عادل حمودة
صلاح حافظ.. أسطورة مقاتل
ولد صلاح حافظ فى اليوم نفسه الذى صدر فيه العدد الأول من هذه المجلة.. «روزاليوسف».. ولد فى يوم 27 أكتوبر 1925.. صرخا معًا.. تنفسا فى لحظة واحدة.. وارتبط مصيره بمصيرها.. لمع على صفحاتها، قاتل أشهر معاركه السياسية، والصحفية وهو فى خندقها.. ومع أنه عمل فى صحف ومجلات أخرى عديدة.. متنوعة، فإن القراء يأبون إلا أن ينسبوه إليها.. فهى بيته، ومحل ميلاده، ومدرسته التى تخرج فيها، ثم أصبح من أبرع وأشطر معلميها.. وعندما تولى رئاسة تحريرها - فى منتصف السبعينيات- رد إليها الجميل.. فقفز بتوزيعها، وسمعتها ونفوذها، وتأثيرها إلى القمة من جديد.إنها صدفة مدهشة.. أن يكون عيد ميلاده هو عيد ميلادها.. وأن يكبرا معًا ساعة بساعة.. ولحظة بلحظة.. ولكنه يقول: «إنها أكبر منى بكثير لأن عمرها هو مجموع أعمار الذين التحقوا بها، وتعلموا فى مدرستها.. وفهموا سر استمرارها».
فى مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، وقبل أن يدخل فى غيبوبة الموت، كان حريصًا على تأمُّل صفحاتها، ونقد موضوعاتها.. وكان يفعل ذلك بالإشارة، ولغة الأصابع.. بعد أن ضغط سرطان المخ اللعين على مراكز النطق، فجعله - وهو القادر على التعبير ببراعة ورشاقة - عاجزًا عن الكلام.
إنها سخرية القدر.. فهو لم يصب بأى مرض، طوال حياته، حتى الزكام.. ولم تتسلل الشعيرات البيضاء إلى رأسه.. ولم يفقد الانتماء إلى الشباب.. فى الثياب والأفكار.. ولكن.. ذلك كله انقلب فى آخر عامين.. عندما طرق السرطان أبواب جسده.. وطالبه بسداد «فاتورة» الألم مرة واحدة.
ففى رمضان قبل الماضى، أحس بالإعياء من أقل مجهود.. حتى لو تحرك من المكتب إلى الفراش، وهما فى حجرة واحدة.. وبعد ساعات، كشفت التحاليل والأشعة - التى أجراها للمرة الأولى فى حياته - عن ورم خبيث اختار السكن والنمو العشوائى بين الحنجرة والرئة.. ونصحه موسى صبرى بالسفر إلى السويد.. المشهورة بعلاج هذا النوع من الأورام الخبيثة.. وفى عاصمتها.. ستوكهولم أدرك الأطباء أن السرطان يعرف شخصية من يهاجمه.. فصلاح حافظ عنيد، وإصراره على الحياة لا حد له.. لذلك اختار السرطان العبث بخلايا هذه المنطقة التى يصعب على الأطباء التعامل معها بحرية.. أو إزالة الورم المتهور منها كاملاً، مهما كانت دقة المشارط والمناظير.
وبعد عدة أشهر، ضرب السرطان ضربته الثانية فى مكان أخطر.. الفص الشمال من المخ.. المسئول عن حركة اليد اليمنى.. التى يكتب بها.. والمسئول عن حركة الساق اليسرى.. كان صلاح حافظ يقود سيارته «الريجاتا» البيضاء عندما أحس بأنه غير قادر على التحكم فى القيادة.. فسارع بإيقاف السيارة.. وعرف أنه دخل الجولة الثانية مع المرض.. وبالرغم مما أصابه، فإنه أصر على أن يكتب، ويعبر عن نفسه.. وراح يملى مقالاته على شقيق زوجته.. الأديبة هالة الحفناوى.
