الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
 كيرلس السادس.. بابا المحبة والتسامح والوطنية

كيرلس السادس.. بابا المحبة والتسامح والوطنية

«إن اسم كيرلس ذو رنين خاص فى تاريخ الكنيسة القبطية، كيرلس الأول عمود الدين، والثانى مشرع حكيم، والثالث مرشد يقظ، والرابع أبو الإصلاح، والخامس زعيم روحى قومى من الطراز الأول».. ما سبق كتبه المفكر الكبير وصاحب العبقريات عباس محمود العقاد عقب اعتلاء البابا كيرلس السادس كرسى البابوية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية عام 1959، وكأنه كان يتنبأ بميلاد بطريرك عظيم ليس فى تاريخ الكنيسة فقط ولكن فى تاريخ مصر أيضا.



 البابا كيرلس السادس والذى مرت ذكرى وفاته الخمسين منذ أيام، هو واحد من البطاركة الذين ستظل سيرتهم تعطر كتب التاريخ، وإذا كانت الكنيسة استبقت السنوات ومنحته لقب قديس منذ أعوام بقرار استثنائى لعدم مرور خمسين عاما على وفاته؛ حيث تشترط القوانين الكنسية مرور نصف قرن على الوفاة قبل الاعتراف بقداسة أى شخص، فإنه أيضا يستحق لقب بابا المحبة والتسامح والوطنية، فقد كان محبا للجميع ومتسامحا حتى مع من أذوه وحاولوا الانتقاص منه وهاجموه بعبارات غير لائقة مثل وصفه بالبابا الجاهل من قبل بعض شباب الأقباط، لكنه استوعبهم وتسامح معهم بل واختار بعضهم لمواقع كنسية مهمة وزكاهم وساعدهم قدر استطاعته، أما مواقفه الوطنية فقد كان مثل كل الباباوات فى تاريخ الكنيسة عبر عصورها المختلفة، والذين انتموا للوطن ودعموه فى كل الأزمات ووقفوا ضد الأعداء والمحتلين، ورفضوا محاولات استغلالهم دينيا لشق الصف الوطنى.

وبجانب رؤية البابا كيرلس الوطنية، وموقفه المعادى لإسرائيل بسبب اعتدائها على سيناء والمقدسات الدينية فى فلسطين، فإنه تميز أيضا بعلاقته الرائعة مع الرئيس عبدالناصر، والمصادفة أن الاثنين توفيا فى توقيت متقارب بفارق عدة شهور، هذه العلاقة أصبحت نموذجا ومقياسا فى العلاقة بين رأس الكنيسة ورئيس الجمهورية، فى البداية لم تكن العلاقة بين الاثنين قوية، بل كان يشوبها نوع من الفتور فى الشهور الأولى بعد انتخاب البابا، وربما يرجع السبب إلى عدم إلمام عبدالناصر بمكانة البابا ووضع الكنيسة المصرية عالميا، ولهذا فلم تتم أى مقابلات بين الاثنين خلال هذه الفترة رغم طلب البابا اللقاء عدة مرات، ولكن هذه الحالة انتهت بعد أن بادر البابا بزيارة عبدالناصر فى منزله، وبعدها توطدت العلاقة وتحولت إلى صداقة قوية حتى إن البابا كيرلس كان يزور عبدالناصر فى أى وقت يشاء، هذا التحول فى العلاقة من التوتر إلى الحميمية والتى لم يعرف لها عوام الأقباط سببا, أطلق حولها عدة حكايات تصل إلى حد الأسطورة يرويها البسطاء حتى الآن على أنها حقائق، مثل أن أحد أبناء الرئيس -أو إحدى بناته فى رواية أخرى- أصيب بالشلل وعجز الطب عن شفائه فصلى له البابا وحدثت المعجزة وعاد لطبيعته، ومنها أن عبدالناصر أصيب بأزمة قلبية ومنع الأطباء المعالجين الزيارة عنه إلا أن البابا صمم على رؤيته وذهب إليه وصلى له وبعد ساعات قليلة شفى تماما وكأن شيئا لم يكن.

هذه الحكايات وغيرها يتداولها بعض الأقباط ضمن ما يروونه عن معجزات البابا كيرلس، ولكن ورغم ارتياح الاثنين لبعضهما بشكل شخصى وانسانى إلا أن وراء تبدل الحال من الفتور إلى الحميمية أسباب أخرى، يطرحها الكاتب الكبير والباحث المعروف هانى لبيب فى كتابه «الكنيسة المصرية.. توازنات الدين والدولة»، وهى اكتشاف عبدالناصر لنفوذ البابا الروحى على المستوى الداخلى والدولى، وقد حدث هذا الاكتشاف عندما زار الإمبراطور الإثيوبى هيلاسلاسى مصر وذهب خلال الزيارة إلى مقر البطريركية ومعه الوفد المصرى المرافق له، وقلد الإمبراطور البابا وشاح سليمان الأكبر والصليب المقدس، وهو ما أثار دهشة المرافقين المصريين وبالطبع نقلوا للرئيس ما رأوه من تبجيل للبطريرك المصرى، وهنا أدرك عبدالناصر تأثير الكنيسة الروحى فى بعض الدول الإفريقية المهمة، ما كان له دور كبير فى إعادة صياغة العلاقة بين الاثنين دون نفى الارتياح الشخصى والعلاقة الإنسانية التى دعمت التقارب والصداقة بين البابا والرئيس، وتجلت هذه المحبة بين الاثنين عند بناء الكاتدرائية بالعباسية، فقد كان البابا يريد بناء كاتدرائية كبيرة تليق بمقام الكنيسة المصرية، وكانت موارد الكنيسة وقتها قليلة، فدعا البابا الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل والمقرب من عبدالناصر لزيارته وتحدث معه عن المشكلة، وعندما عرف عبدالناصر كان رد فعله رائعا وقرر أن تساهم الدولة بنصف مليون جنيه فى بناء الكاتدرائية نصفها نقدا والنصف الآخر عينا بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام، كما حضر عبدالناصر افتتاح الكاتدرائية عام 1968.

جوانب كثيرة فى العلاقة بين الاثنين جعلتها نموذجا يحتذى به، ولكنها تجربة لم تتكرر مرة أخرى، فعلاقة البابا شنودة والرئيس السادات شابتها الخلافات والتوتر، كما أن علاقة الرئيس مبارك مع البابا شنودة كانت وسطا بين الاثنين، وفى المرحلتين أيام السادات ومبارك عانى الأقباط من عدد من المشاكل، والتى كان يتم حل بعضها بواسطة الرئيس ويتم إغفال بعضها الآخر، وهو ما يؤكد أنه رغم أهمية وجود علاقات طيبة بين البابا والرئيس، إلا أن الأهم هو تدعيم دولة المؤسسات والقانون والمواطنة فهى الركائز التى تبنى عليها الأوطان.

البابا كيرلس لا تكفى المساحة لإعطائه حقه والوفاء بما قدمه للكنيسة ووطنه، والاحتفال باليوبيل الذهبى لذكرى رحيله مناسبة وطنية وليست قبطية فقط.