشتهرت بالمهارة فى إغواء أكثر الرجال تماسكًا، طرّزت قبلاتها وكأنها دانتيلا، ونافست لمساتها الحرير، وعندما كانت تخلع ملابسها لم يكن أمام القمر سوى تغطيتها بنسيج من خيوطه الفضية، أما النجوم فكانت تلقى بخواتمها وأساورها، وفى تلك اللحظات كان الشعراء يصابون بالشلل، ويمسى النحاتون عاطلين عن العمل.

على أنها لم تعرف كيف تتعامل مع الرجال، كانت سريعة الاستسلام لكل من جن بها ولو كان سايسًا، كأنها تنتقم من مكانتها الطبقية العالية، ولكن تلك اللعنة لم تصبها إلا بعد أن حرمت من الرجل الوحيد الذى أحبته، وأمام الرجل الذى تزوجته - مع نساء اعتبرتهن أشياء بلا أسماء - مدت انتقامها إليه باصطياد مراهقين متشردين وضعتهم فى فراشه وتحدته أن يطردهم من البيت.

حالة خاصة نادرة، تجمع بين الأرستقراطية والبوهيمية، بين الملكية والدونية، بين وبرة قطة سيامية وأظافر أخرى سوقية.

بدأ اهتمامى بها فى فندق «كلاريدجز» على مائدة إفطار دعا إليها نزار قبانى احتفالاً بمصور صحفى بريطانى اسمه أنطونى أرمسترونج جونز أوجع قلب العالم بفيلمه عن مجزرة صبرا وشاتيلا فى لبنان بعد عشرين سنة من ارتكابها وفاز بجوائز متعددة الجنسيات واقتبس أبياتًا من محمود درويش سبق بها كلمة النهاية:

«صبرًا، تقاطع شارعين على جسد، صبرًا، نزول الروح إلى حجر، وصبرًا لا أحد، صبرًا هوية عصرنا إلى الأبد».

بدا أنطوان أو تونى كما ينادونه معتدًا بنفسه إلى حد الغطرسة أحيانًا، يتكلم من طرف أنفه، يندر أن يعجبه شخصية تأتى سيرتها، متقلب المزاج، يثرثر طويلاً، ثم فجأة يصمت ويسرح بعيدًا، يدخن بشراهة، يفتت الخبز قبل أن يتناوله، وكأنه بلا شهية، اكتفى بقهوة سوداء بلا حليب وشريحة توست بالزبد، ثم طلب كأسًا من خمر «سيزانو» الخفيف أصبح خلال نصف ساعة ثلاثة، تساءلت بينى وبين نفسى: ترى كم كأسًا يحتسيها ليلاً؟

وعندما قام من مكانه لاحظت عرجًا فى مشيته، عرفت فيما بعد أنه أثر شلل أطفال أصيب به مبكرًا فى صباه، ولكن أهم من ذلك أنه كان زوج الأميرة مارجريت «أو مارجو» حاملة لقب «كونتيسة سنودن» والشقيقة الصغرى والوحيدة لملكة بريطانيا «إليزابيث» الثانية.

كانت مفاجأة أن نزار كان يعرف الأميرة مارجريت، بل كانت تزوره فى بيته، تستمع لترجمات من شعره، ولنصائح من خبرة عمره، بل هى التى دفعته للتعرف على زوجها ليصور فيلمًا عن الفلسطينيين رغم أنهما كانا فى ذلك الوقت منفصلين.

كانت الملكة فى سعيها للانفتاح على الدنيا قد بدأت سلسلة دعوات على طعام فى قصر بكنجهام لشخصيات أجنبية لها مكانتها فى بلادها، وكان من الطبيعى أن يكون نزار قبانى على رأس المدعوين العرب، أليس سيد شعرائهم؟ ثم إنه كان قد استقر فى لندن بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وقدر له أن يموت فيها قبل أن يدفن جثمانه فى دمشق.

حمل نزار معه ملفًا لبعض قصائده السياسية والعاطفية بذل جهدًا كبيرًا فى ترجمتها إلى الإنجليزية حتى لا تفقد روحها، وأغلب الظن أن الملكة كانت مشغولة وقتها بأزمة تعويم الاسترلينى فلم تقرب الملف، أو لنقل الحقيقة أن ما نالت من تعليم لا يتجاوز آداب المائدة، وأصول البروتوكول، وأسلوب الحديث، وحدود المسافة بينها وبين الآخرين.