وراح يشرح لنا بهدوء، حسدناه عليه - الفنان هبة عنايت وأنا - ما الذى أصابه.. وما الذى يفعله السرطان فى المخ.. ثم أضاف: وهذه الحالة تعنى أننى لن أعيش فى أفضل الأحوال أكثر من ثلاث سنوات، كان يتحدث وكأن المريض شخص آخر غيره.. ولم يكن ذلك مثيرًا للدهشة.. فهو قادر على التعامل مع الحقائق - مهما كانت مؤلمة - بثبات.. تجربة السجن السياسى لأكثر من ثمانى سنوات فرضت عليه ذلك.. وهو قد درس الطب مثل يوسف إدريس، ومصطفى محمود، وإبراهيم ناجى.. وظل حتى السنوات الأخيرة يقرأ الجديد فى الطب، مع أنه لم يمارسه.. وكنا نستشيره فى أوجاعنا وأمراضنا.. ونثق فى تشخيصه.. كنا نعرف إيمانه بالعلم، ونتعجب من جهاز الكمبيوتر المتطور والمعقد الذى اشتراه، ووضعه إلى جانب فراشه، وراح - وهو المعروف بأسلوبه الأدبى والصحفى المميز - يفك رموزه، ويتعلم لغاته، ويسيطر على برامجه.. إن شعاره غير المعلن كان: اطلبوا العلم ولو بعد الستين.
لقد جاء صلاح حافظ من الفيوم إلى القاهرة ليدرس الطب، فقرر أن يصبح أديبًا، ثم وجد نفسه فى أحضان امرأة مثيرة، وغيورة اسمها الصحافة، فاندفع إليها، ووجد نفسه مقيمًا معها مصرًا عليها.. ووظف كل شىء من أجلها.. العلم.. الطب.. الأدب.. الفن.. بل والحياة نفسها.
وهو طالب ثانوى فى الفيوم فاز فى مسابقة، القصة القصيرة أجرتها وزارة «المعارف» العمومية.. وتحمست لنشر قصته بجريدة «الكتلة» التى أصدرها مكرم عبيد بعد انشقاقه عن «الوفد».. وتحمس هو للسفر إلى القاهرة.. أم الدنيا.. جبل المغناطيس الذى يجذب أبناء الريف، ويخلع المسامير التى تربطهم بقراهم.. فوجئ بالترام، والزحام، والمطاعم، والقهاوى، والنساء السافرات، والمياه الغازية.. شدته القاهرة بحيويتها، وبريقها، وبعقلها، وذوقها أيضًا.. ففيها يعيش كل الأدباء الذين عشق أساليبهم فى الكتابة.. طه حسين المستنير.. توفيق الحكيم الجرىء.. مصطفى لطفى المنفلوطى الرومانسى.. محمد التابعى المجدد.. ولكن الساعات الجميلة التى قضاها فى القاهرة طارت.. وعاد إلى قريته وهو منوم بسحرها.
فى سنة 1948، عاد إلى القاهرة، ليدرس الطب، استجابة لرغبة والده، المدرس، والناظر، المهموم بقريته.. كان والده يريده طبيبًا ليعالج فلاحى القرية الفقراء، الذين ينهشهم المرض والجوع ويجهز عليهم الفقر.. وكان هذا السبب هو ما جعل صلاح حافظ يتحمس لدراسة الطب.. ثم .. كان السبب فى انحيازه الدائم للبسطاء.. ملح الأرض.. ثم .. كان السبب فى انتمائه لليسار.. ودخوله أحد تنظيماته الشهيرة.. «حدتو» ودفع ثمن ذلك من حريته فى معتقل «الواحات».
فى القاهرة بدأ مشواره العملى بنشر قصصه القصيرة فى جريدة كان يرأس تحريرها كامل الشناوى، كانت تسمى «المسائية».. وهناك تعرف على كل نجوم جيله.. إبراهيم الوردانى.. مأمون الشناوى.. مصطفى محمود.. محمود السعدنى.. حسن فؤاد.. أنيس منصور.. ومنها انتقلوا جميعًا إلى جريدة «النداء» التى كان يملكها ياسين سراج الدين.. الذى اقترح على صلاح حافظ رئاسة تحرير مجلة جديدة للقصة.. وهى المجلة التى اكتشفت موهبة يوسف إدريس ونشرت أول أعماله.
