الأحد 22 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
انفجار الشرق الأوسط المؤجـل

هؤلاء يكتبون عن السيناريوهات

انفجار الشرق الأوسط المؤجـل

تمضى الأزمة الإيرانية-الإسرائيلية فى مسارات متشابكة تتجاوز السطح العسكرى إلى عمق استراتيجى بالغ التعقيد، تتداخل فيه اعتبارات الأمن القومى، وتوازنات الردع، وخرائط إعادة تشكيل الإقليم. لم تعد المواجهة محكومة بسياقات الردع الكلاسيكى أو قواعد الاشتباك المعهودة؛ بل تحولت إلى صراع وجودى مفتوح تُعاد خلاله صياغة المفاهيم المركزية للردع، وتُختبر فيه حدود القوة والممكنات.



وتبدو المواجهة بين إيران وإسرائيل وقد دخلت مرحلة تتجاوز مجرد تصعيد تكتيكى إلى ما يشبه صدامًا استراتيجيًا مفتوحًا، تتشابك فيه الاعتبارات العسكرية بالحسابات السياسية، وتُختبر خلاله حدود الردع وحدود الجغرافيا على السواء.

فالمسار العسكرى الذى اختارته إسرائيل منذ اللحظة الأولى، لم يكن مجرد رد فعل انفعالى؛ بل جزء من رؤية أوسع تستبق أى حلول دبلوماسية مرتقبة. فليس الهدف المعلن هو تدمير البرنامج النووى الإيرانى فقط، ولا تعطيل منظومته الصاروخية، وإنما تحييد مقدرات الجمهورية الإسلامية لعقود قادمة، وتسويق ذلك داخليًا باعتباره إنجازًا استراتيجيًا لإزالة «الخطر الوجودي» من على حدود الدولة العبرية.

ورغم أن ضربات طهران أصابت رموزًا إسرائيلية ذات دلالة - من حيفا، درة التاج فى شمال إسرائيل، إلى معهد «وايزمان» الصناعى العسكرى، الذى يوازى فى رمزيته وخطورته منشآت مثل ديمونة وناحال سوريك - فإن الرد الإسرائيلى جاء بأضعاف القوة، ليستهدف العمق الإيرانى عبر ما يمكن أن نطلق عليه بـ«ضربات ما فوق الأرض وتحتها»، مع التركيز على أهداف فى بوشهر ونطنز وغيرهما.

غير أن المقارنة بين الجانبين لا تخلو من مفارقة استراتيجية. فإسرائيل، برغم تفوقها العسكرى التقليدى، هى دولة صغيرة من حيث المساحة والعمق الاستراتيجى، أما إيران، فكيان مترامى الأطراف، معتاد على الحروب طويلة الأمد، وصاحب إرثٍ تاريخيٍ لا يستهان به.

 ولا يملك الإيرانيون أسطولًا جويًا متطورًا، لكنهم عوضوا ذلك بمسيَّرات دقيقة وقدرات حرب غير تقليدية، اكتسبوها من تجاربهم فى الحرب العراقية-الإيرانية التى استمرت ثمانى سنوات، والتى صنعت ذاكرة قتالية لا تزال حية فى مراكز صنع القرار بطهران.

وعلى الجانب الإسرائيلى، فإن الحرب الحالية تُدار من جيلٍ جديد من القيادات: وزير دفاع ورئيس أركان وقادة ميدانيون مختلفون عن أولئك الذين قادوا معارك غزة قبل نحو عشرين شهرًا فقط. وهى حرب تتجاوز، بالنسبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، خيارًا عسكريًا بل هى «معركته الأخيرة» معركة إثبات الوجود فى وجه معارضة داخلية متنامية.

ما نشهده فى مجريات الحرب الآن ليس مجرد تبادل نيران؛ بل إعادة صياغة لقواعد الاشتباك بين خصمين يملكان القدرة على التأثير الإقليمى العميق. فالحرب تدار عن بعد، دون احتكاك برى تقليدى، ودون جبهات محددة. المسافات الجغرافية بعيدة، والتهديد متبادل، والقدرة على الإطالة والإنهاك باتت سلاحًا بيد طهران، فى حين تخشى إسرائيل الانزلاق إلى حرب مفتوحة تستنزف أمنها وجبهتها الداخلية.