لكن الملف على ما يبدو لفت نظر مارجريت، تسللت قصائده إلى وجدانها فسعت للتعرف على خالقها، بل ودعته لزيارتها فى بيتها «كلارنس هاوس»، ثم قبلت دعوته فى بيته وصارت بينهما صداقة سمحت لها أن تتألم بحرية أمامه.

وإن لم تخنى الذاكرة استوحى منها قصيدة لم ينشرها إلا بعد سنوات حتى يبعد التفكير عن بطلتها قال فيها: «مع امرأة استثنائية مثلك، لا يمكننى إلا أن أكون استثنائيًا، ومع عاشقة مجنونة مثلك، لا يمكننى أن أبقى محاربًا على أرض منزوعة السلاح».

بل إنه تحدث معى كثيرًا عن حركة يدها الملكية الرشيقة مصرًا على أن حركة يد المرأة تكشف شخصيتها وطبقتها وثقافتها.

وربما استوحى من حركة يد مارجريت قصيدته التى حاور فيها يدين أرستقراطيتين «يداك ملوكيتان، لهما أبهة الملوك وعنفوان الملوك، وأنا لا أعرف كيف أجلس على طاولة الملوك، وما هى اللغة المستعملة فى مخاطبة الملوك، إننى لم أعشق فى حياتى مليكة غيرك، ولم أتورط مع امرأة من صاحبات الدم الأزرق سواك، فأنا واحد من أفراد هذا الشعب، قلبه ينبض كتفاحة حمراء، وأنفه يشم رائحة الأنثى بصورة بدائية».

والحقيقة أننى لم أكن مهتمًا بالعائلة المالكة وأرى أنها عائلة مضحكة هاربة من المتحف البريطانى لتؤدى دورًا كوميديًا فى مسرحية هزلية، واتفق نزار معى تمامًا مؤكدًا أن «مأساة مارجو» دليل على صدق تصورنا، كان متعاطفًا معها إلى حد شعوره بالحزن عليها، وأسهب فى وصف مشاعرها وكأنه قرأ ما بداخلها، ولتأثرى مما سمعت بدأت الاهتمام بها، جمعت الكثير مما نشر عنها، وإن بقيت موقنًا بأن الشاعر يحصد معلوماته من عمق الشخصية، بينما الصحفى يكتفى غالبًا بجمع ما يتناثر منها على السطح.

كانت مارجو تصغر إليزابيث بأربع سنوات، لكنها كانت أكثر حيوية منها، وتمتلك قدرة على التواصل مع الآخرين احتاجت شقيقتها سنوات طوال للتدريب عليها، باختصار - امتلكت مارجو من المواصفات ما يؤهلها للملكية أكثر من شقيقتها، ولكنها قوانين العرش التى لا تضع التاج إلا على رأس أكبر أبناء - أو بنات - الملك سنًا ولو كان متسامحًا مع الغباء.

حولت مارجو طاقتها المتفجرة إلى سجائر وخمر وسهرات ماجنة مع صديقات فارغات وسيارات مسرعة تقودها بتهور وكأنها قررت الانتحار بجانب الرقص بجنون فى الملاهى الليلية، ومن استمتاعها بالتمرد على التقاليد وقفت أمام مصورى الصحف بالبكينى لتسجل سابقة فى العرى بين الأميرات لو تصورت الملكة فيكتوريا الصارمة حدوثه لألقت نفسها فى نهر التايمز.

إن السلطة متعة ليس بعدها متعة وعندما تبخرت من بين يديها اندفعت دون وعى لتعويضها بمتع بديلة لم تشبعها أو تغنيها عن متعة العرش الذى ينحنى أمام المتربع عليه أصحاب المقامات والهامات لينفذوا ما يؤمرون به دون جدال، سمعًا وطاعة.

ولكن شاء القلب أن ينسى مارجو ما سببه العقل من حيرة، كانت فى الثامنة عشرة من عمرها عندما نظرت حولها فوجدت النقيب طيار بيتر تاوسند، مسئول الإسطبلات الملكية، وسيم، قوى، ناضج، هيرو، احتواها، أنساها تمردها، أشبعها عاطفيًا وجسديًا وعقليًا وصنع من حبه جناحين طارت بهما إلى جنة السعادة.