ومن مجلة «القصة» إلى مجلة «روزاليوسف».. فابتعد عن الأدب واقترب من السياسة.. وفى الوقت نفسه خطفته.. «أخبار اليوم» فوجد نفسه فى أحضان الصحافة.. لقد عمل فى وقت واحد فى روزاليوسف وأخبار اليوم معًا.. فأخذ من الأولى الجرأة وشجاعة الرأى والحماس للأفكار الجديدة.. وأخذ من الثانية أصول الحرفة، وسرعة التأثير فى القارئ، وفنون الإثارة.. كانت فرصة نادرة.. لم تتح لغيره.. أن يجمع فى يده خيوط مدرستى الصحافة المصرية، وينسج منها أسلوبه الخاص.
وكان ذلك يعنى المزيد من التورط فى مطابخ الصحافة، على حساب «جنة» الأدب.. فقد أصبح عليه أن يقدم للقارئ الوجبات السريعة، الشهية، المؤثرة، والساخنة.. ولم يعد يملك ترف التأمل، ولا الإبداع الروائى، وهو ما يحتاج فترة حمل أطول، وآلام ولادة أشد.. لقد تزوج الصحافة.. المرأة الغيورة التى طالبته بالعشق والإخلاص والتفرغ لها 24 ساعة فى اليوم و365 يومًا فى السنة.. ومن ثم أهمل دراسة الطب وكتابة القصة، والعودة بانتظام إلى الفيوم.
ولم يكتب صلاح حافظ إبداعاته الأدبية، أو الفنية، إلا عندما فرضت عليه السياسة، الانفصال عن الصحافة، وفرقت بينهما.. ففى معتقل الواحات - حيث قضى 8 سنوات من 1954 إلى 1962 - كتب رواية «المتمردون»، ومسرحية «الخبر» ورواية «القطار»، وعشرات القصص القصيرة التى نشر بعضها فى مجموعتى «أيام القلق» و«الولد الذى جعلنا لا ندفع»، وهناك أيضًا أصدر مجلة ساخرة - من نسخة واحدة - اسمها «حميدة» سخر فيها من كل خصومه.. الفاشية.. الاستغلال.. القهر.. الاستعمار الجديد.. التستر وراء الدين.. والمأمور.. والجلاد.. مع أنه كان يعرف أن السجان أقل حرية - فى معظم الأحيان - من السجين نفسه.
وحدث أن جاء مأمور جديد، صارم إلى المعتقل، لم يتردد فى البطش والقسوة.. ولكن.. بعد فترة ابتلع ولداه أقراصًا كانت دواء مهدئًا له، فانهار الرجل، وطلب معونة الأطباء المعتقلين، فراح صلاح حافظ وشريف حتاتة لإسعاف الطفلين.. وبينما كانا يجريان الإسعاف، كان المأمور يبكى ويتوسل إلى السماء قائلًا:
- يا رب.. طب انقذ ولو واحد!
فقال له صلاح حافظ:
- واحد ليه؟ ده ربنا كبير!
وتعجب المأمور من الرد، وقال:
- أنتم بتعرفوا ربنا؟
- نعم.. نعرفه أكثر منكم.. نعرفه أكثر منكم.. نعرفه بالتصرفات لا بالكلام.
وعندما عاد صلاح حافظ إلى الحرية، ظل المأمور - الذى أصبح لينًا - صديقًا.. واسترد صلاح حافظ - مع الحرية - الصحافة.. ولم يعدل بينها وبين الأدب.. فهجر الأدب، واندفع للصحافة التى طالبته - مثل أى امرأة شهوانية - أن يعوضها عن كل ما فاتها - ولكنه انتزع من أحضانها عندما منعه أنور السادات من الكتابة، قبل حرب أكتوبر.. فراح لمدة 3 سنوات كاملة يزرع حديقة بيته بالخضروات المنزلية.. وكتب مجموعة جديدة من القصص القصيرة.. وأعد سيناريو وحوار المسلسل التليفزيونى «زينب والعرش» عن قصة صديقه فتحى غانم، ومرة أخرى أقسم ألا يستسلم لنزوات الصحافة.. ومرة أخرى حنث بوعده.
ولأنه يهوى الكتابة.. فإنه يمارسها بدون طقوس ثابتة.. فهو يكتب فقط عندما يريد أن يكتب.. فى الصباح.. فى المساء.. بالبيجامة.. بالبدلة.. المهم أن يكتب.. ولعل السبب هو أنه تعود على العمل فى «مطابخ» الصحف.. والصحف لا ترحم الكاتب ولا تمنحه ترف شروط الكتابة الخاصة.. فحكم المطبعة أشد من حكم الإعدام.
والمؤكد.. أن مفتاح شخصيته هو أنه مارس الكتابة والسياسة والحياة كفنان.. والفنان يفعل دائمًا ما يريد وما يشعر به. ولا يستسلم لعلم الحساب، والمجاملات، والعلاقات العامة.. إنه يستمتع بما يقوم به، بغض النظر عن الربح والخسارة.. والفنان الذى يستمتع بعمله سيمتع من يتلقونه.. ففاقد الشىء لا يعطيه.. وفاقد الاستمتاع لا يمنحه.
والاستمتاع عند صلاح حافظ لا يتوقف عند إخلاصه لأساليب الكتابة الجميلة.. الرشيقة.. وإنما كان يمتد إلى كل شىء فى حياته. . الطعام.. الطرب.. الحديث.. القهوة.. السيجارة.. الثياب.. النكتة.. الموسيقى.. الفرجة على المدن.. وصناعة المجلات والصحف.
وأول ما قاله لى - قبل أكثر من 20 سنة - «عش حياتك كما تشعر».
- والكتابة يا أستاذ صلاح؟
- قل ما تؤمن به وعبر عما فى داخلك، تشارك دون أن تدرى فى صنع الحياة.
فى ذلك الوقت أحسست أنه مثلى، طالب، قفز من سور جامعته.. وهرب من المحاضرات ليعبر عن نفسه بالورقة والقلم وحروف الطباعة.. كان يرتدى ثيابًا فاقعة الألوان كالتى أرتديها.. ويتصرف مع من حوله بحرية لا أجرؤ عليها.. لم يكن هو الكاتب المتغطرس الذى نرسمه فى خيالنا ونخشى حتى صورته.. وإنما كان كيانًا من البساطة يتحرك على قدميه.. وببساطته عدوى تنتقل إلى كل من يدخل فى محيطه ودائرة جاذبيته.. ولكنها.. بساطة تتحول إلى صرامة عندما تختفى المساحة بين الحق والظلم.. بين الأبيض والأسود.. بين العدل والقهر.
وحتى النفس الأخير لم يفقد ذلك.
كان واعيًا بحالته رغم عجزه عن التعبير.. كان متفائلًا عنيدًا مصرًا على الحياة رغم جرأة السرطان وضرباته الشرسة.. كانت عينه على من حوله من البسطاء رغم ضراوة المعركة التى خاضها مع المرض.. وعندما أحس بأنه لن يعود إلى الكتابة.. وبأنه سيعتمد على غيره.. وبأنه لن يكون قادرًا على العطاء.. وبأنه لن يقرر مصيره.. خلع أسلحته.. ورفع عينيه إلى السماء.. فاستجابت لدعائه الصامت بالنظرات.. وبينما كان الصائمون يفطرون أول أيام شهر رمضان كانت أسرته تواريه الثرى فى مسقط رأسه.. فى الفيوم.. ونطق ملايين من البشر الشهادتين - فى هذه اللحظة - وهم يرشفون جرعة ماء وحبة تمر.







