
أسامة سلامة
أعوام نجيب محفوظ
«فى عام 1963 خصصت مجلة الكاتب عددًا عن نجيب محفوظ تضمن حوارًا أجراه معه فؤاد دوارة، والذى سأله عن بدايته فى الكتابة، أجاب محفوظ: «حين قرأت الأيام لطه حسين ألفت كراسة أو كتابًا، أسميتها (الأعوام) رويت فيها قصة حياتى على طريقة طه حسين».. هذه المخطوطة تحدث عنها نجيب محفوظ مرات عديدة، وحاول بعض الصحفيين الحصول عليها فى سنوات محفوظ الأخيرة، ولكنه أراد أن يغلق الباب وقال حرقتها، والحقيقة أنه لم يحرق كراسته، ولكن كلمته دفعت محبى محفوظ إلى عدم البحث عنها، وربما اليأس من الوصول إليها، واحدٌ فقط اجتهد وحالفه الحظ وعثر عليها، محمد شعير الكاتب الصحفى والناقد الأدبى والباحث المتخصص فى عالم نجيب محفوظ، ولكن كيف اختفت هذه الكراسة؟
فى كتابه البديع «أعوام نجيب محفوظ البدايات والنهايات»، والذى صدر مؤخرًا عن دار الشروق، يقول «شعير»: إن بعض كتابات ومخطوطات محفوظ تعرضت للسرقة من أحد أقاربه، وهى الواقعة التى حكاها محفوظ لرجاء النقاش: «عندما ماتت والدتى حدثت فى بيتنا سرقة أهلية، حيث جاء أولاد أختى وأخذوا كثيرًا من الأوراق والأشياء الشخصية ومن بينها صور خاصة بى»، ويكشف شعير: «ظلت المسروقات سنين فى مصر ولكن بعد حصول محفوظ على نوبل خرج بعضها إلى إحدى الدول العربية، وبعد موته خرج جزء آخر إلى نيويورك عبر فنانة تشكيلية أمريكية أقامت فى القاهرة لسنوات، وكانت تجمع أوراق ومخطوطات عدد كبير من الأدباء المصريين لصالح إحدى مكتبات الكتب النادرة فى نيويورك، وعرضت المكتبة بعض ما استطاعت الحصول عليه للبيع فى أحد المزادات الشهيرة بلندن عام 2011، ولكن ورثة محفوظ استطاعوا إيقاف المزاد، وهكذا تنقلت الأوراق بين ثلاث قارات قبل أن تستقر فى النهاية عند أحد هواة جمع المخطوطات فى دولة عربية».
ولكن كيف وصلت المخطوطة إلى «شعير»، يقول: «تتبعت مسار الأوراق ولم تكن هناك صعوبة فى الاتصال بكافة الأطراف التى ارتبطت بمزاد لندن من أجل الحصول على نسخة من رسالة الماجستير التى كان محفوظ قد بدأ فيها بعد تخرجه من كلية الآداب قسم فلسفة ولم يستكملها، وبعد فترة طويلة من الاتصالات والرسائل الإلكترونية وجدت ذات صباح على بريدى الإلكترونى كنزًا، ما يقرب من 500 صفحة تخص محفوظ لم يكن بينها رسالة الماجستير غير المكتملة التى كنت أبحث عنها، وكان الكنز يحتوى على مخطوطات أعمال حديثة ومعروفة، أما المفاجأة الكبرى مخطوط مذكرات طفولته (الأعوام) التى أشار إليها كثيرًا».
اكتشاف فريد ومهم للغاية، وكما كتب شعير: «نحن أمام نص استثنائى لمحفوظ سيرة ذاتية خالصة تطل منها الذات بلا أقنعة ولا حيل فنية لإخفائها».. وهو أيضًا يجيب على أسئلة مثل كيف كانت طفولة محفوظ؟ وكيف انعكست على أعماله الأدبية؟ وهل استمد بعضًا من حكايات أعوامه فى إبداعاته؟
النص الذى نشره «شعير» لا يزيد على 28 صفحة من الكتاب، ويحمل ملامح طفولة محفوظ، ويحكى فيه عن أمه وإخوته والحكايات التى كانت تحكيها له أمه وأخته الكبرى وعذابات أخته الثانية مع زوجها والتى انتهت بطلاقها، ولعبه فى الشارع وذهابه إلى الكتاب ثم المدرسة والمظاهرات التى كان يفرح لأنها تعطل الدراسة، وجنود الإنجليز الذين احتلوا مراكز البوليس ليستطيعوا كبح جماح المتظاهرين، وعسكروا أمام المنزل وكان يراهم من نافذة البيت وهم يذهبون ويجيئون ويغنون ويلهون ويتمرنون، والغريب أنه آنس بالإنجليز وعطف عليهم لجمال وجوههم حتى أنه كثيرًا ما لعب أمام الدار دون أن يخشاهم بل اقترب من بعضهم حتى كلموه وصاروا يقدمون له أنواع الفطائر والحلوى.
ويستمر محفوظ فى سرد ما كان يسمعه من أبيه عن سعد زغلول، ورحلاته مع أمه فى مصر الجديدة والجيزة والهرم، وخوفه من العفاريت، وتنتهى المذكرات بانتقال الأسرة إلى منزل جديد فى العباسية.. ولكن شعير يتتبع شخصيات محفوظ الروائية ومن هى الأقرب إليه؟ ومن يمثله؟ ومن منهم أعطاه جزءًا من أعوامه؟
يقول شعير: «اعترف محفوظ مرات عديدة بأنه كمال عبدالجواد أحد أبطال الثلاثية، فالتقاطعات بينهما عديدة والاختلافات أيضًا وكأن محفوظ عبر هذه الاختلافات يريد التأكيد على نفى ذاته من الكتابة وتمويهها»، ونلاحظ فى بين القصرين كيف تابع كمال الصغير من شرفة منزله ثورة 1919، والنقاشات فى الأسرة حولها واحتلال عساكر الإنجليز لقسم الجمالية واقترابه منهم، مثلما كتب فى الأعوام عن نفسه وهو صغير.. ويرى شعير «أن العائلة وأفرادها من المصادر التى نحت منها محفوظ أبطال رواياته، إذ لا يسرد حيوات هذه الشخصيات كما كانوا فى الواقع وإنما كما تراءوا له وشعر بهم».
وتلمس ذلك فى «حديث الصباح والمساء»، و«خان الخليلى» حيث تحول شكرى ابن شقيقته إلى بطل الرواية، أما فهمى عبدالجواد فى «الثلاثية» فهو أقرب إلى عم له يسمى فهمى أيضًا، واستشهد برصاص الإنجليز فى الواقع كما حدث فى الرواية، وفى «المرايا» يعود محفوظ إلى ذكر عمه الشهيد مرة أخرى وفى هذه المرة كان جارًا للراوى واختار له اسم أنور الحلوانى، وفى «حديث الصباح والمساء» يعود لذكره مرة ثالثة باسم أمير سرور عزيز، ما سبق على سبيل المثال فهناك شخصيات عديدة ووقائع مر بها محفوظ فى أعوامه الأولى ظهرت فى رواياته.
«شعير» لم يكتف بعثوره على النص الفريد وتحليله وقراءته ممزوجًا بشخصيات محفوظ الروائية، ولكنه أراد استكمال سيرة محفوظ من خلال قراءته لـ«أصداء السيرة الذاتية» وهى نص محفوظ المتأخر، وهى كتابة أخرى عن الذات بعد استكمال التجربة، يقول شعير: «مثلما كان صبى الأعوام حاملًا لصوت محفوظ طفلًا وكمال عبد الجواد ممثلًا لأزمته الوجودية فى مرحلة الصبا والشباب فإن عبد ربه التائه فى الأصداء يحمل صوت محفوظ فى مرحلته المتأخرة».
كتاب شعير مهم وضرورى لمن يريد دراسة أعمال محفوظ وحياته وأفكاره، واكتشافه الأدبى يضع أمام الباحثين كنزًا قيّمًا عن عالم نجيب محفوظ.