وتدرك تل أبيب أنها تخوض معركة ضد دولة، لا ضد ميليشيات مسلحة. فإيران ليست حماس ولا حزب الله، بل خصم له جيشه، وعقيدته، وأجهزته، وقدرته على الصبر الاستراتيجى. هذا ما يجعل الصراع أكثر تعقيدًا، ويعيد إلى أذهان الإسرائيليين مشهد حرب 1973، التى كانت آخر مواجهة مع جيش نظامى.

عند محاولة تقدير الكفة، يصعب الجزم بوجود رابح أو خاسر فى هذا المشهد المتحرك. فرغم ما أصاب بعض منشآت إيران النووية، فإن المواقع الأهم فى أصفهان وفوردو لم تُصب إصابات مباشرة، وتتطلب قدرات تدميرية عالية، من طراز تسليحى لا تملكه إسرائيل منفردة، وإنما الولايات المتحدة وحدها.

أما المنشآت التى تم استهدافها مثل نطنز وبوشهر، فحتى لو طالتها الضربات، فإن بنيتها العميقة تحت الأرض تجعل الأثر محدودًا، بينما تمتلك إيران خبرة فنية قادرة على إعادة الإحياء، وليس فقط الترميم. ومن هنا ينبثق السؤال الأخطر: هل بلغت إيران فعلًا «العتبة النووية»؟ 

لا توجد إجابة قاطعة، لكن المؤشرات تقول إن طهران باتت أقرب من أى وقت مضى لاختبار علنى لقدراتها النووية مثلما أقدمت عام 2022 بتجربة نووية رصدتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية حينها، وربما تتجه طهران إلى الانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT)، لتتحرر من القيود وتُعلن نفسها «دولة نووية بحكم الأمر الواقع».

وحال وصول إيران إلى هذه النقطة، قد يكون وقف الحرب هو الثمن الوحيد المتاح، أو يكون البديل ما يُعرف بـ«خيار شمشون»، أى اللجوء الإسرائيلى إلى محو كل ما يمثل تهديدًا إيرانيًا لبقاء إسرائيل فى الإقليم، حتى لو كان الثمن باهظًا.

وفى قلب هذا المشهد، يبرز نتنياهو كلاعب سياسى يجيد استثمار الحروب. فبينما نجح فى تجميد مشروع حل الكنيست مؤقتًا، وحشد دعم داخلى من خصومه، يحاول تصوير هذه الحرب كـ«هدية قومية» تزيل خطرًا داهمًا، وتستعيد هيبة الردع التى اهتزت.

لكن الموجات الارتدادية للصراع لا تتوقف عند طهران وتل أبيب. فغزة، التى باتت «قضية منسية» فى زحمة الصراع الأكبر، مهددة بتنفيذ مخطط التهجير بصورة صامتة، وتتقدم بخطى حذرة نحو التنفيذ فى ظل انشغال المجتمع الدولى. بل إن إسرائيل، إذا خرجت من هذه الحرب وهى تشعر بالانتصار أو شبه منتصرة، قد تتبنى استراتيجية توسعية تعيد إلى التداول مقولة: «إسرائيل سترسم خريطة جديدة للشرق الأوسط».

وأخيرًا، نحن إذًا أمام مواجهة لا تشبه سابقاتها، لا فى توقيتها، ولا فى أطرافها، ولا فى رهاناتها. فالصراع بين إيران وإسرائيل يتجاوز مجرد سباق عسكرى، ليتحول إلى معركة وجود، تتحدد على وقعها ملامح الإقليم، وتُرسم خلالها خرائط النفوذ من جديد. 

وقد تتخذ المواجهة بين إيران وإسرائيل طابعًا مؤسسًا لمعادلة جديدة فى الشرق الأوسط: معادلة لا تسير بالضرورة إلى حرب شاملة، لكنها تمهد لتوازن رعب مستدام، تُرسم على أساسه الخرائط والمصالح، وتُصاغ خلاله التحالفات مجددًا.

إننا بإزاء «انفجار مؤجل»، لا أحد يعرف متى يُرفع عنه الغطاء.

 

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية