
أسامة سلامة
حكاية مصرية
من المؤكد أن إبراهيم وآية وهبة الثلاثة المتفوقين فى الثانوية العامة، رغم ظروفهم الاجتماعية الصعبة لم يقرأوا كتاب «حكاية مصرية»، والذى يحكى فيه الدكتور جودة عبدالخالق وزوجته الدكتورة كريمة كريم قصة حياتهما وكفاحهما المشترك من أجل العلم والوصول الى حياة أفضل. صحيح أن الدكتورة كريمة ابنة الطبقة الأرستقراطية ولكن حين قررت الزواج من الدكتور جودة ابن الفقراء- والذى كان وقتها معيدًا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- كانت تعرف أن أمامها طريقًا طويلًا من الصبر والاستغناء عن كل وسائل الرفاهية التى تربت عليها فى بيت أهلها؛ حيث كان لدى الأسرة السائق والطباخ وعدد من الشغالين، حتى إنها هى وإخوتها لم يكونوا يحتاجون أن يأتوا لأنفسهم بكوب ماء؛ بل إن الشيكولاتة التى كانت تحبها وتتناولها يوميًا كانت تصرف عليها ما يوازى راتب شهر للمعيدين فى الجامعة حينها، ولكنها وبكامل إرادتها اختارت رجلًا قيمته فى المبادئ التى يحملها، والأفكار التى يؤمن بها، والحب الذى يحمله لها، والعلم الذى يتفوق فيه، وليس فى المال والثروة والجاه، الدكتور جودة على العكس هو صاحب قصة كفاح بدأها من قرية ميت العز بريف الدقهلية؛ حيث عمل بالزراعة وتربية الماشية ورعى الأغنام، بعد أن جار الزمان على أسرته وفقدت أملاكها، ثم هاجر الأب الى القاهرة ليعمل لحامًا للمعادن بالأكسجين فى شركة الكهرباء فانتقلت معه الأسرة، وبحث الابن عن وسيلة للالتحاق بالتعليم المدنى وكان قد بلغ عامه الثانى عشر ولايزال خارج إطار التعليم المنظم، كفاح كبير قام به فى مراحل التعليم المختلفة وتغلّب على عقبات كثيرة كانت أي واحدة منها كفيلة بتركه التعليم والبحث عن عمل، ولكنه لم يستسلم وبإصرار حصل على الثانوية العامة وكان الثانى على الجمهورية فى القسم الأدبى، وهو ما فتح له باب الالتحاق بالكلية الوليدة وقتها اقتصاد وعلوم سياسية والحصول على مكافأة التفوق التى ساعدته على استكمال تعليمه، واستمر على تفوقه حتى تم تعيينه معيدًا بالكلية والتى التقى فيها برفيقة عمره، وتُوِّجت قصة حبهما بالزواج، أما الكفاح المشترك فكان من أجل الحصول على الماجستير والدكتوراه، فقد حصل جودة على منحة من إحدى جامعات كندا ولحقت به كريمة، ولكنّ أستاذًا صهيونيًا تآمر ضدهما وأضاع عليهما المنحة، وقررا عدم الاستسلام، ومن أجل توفير نفقات الدراسة اشتغلا فى مهن عديدة، هو بائع كتب وموسوعات يلف على المنازل لعله يظفر بمشترٍ. كما عمل نجارًا ومكيانيكى سيارات و«بستانى» فى حدائق الجامعة ومنظمًا للمرور أمام المدارس، وعملت بنت الأكابر بائعة مقشات تحملها وتمشى سيرًا على الأقدام مسافات كبيرة وتطرق الأبواب عارضة بضاعتها من أجل عمولة 50 سنتا، وعملت أيضًا موزعة إعلانات لزوار المعارض ومساعدة طباخ فى أحد المستشفيات، استحملا الجوع والفقر ولكنهما انتصرا وحصلا على الماجستير وبعدها الدكتوراه وعادا إلى مصر رغم إغراءات البقاء فى كندا والتدريس فى جامعاتها والحصول على جنسيتها، وأصبح كل منهما علمًا فى الاقتصاد ومرجعًا وخبيرًا، وهو ما أهّل الدكتور جودة لتولى منصب وزير التموين بعد ثورة يناير المجيدة، تذكرت هذا الكتاب الذى صدر عن دار الشروق منذ عامين عندما قرأت ما كتب عن المتفوقين الثلاثة فى الثانوية العامة، إبراهيم المشهور إعلاميًا ببائع الفريسكا وآية المعروفة ببائعة الأحذية وهبة التى يطلق عليها الإعلاميون ابنة حارس العقار، ووراء كل منهم قصة كفاح، وبسبب تفوقهم فى الثانوية العامة تم الاحتفاء بهم وحصلوا على منح للدراسة فى كلية الطب جامعة الإسكندرية، ولكن رغم تشابه ظروفهم مع الدكتور جودة هناك فارق، فى الستينيات كان مجرد التفوق فى الثانوية العامة كفيلًا بفتح أبواب كليات القمة والحصول على مكافأة أتاحت للدكتور جودة استكمال التعليم دون إرهاق أسرته الفقيرة، أما إبراهيم وآية وهبة فقد احتاجوا لمنح تساعدهم على الالتحاق بكلية الطب. صحيح أن التعليم لايزال يطلق عليه «مجانى» فى الجامعات الحكومية ولكن يبدو أن المصاريف ارتفعت لدرجة احتياج الطلاب الفقراء إلى منح لمواصلة كفاحهم، وما أتمناه أن يجد الثلاثة وأمثالهم من المكافحين الفرصة التى أُتيحت للدكتور جودة فى تعليم حقيقى وعادل حتى يتمكنوا من مواصلة التفوق ويستفيد منهم الوطن كما استفاد من علم الدكتور جودة والدكتورة كريمة، ويصبح كل منهم حكاية مصرية.