لو غاب عنها يومًا فتشت عنه فى كل زوايا السرايا، وخلف المرايا، فليس فى غرفة العشق سواه، ولا تتصادم إلا مع شفاه، ولا تتعانق إلا مع يديه.

ولكن القوانين الملكية الجامدة التى حرمتها من الحكم حرمتها أيضًا من الحب.

كان تاوسند قد طلق زوجته بعد أن خانته، ورغم أنه كان الضحية إلا أنه لم يقبل زوجًا للأميرة بسبب قانون أصدره الملك جورج الثالث فى عام 1772 يفرض موافقة العاهل الحاكم على زواج نساء العائلة المالكة بعد أن تزوجت اثنتان منهن برجال دون المستوى، إلا إذا وصلت الأميرة إلى سن الخامسة والعشرين ساعتها تتحرر من تلك القيود ولا تحتاج إلى تصريح ملكى للزواج ممن تشاء.

وكان من الممكن ألا يشعر العاشقان بطول العامين إذا ما عاشا معًا سرًا فى بكنجهام، ولم تكن العائلة المالكة لتمانع أو ترفض أو تغضب، فقصورها كانت دائمًا أماكن مثالية للخيانة بين سادة وخدم، وجدرانها لو نطقت لروت الكثير من الحكايات التى يصعب تصديقها، ولكن مشكلة مارجو وبيتر أن الصحافة شمت خبرًا فراحت كلابها المدربة تتبعهما، مصوبة الكاميرات إليهما ليل نهار، لعلها تظفر بلقطة تشبع شغف قرائها الذين يسعدهم متابعة فضائح ساكنى القصور التاريخية العالية.

إن الفضائح الملكية تشعر العامة بأن أصحاب السمو بشر مثلهم، ليسوا معصومين من الخطأ، يبدو العامة أكثر سعادة عندما تحطم الفضائح الهالات الوهمية التى صنعتها مظاهر خادعة، لكن المذهل رغم ذلك أن العامة يعشقون العائلة المالكة ولا يتصورون بريطانيا بدونها، ويبدو أن العالم معهم فى رؤيتهم.

ولكن ما جعل سيرة العائلة الملكية على كل لسان الحرية التى تتمتع بها الصحف فى نشر فضائحهم، ومن كثرة الصحف المتخصصة فى هتك الأسرار الشخصية تأسست فى بريطانيا مدرسة صحفية عرفت بالتابلويد تجاوز توزيعها اليومى المليون نسخة وعاشت دون شعور بالعار بجانب الصحف التقليدية المحافظة لتعلمنا الدرس الأول فى الديمقراطية، التنوع سنة الحياة الإنسانية والسياسية.

هروبًا من شمشمة الصحافة وجدت الملكة أن من المناسب تعيين تاوسند ملحقًا جويًا فى بروكسل طوال عامى الانتظار حتى تدخل شقيقتها عامها الخامس والعشرين ليعود بعدهما إلى لندن ليتزوج مارجو بعد أن تعهدا على ألا يفترقا إلا بالموت.

مثل زاهد فى دير قضى تاوسند العامين معزولاً عن المجتمع البلجيكى حتى لا يقع فى خطأ تستغله الصحافة فى إفساد ما بينه وبين مارجو مكتفيًا بسماع صوتها كل ليلة عبر الهاتف قبل أن ينام، أما هى فكانت مثل سجين يعد الأيام بالثوانى.

وما أن انتهت مدة العزل حتى عاد تاوسند إلى لندن ليجد مئات الكاميرات فى انتظاره على باب طائرته، وبفرح طفل فى محل لعب راح يتحدث عن سعادته بالزواج من الأميرة التى تنتظر.

بدا مثل فارس جاء على حصان أبيض ليأخذها إلى الجنة، ولكن الجنة لم تفتح أبوابها بعد أن رفضت الكنيسة زواجها من رجل مطلق، وانهارت مارجو، وغرقت فى بحر من خمر، لكنها كلما حاولت أن تخدر جرحها لتنسى ما بها من وجع تضاعف شعورها بالوجع، ذلك النوع المؤلم من الوجع الذى ليس له دواء إلا الزمن أحيانًا.

قتلوا حلمها، مؤسف أن يقتل إنسان حلمًا، مؤسف أن يكسر نجمًا، مؤسف أن يصير القلب فحمًا، والدمع ألمًا، والحزن دهرًا.

لم تتردد إليزابيث فى تفتيت مشاعر شقيقتها الوحيدة وبعثرتها على الرمال، مرة حماية لقانون تعفن بتغير الزمن ومرة خوفًا من كنيسة وضعت هى نفسها على رأسها.

إنها ليست الحالة الملكية الأولى التى حرمت فيها التقاليد الصارمة الحب.

القصة الأكثر خلودًا بالقطع قصة إجبار الملك إدوارد الثامن على التنازل عن العرش بعد 11 شهرًا من الجلوس عليه عندما أصر على الزواج من واليس سامبسون الأمريكية التى تزوجت وطلقت ثلاث مرات، بل ونفى خارج البلاد ليعيش فى باريس غير قادر على العودة إلى لندن إلا بموافقة الملك وإلا فقد الهبة المالية التى يعيش عليها ولم تزد على عشرة آلاف استرلينى.

احتاج الملك المتنحى إلى خمسين سنة ليجد مكانًا له وسط عائلته، ولكنه لم يعش طويلاً ومات بالسرطان لتلحق به زوجته بعد أن أغرقتها دموعها عليه.

لم تملك مارجو شجاعة عمها وتضحى بلقبها ومخصصاتها وقصورها، وفضلت الحياة المترفة الفارغة على راحة قلبها الذى حرقه شوقها لمن تحب.

عاد تاوسند إلى بروكسل وبقيت مارجو وحيدة تلعن عجزها عن تغيير واقعها وتحقيق حلمها، انكسر الكلام فى فمها، انكسر التعبير، وكلما تذكرت أحضان تاوسند شعرت بالتقصير بعد أن عجزت عن التغيير.

بغياب الحبيب الذى فض عذرية القلب تشابه الرجال فى عين مارجو، أصبحوا بلا ملامح، ماكينات متعة تؤدى وظيفتها فى العتمة كلما ثملت وغابت عن الوعى وقبل أن يضىء النور لا بد أن يختفوا من أمامها، إنهم خدم لصاحبة السمو، يطعمون جسدها كما يرتبون فراشها أو كما يصلحون سيارتها أو كما ينظفون أحذيتها.

ولكن تونى بدا رجلاً مختلفًا تمامًا.

واثق من نفسه، يعرف كيف يسيطر على المرأة، معتد بنفسه إلى حد الغرور، يمتلك سجلاً متخمًا من الغزوات التى أسقطت كثيرًا من قلاع النساء.

ولكنه بادل إعجابها به بعدوانية محسوبة كى يحد من إحساسها بذاتها.

سخر من الصور الملكية المفرطة فى التكلف التى تلتقط لعائلتها، سخر من الشعور بالملل الذى يصل إلى كل من يقترب من تاوسند أو يتعامل معه، وسخر من ملابس مارجو التى تجعل منها دمية مضحكة، سخر من كل ما يحيط بها، والسخرية أسلوب يتقنه نوع من الرجال لتحطيم هيبة المرأة إذا كانت من طبقة عليا بعيدة عن طبقته، يدمر ثقتها فى عائلتها ونفسها وكيانها لتسقط مثل ثمرة وحيدة شهية فى حجره.

ولكن هنا لا بد أن نعطى تونى حقه، فهو مصور فنان، يقدر بعدسة الكاميرا أن يكشف أشياء فى البشر لا تراها سوى العيون الخبيرة، وفى الوقت نفسه لم يعوضه نجاحه الفنى فى تجاوز عقد النقص التى تكونت فى طفولته، مرة بسبب شلل الأطفال، ومرة بسبب وصف أمه الدائم له بالفشل، ومرة بسبب ما فعل به زوج أمه وهو فى سن المراهقة.

طلبت مارجو منه أن يصورها، وافق بشرط أن تأتى إلى شقته البوهيمية الفوضوية، حيث كاميراته ومعمله والفراش الذى يستقبل فيه عشيقاته وأجبرها على ترك سيارتها الرولز رويس لتركب خلفه الموتوسيكل الذى ينتقل فيه فى شرايين لندن الملتوية والضيقة. جلست أمامه ليصورها وبفطنتها عبرت عما شعرت به لحظتها:

- أنت لا تريدنى جميلة.

- أريدك على سجيتك.

- لا أحد يتغير.

- لكنك لا تعرفين من تكونين ولا نحن خارج القصر.

- لأننا نلقمكم قصصًا خرافية عنا.

- لذلك أريد مارجريت التى لم يرها أحد من قبل.

وقف وراء كاميراته يتأملها، عدسة صغيرة نجحت فى تصوير غابات الشعر فى ألوانها، وتصوير الشامات فى اطمئنانها، وباقى علامات الجسد فى مكانها، ولكن ما كان بينهما أصبح مشاعًا بعد أن سرب صورة واحدة للصحافة بدت فيها الأميرة شبه عارية، وكانت كفيلة بفتح صفحة عشق جديدة فى كتاب فضائح صاحبة الجلالة.

تدخلت الملكة لحصار الفضيحة عندما عرفت أن شقيقتها ستتزوج.

لكن تونى كان يرى الزواج مروعًا يجعل السعادة سرابًا إلا أنه بعد أن خرجت مارجو من تحت غطاء فراشه منتشية وجد نفسه يطلب يدها:

- لكنك لا تطيق الزواج.

- فعلا أكره فكرة الزواج، ولكنى أكره فكرة فقدانك.

- لن تندم.

- عدينى بشىء واحد، ألا تشعرين بالملل.

وفى مساء ذلك اليوم تلقت مارجو مكالمة من تاوسند يطلب فيها منها أن تحله من تعهده بالوفاء لها لأنه سيتزوج من فتاة صغيرة لم تدخل العشرين بعد.

ولم يكن أمام مارجو سوى الموافقة، لكنها طلبت من شقيقتها إعلان خبر خطوبتها على تونى قبل أن يتزوج تاوسند، المرأة هى المرأة، لو فشلت فى الفوز برجل سعت جاهدة لتتجاوزه برجل آخر، ولكن الملكة صدمتها للمرة الثالثة وطلبت تأجيل الإعلان حتى تضع طفلها حسب التقاليد الصارمة التى تمنع صدور أى تصريحات أخرى قبل قدوم الطفل.

ما كل هذه القيود؟ ما كل هذه العقد؟ هل تتحكم تلك الأمور الصغيرة فى أشهر عائلة على وش الأرض إلى هذا الحد؟ لم استسلمت لكل ما يقيدها حتى حرمت من التمتع بالحياة على طبيعتها؟

يوم الزواج حملت سيارة ملكية تونى وأمه إلى الكنيسة، ووسط تهليل الملايين التى اصطفت على طول الطريق  لم ينسَ تونى أن يوبخ أمه ويسألها: «هل لاتزالين تصرين على أننى فاشل بعد أن صاهرت العائلة الملكية»؟!

ولم تجب الأم التى لم تحلم بأن ترى الملكة وجهًا لوجه فى يوم من الأيام، فإذا بها تقدر على دخول قصرها دون استئذان.

بدت مارجو سعيدة بالفعل، ولكنها فى تلك اللحظات الفارقة سألت نفسها: هل نسيت الحب الذى كان؟ هل تحب تونى أم تستمتع به؟

هل سينسى عشيقاته الثلاث، الممثلة والراقصة ومساعدته؟ هل صحيح أن واحدة منهن حامل منه رغم أنها متزوجة وزوجها صديقه؟ على أن مارجو لم تشأ أن تفسد على نفسها الفرحة التى حصلت عليها بعد طول نكد وقررت الاستمتاع باللحظة.

ويمكن القول إن قرار مارجو بالزواج من تونى - المنتمى إلى طبقة وسط - أثبت أنها امرأة عصرية فى حياتها، حرة فى حبها، مستقلة فى قرارها.

ويمكن القول أيضا إن قبول العائلة المالكة بمصاهرة مصور مستقل يبيع صوره للصحف بالقطعة دليل على تغيرها وانفتاحها على الشعب الذى تجلس فوق رأسه - أو فى قلبه - منذ مئات السنين.

ولكن بالقطع هناك عوامل أهم ساهمت فى ذلك الانقلاب، منها انتشار التليفزيون، وهبوط رواد الفضاء على سطح القمر، وفوز حكومات عمالية يسارية، وتراجع سطوة الإمبراطورية البريطانية بعد أن فقدت غالبية مستعمراتها، وتزايد التيارات الثقافية والسياسية المنادية بكسر الجمود والبرود، والثورة العلمية التى قدمت إجابات عما يطرحه البشر من أسئلة مختلفة عن الإجابات التى قدمها الدين، بجانب انتشار حركات الشباب فى العالم، ورفضها للملكية والكنيسة والأحزاب السياسية والحياة التقليدية، ولم يكن أمام الملكة سوى الانحناء للعواصف حتى إنها استقبلت فرقة البيتلز فى قصرها، واعتبر المتزمتون ذلك من علامات يوم القيامة.

على أن التغيير لم يفصح عن نفسه بقوة إلا فيما بعد عندما قبلت الملكة والكنيسة بزواج الأمير تشارلس وحبيبته الأولى كاميلا وكلاهما مطلق.

كانت كاميلا تعيش قصة غرام مع شخص آخر هجرها لبعض الوقت ليدخل فى علاقة مع الأميرة آن شقيقة تشارلس، فلم تتردد كاميلا فى إغاظة عشيقها بتقربها من تشارلس الذى أحبها بجنون وصدم عندما عرف أنه كان لعبة فى يدها.

تزوجت كاميلا من الرائد أندرو باركر وأنجبت منه طفلين توأم وقبل طلاقها عادت إلى تشارلس أكثر سخونة، مما ضاعف من أزماته مع ديانا، وبطلاق كاميلا وتشارلس لم تعترض الملكية هذه المرة على زواجهما، لم يكن عليها حرمان ابنها من المتعة بعد أن حرمته - لطول عمرها - من السلطة.

ولا جدال فى أن تلك التغيرات الحادة بدأت بزواج تونى ومارجو حيث عرفت بريطانيا مرحلة جديدة عنها تماما بداية.

وحمل تونى لقب «أيرل سنودن» وأسعده كثيرًا أن يرتدى ملابس التشريفات الأرستقراطية ونجح فى الحصول على تأييد الملكة بعد أن فكر فى أساليب فنية مبتكرة تقربها من عامة الشعب.

ولكن الملكة فى تلك الفترة كانت تريد قرضًا أمريكيًا بمليار دولار يساند اقتصاد بلادها المنهار، إلا أن الرئيس الأمريكى ليندون جونسون لم يتحمس لتقديم القرض، بل رفضه دون خجل أو اعتذار، واقترح مستشارو الملكة عليها دعوته إلى الصيد فى بلادها لعله يلين، إلا أن جونسون رفض الدعوة، وحتى لا يحدث أزمة برفضه دعا مارجو وتونى إلى عشاء فى البيت الأبيض بعد أن عرف بوجودهما فى بلاده.

على العشاء تصرفت مارجو على طبيعتها المتحررة، شربت حتى انطلق لسانها بنكات وقفشات جنسية سوقية، استجاب لها جونسون وأسمعها مثلها، بل قام ليرقص معها رقصات سريعة ماجنة.

ولم تنس مارجو أن ترضى غرور جونسون بالسخرية من سلفه جون كيندى.

وقبل أن تخرج مارجو من البيت الأبيض نجحت فى إقناع جونسون بمنح بلادها القرض.

نجحت الخلاعة فيما فشلت فيه السياسة والدبلوماسية والاتصالات الرسمية، لعبت مارجو على وتر النرجسية الجنسية التى اشتهر بها جونسون، أيقظت فى الذئب العجوز غريزة الصيد، ولم يتورع عن مغازلتها فى وجود زوجها وزوجته، ولم يكن ذلك مفاجأة فقد كان يستقبل عشيقته الإسرائيلية فى البيت الأبيض، وبسببها أخذ موقفًا معاديًا للعرب فى حرب يونيو 1967.

