الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
النيل.. هبة المصريين

النيل.. هبة المصريين

هو ليس مجرد مجرى مائى، ولا نهر عادى مثل باقى الأنهار فى العالم، ارتباط المصريين بالنيل ليس لأنه يحمل إليهم المياه التى يشربون منها ويزرعون بها، ولكن لأن بينهما حوارا عميقا فى الحياة بكل مشتملاتها ومكوناتها وجوانبها المختلفة، تجده فى كل تصرفاتهم وكلامهم وأحلامهم وفسحتهم وموتهم وحياتهم وفنونهم وثقافتهم وحضارتهم، ولذلك أحسنت مكتبة الإسكندرية صنعا عندما خصصت العدد الأخير من مجلة ذاكرة مصر عن نهر النيل، وهى مجلة ربع سنوية يشرف عليها الدكتور مصطفى الفقى مدير المكتبة ويترأس تحريرها الدكتور سامح فوزى، وكان من الموفق للغاية اختيار القائمين على المجلة عنوان الغلاف «مصر والنهر.. الحضارة والحياة»، وأكدت المجلة من خلال موضوعاتها المتعددة أن النهر بالنسبة لمصر حياة متكاملة وحضارة امتدت على ضفافه أكثر من سبعة آلاف سنة، ولذا كان النيل محل تقدير وقداسة فى كل العصور التى مرت بها بلدنا.



عند الفراعنة صور الفكر الدينى المصرى القديم أن روحا تكمن وراء النهر العظيم تدفع مياه الفيضان حاملة الخصب وهى روح الإله حعبى، وهو ما يظهر فى أنشودة النيل التى نشر الدكتور حسين عبد البصير جزءا منها فى دراسته: «تحية لك يا حعبى، اخرج لنا من هذه الأرض واحضر لتهب لمصر الحياة، إنك تخفى مجيئك فى الظلمات وتغطى أمواهك البساتين، أنت واهب الحياة لكل ظمآن»، ويضيف «عبد البصير»: «نظر المصريون إلى النيل بعين القداسة واستخدموا مياهه للتطهر ولأداء الطقوس الدينية وبرز تقديس النيل من خلال حرص المصرى على طهارة مياهه من كل دنس كواجب مقدس فمن يلوث المياه كان يتعرض لعقوبة انتهاك غضب الإله فى العالم الآخر».

واستمر احتفاء المصريين بالنيل فى العصور التالية وربما يظن البعض أنها خفتت خلال العصر الإسلامى، ولكن على العكس فقد كان للإسلام نصيبا غير قليل فى احترام النيل والحفاظ عليه، وهو ما تكشف عنه الفتاوى الخاصة بالنيل فيذكر الدكتور محمد سليمان فى بحثه: «أن جلال الدين السيوطى كتب عن حماية البيئة وشواطئ الأنهار ومنع التعديات على نهر النيل والبناء على حرم النهر»، وتتبع الدكتور محمد عفيفى أستاذ التاريخ المعروف وضع النيل لدى المصريين فى المرحلة الإسلامية من خلال كتابات الرحالين المسلمين عن النهر وأبرزهم الحسن بن محمد الوزان المشهور باسم ليون الإفريقى والذى كتب: «لو سردنا ما قاله الجغرافيون عن النيل لأصيب الناس بالدهشة والتعجب ومن المحتمل ألا يصدقوا ذلك»، ويسرد الدكتور عفيفى ما قاله أوليا جلبى فى كتاب «سيحاتنامه مصر»: «انه أحد أنهار الجنة العظيمة، وأن الله نظر إلى مصر نظرة العطف والرحمة ولهذا ينبت فيها الذهب»، أما أبو سالم العيكاشى فقد كتب فى مخطوطه المعنون «الرحلة الكبرى»: «أن النيل أشرف الأنهار الأربعة الخارجة من الجنة وأثر بركته ظاهرة للعيان فى مائه وترابه وقراه ومدائنه».

 ولأهمية النيل فى حياة المصريين استمرت الاحتفالات به فى العصور الإسلامية المختلفة، وهو ما كشفه الدكتور جمال كمال محمود والذى كتب «أنه فى العصر الإسلامى كان الاحتفال بوفاء النيل من أكبر وأعظم الاحتفالات فى مصر، وعد المؤرخون الاحتفال بوفاء النيل من المحاسن والفضائل التى اختصت بها، وكان الاحتفال فى مصر الإسلامية مهرجانا قوميا يشارك فيه عناصر الأمة جميعا بطبقاتهم الاجتماعية وطوائفهم كافة ابتداء بالحكام وانتهاء بالعامة، أما الاحتفال فى العصر الفاطمى فقد كان يفوق الوصف، وحافظ خلفائهم الأيوبيون على كثير من مظاهر الاحتفال وهو ما استمر مع العثمانيين وكذلك فى عهد محمد على وإن كان بدرجة أقل نظرا لوجود اضطرابات فى بداية حكمه». 

وفى العصر الحديث اهتم الحكام بمياه النيل واستخداماتها، وظهر ذلك فى إنشاء وزارة الرى والمشروعات التى أقيمت على النهر والتى عددها أحمد كمالى فى مقاله مثل القناطر الخيرية وقناطر زفتى وأسيوط ونجع حمادى وإدفينا.

وعما يحدث الآن من تعنت إثيوبى وادعاءاتها القانونية الباطلة تعرض الدكتور أيمن السيد عبد الوهاب للعلاقات المصرية السودانية الخاصة بالنيل واتفاقيتى 1929 و1959، وهى تكشف عن عدد من الحقائق وأبرزها «أن الركائز القانونية التى تستند إليها مصر المدعمة بالحقوق المصرية لا تقتصر على المعاهدات والاتفاقيات السابقة فقط بل تستند أيضا إلى ما تضمنته اتفاقية فيينا عام 1978 بشأن التوارث الدولى للمعاهدات والاتفاقيات، وبالتالى لا مجال لتلك الدعوات التى تتعلق بعدم مشروعية تلك الاتفاقيات بزعم أنها وقعت فى عهد الاستعمار».

ولأن النيل عاش فى وجدان المصريين ظهرت عشرات القصص ذات الجذور العميقة فى الخيال الشعبى لعب فيها النيل دورا أساسيا لا يكتمل نسيج القصة بدونه، وحسب رأى الناقد الفنى رامى عبد الرازق أن النيل كان أحد أبرز العناصر البصرية فى البيئة المكانية ولذا كان لا بد أن يكون حاضرا فى السينما، ويرى رامى «أن عدم وجود سينماتيك مصرى أدى إلى غياب الإحصائيات والحصر العددى للأفلام التى ظهر فيها النيل، حيث يكاد يكون هذا النهر أشهر عناصر الطبيعة الصامتة التى ظهرت كخلفية مكانية ذات شكل جمالى عبر آلاف اللقطات التى صورت على الكورنيش، وسواء كان المشهد يستدعى وجود شخصيات على النيل أو لا تستدعى فإن عشرات المخرجين على اختلاف الأجيال والأذواق والرؤى حرصوا على أن تتم عملية تهوية الفيلم بصريا عبر استغلال النيل كخلفية طبيعية وجمالية».

لقد امتزج النيل فعليا بالمصريين وصار معهم وحدة واحدة لا يمكن فصلها، وإذا كان هيرودوت قال إن مصر هبة النيل فإن الأصح ما قاله المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال أن النيل هبة المصريين.