عادت مارجو منتشية من واشنطن، شعرت بتميزها، وتفوقها، وقدرتها على أن تنجح فيما فشلت فيه شقيقتها فعرضت عليها اقتسام مسئولية العرش بينهما، ولكن الملكة بالطبع رفضت وخرجت مارجو من قصر بكنجهام منكسرة لتجد فى انتظارها ما هو أسوأ، خيانة جديدة لزوجها.

لم يغير تونى من طبيعته، ظل مهووسًا بالجنس، باحثًا عنه فى كل امرأة تصادفه ولو كانت عاهرة أو خادمة أو هرة فى مقلب قمامة.

وفهمت من نزار أن مارجو استشارته باعتباره خبيرًا فى الحب: هل يجد الرجل فى خريجة سجون ما لا يجده فى ساكنة قصور؟ وفهم نزار ما تقصد، فلم يشأ أن يحرجها بالإجابة.

إن الجنس طعام غارق فى التوابل، يؤكل باليد، يكره طهيه مسلوقًا، يرفض التعامل معه بشوكة وسكين حسب بروتوكول دعوات العشاء فى القصر الملكى.

والمؤكد أن التفوق فى الفراش لا يشترط دكتوراه، فالأنوثة موهبة ربانية لا تعلمها الكتب ولا تحتاج شهادات عليا.

على أن تونى على ما يبدو تعود على نوع معين من النساء لا تجد عيبًا فى تنفيذ ما يطلب منها وفقدت مارجو أعصابها. وصفته بأنه «آكل لحوم النساء».

ورد عليها: «وأنت تشبهين الرجال المتشبهين بالنساء».

ترك تونى القصر واستأجر شقة متواضعة فى سسكس، غطى جدرانها بصفحات الجرائم فى الجرائد، وصفتها مارجو بأنها «بيت رعب» فرد عليها بوصف قصرها بأنه «بيت حشرات».

عاد كل منهما إلى الحزب النفسى والاجتماعى الذى كان ينتمى إليه من قبل، والجنس الذى جمعهما لم يكن ليكفى لاستمرار العلاقة بينهما، فعلاً الجنس مهم، ولكنه دون حب حقيقى ينتهى بالملل، والحب الحقيقى يحتاج وقتًا، والملل عدو الزواج ومدمره.

وبإذلال سافر تعمد تونى ألا يشارك مارجو فى احتفالها بعيد ميلادها وجن جنونها فأخرجت ما فى جوفها من أسرار خيانته وطالبت الملكية بأن تعاقبه، لا يحضر المناسبات الاجتماعية فى القصر، لا يشارك فى الصورة السنوية التى تلتقط للعائلة، لا يستخدم سيارات العائلة، وينزع منه اللقب الذى يحمله، ولكن الملكة رفضت قائلة:

- إنه قدم للتاج خدمات لا تنسى.

فقدت مارجو تعاطف عائلتها وأحضان زوجها وثقتها فى نفسها فابتلعت علبة من الأقراص المهدئة كادت تجهز على حياتها لولا براعة الأطباء الذين سارعوا إلى إنقاذها وتكتم القصر محاولة انتحارها حتى لا تحرم من الصلاة عليها فى الكنيسة بعد وفاتها.

وعادت مارجو إلى شلة صديقاتها المنحلات، زادت انفلاتًا على انفلات، سافرت معهن إلى منتجعات نائية حتى يتجنبن عدسات الصحف الفضولية، ولم تتردد أكثر صديقاتها قربًا من توريطها فى علاقة، كان يسعدها أن ترى أميرة تسقط، وراحت تعرض عليها رجالاً على حمام سباحة كاشفة عن قدرات كل منهم لنتأكد أن العهر ليس امرأة فقط.

ولكن مارجو لم تلتفت إلى المحترفين من الرجال وبخبرتها وضعت عينيها على شاب صغير بالكاد تجاوز سن المراهقة بدا غريبًا عن المكان بمن فيه.

طلبت منه خلع ملابسه لينزل إلى حمام السباحة، لكنه اعتذر لأنه لم يملك لباسًا للعوم فابتسمت مارجو بخبث وانتشاء.

كان رونى يدرس علم الأنساب والألقاب فى الجامعة، ولكن لتواضع معيشته يضطر إلى قبول أعمال بدنية تدر له مالا ينفق به على تعليمه، تنظيف أرضيات المستشفيات، غسل السيارات، تهذيب الحدائق، مثلا.

أخذته مارجو من يده فى سيارتها لتشترى له ما يحتاج من ملابس فى البحر وفى البر ولم تخجل من الدخول معه إلى غرفة قياس الثياب وخرجت مطمئنة.

عرضت عليه تهذيب حديقة بيتها فى جزيرة «جوليزيو» بالكاريبى ولكنه لم يهذب النباتات فقط، وإنما هذب جسدها أيضًا.

اللافت للنظر أنها تعاملت معه وكأنه عبد تمتلكه، طفت من جديد عقدة الملكية الاستعمارية، واحتلت رونى جسدًا وروحًا، واستنزفت موارده بلا رحمة، ومثل السادة المتغطرسين نادته بالصبى، ورفضت أن يناديها «عزيزتى»، ولو فكر قليلاً لأدرك أنها تحتاج إلى لقب «مولاتى» حتى فى أكثر الأوقات حميمية.

والمثير للدهشة أنها تعاملت معه بالطريقة الفظة التى تعامل بها تونى معها، الضحية تقلد الجلاد، تتبع خطواته، تتلذذ بتعذيب برىء لا ذنب له، تنتقم من شخص ضعيف بعد أن عجزت عن النيل ممن أذاها.

من جانبه شعر رونى بثقة فى نفسه لم يعرفها من قبل، جعله المجتمع فى طبقة دنيا، ورفعه الجنس إلى طبقة عليا، فوق أميرة التاج، ولكن الجنة التى عرفها لم تبقه فيها طويلاً.

شمت كاميرا التصوير رائحة الانفراد الصحفى من بعيد، واختبأ مصورو الفضائح «البابارتسی» وراء أشجار الغابة التى تطل على بيت مارجو فى الجزيرة البعيدة، وبسهولة وجدوا أمامهم صيدًا سمينًا، رونى يدلك مارجو بكريم مضاد للشمس، يبدأ بأطراف قدميها، ثم تزحف أصابعه على خريطة مرسومة توصل إلى الكنز، لتكون اللقطة مثالية، عناق حار فى الهواء الطلق تغطيه رائحة اليود المتسللة من البحر الهادئ الذى لم يعد ينفعل من كثرة ما تعرى البشر بالقرب منه.

نشرت الصحف الفضيحة تحت عنوان «الأميرة والمتشرد».

وما إن عادت مارجو إلى قصرها ومعها رونى حتى فوجئت بتونى يجلس فى انتظارها، أمر تونى بطرد رونى، لكن مارجو رفضت وأصرت على بقائه، بل طلبت من تونى أن يرحل من بيتها، ولأن المشاعر الاستعمارية كانت لاتزال تسيطر عليها لم تتردد فى سب تونى ووصفته بالأعرج المقعد المكروه من عائلته ومن نفسه، وحاول تونى أن يهدئ من روعها بضمها إليه كما تعود فى الأزمات، ولكن مارجو لم تستسلم له هذه المرة بعد أن وجدت فى رونى ما كان يملكه تونى.

يمكن أن تنتهى القصة هنا.

يمكن القول إنها ألهمت روائيين وشعراء وصناع سينما ومنتجى مسلسلات درامية ليقتبسوا منها خليتها الأساسية ويزرعوها فى شخصيات أخرى، فقدان الحب لا يعوضه الجنس، الجنس يصاب بالملل قبل أن يصاب بالعجز، الأجساد تدعى أنها لا تعرف الطبقية، ولكنها إذا ما فقدت الرغبة استردت شعورها بالاختلاف، الجنس يكشف عن عقدة اجتماعية أحيانًا، لا أحد يتغير، البشر مثل الثعابين تغير جلدها بنفس الجلد.

ولكن الحقيقة أن مارجو دفعت ثمن انفلاتها المتكرر من صحتها، أصيبت أكثر من مرة بانهيار عصبى، وكادت أن تدخل فى غيبوبة باحتساء الخمر مع تناول الأقراص المهدئة، ولم يكف رأسها عن التفكير إلا بعد إصابته بجلطات متعددة فى المخ انتهت بوفاتها بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها ولحق بها تونى بعد خمس عشرة سنة.

ترى كيف تقابلا فى العالم الآخر؟!