
أسامة سلامة
مَن يذهب مع الريح.. حرية الإبداع أمْ المنع ؟
وصاية سياسية أمْ دعوة أخلاقية؟ سؤال طرحه ما حدث مع فيلم «ذهب مع الريح»، الذى أصابته لعنة جورج فلويد.. والحكاية أن التعاطف مع «فلويد» ضحية العنصرية ووحشية الشرطة الأمريكية، امتد إلى السينما؛ حيث طالب محتجون “hbo max” على وسائل التواصل الاجتماعى، منصة بمنع عرض الفيلم الذى يُعد أحد أشهَر الأفلام الكلاسيكية فى السينما الأمريكية وحذفه من خدمة البث لاتهامه بالعنصرية، واستجابت المنصة لهم.
وقالت الشركة إن الفيلم الذى أنتج عام 1939م كان «عملًا مناسبًا لعصره» وصور «المشاكل العنصرية والعرقية التى كانت خاطئة آنذاك ولاتزال خاطئة فى عصرنا، ولكن بعد أيام أعادت المنصة الفيلم للعرض مرّة أخرى، وقالت سيتم عرضه، ولكن يسبقه مناقشة تدين العنصرية وتكشف السياق التاريخى الذى أنتج فيه».
وأضافت: «الفيلم سيعرض كما أنتج فى الأصل؛ لأن منع ذلك يعنى إنكار التاريخ».
ويحكى الفيلم المأخوذ من رواية بالاسم نفسه للكاتبة مارجريت ميتشل قصة حب تدور خلال الحرب الأهلية الأمريكية، ويتضمن شخصيات من العبيد يبدون راضين عن حياتهم ويحافظون على ولائهم لأسيادهم بعد تحريرهم. والمثير؛ أن الممثلة السوداء هاتى ماكدانييل حصلت على جائزة أوسكار عن دورها فى الفيلم كخادمة منزلية، وذلك ضمن 10 جوائز أوسكار حصدها الفيلم الشهير. مَنْعُ الفيلم وعودته للظهور يثير العديد من الأسئلة ومن بينها السؤال الذى طرحناه فى أول المقال، بجانب؛ هل حلت الشركة المشكلة بالتوضيح الذى يسبق الفيلم أمْ زادت الأمور تعقيدًا؟ وهل استجابتها للضغوط كان صحيحًا أمْ خطأ؟ وهل سيحكم نشطاء السوشيال ميديا الفن ويحاكمونه بمعايير أخلاقية تمنع وتمنح حسب رؤيتهم؟ وهل تخضع الأعمال الفنية المقبلة لرقابة الجمهور؟
وكيف نتعامل مع الأعمال الفنية، وبأى معايير يتم تقييمها؟ لا شك أن العنصرية شىء بغيض، والجُرم الذى ارتكبته الشرطة الأمريكية كبير والاحتجاجات عليه ضرورة إنسانية وأخلاقية، والتعاطف مع الضحية كان عالميّا، وفى مجالات كثيرة، مثلًا فى ملاعب كرة القدم تضامن لاعبو الدورى الألمانى والإنجليزى والإسبانى ورفعوا «تى - شيرتات» عليها صورة «فلويد»، وركع اللاعبون قبل بداية المباريات فى مشهد يحاكى ما حدث معه، وغرّد كثيرٌ من اللاعبين على مواقع التواصل الاجتماعى متعاطفين مع الضحية ومُدينين القاتل والعنف والعنصرية، كما طالب البعض فى العديد من الدول بإزالة تماثيل لملوك وزعماء ورؤساء من الميادين؛ لأنه كان لهم دَورٌ فى اضطهاد الأفارقة وتكريس العبودية.. هذا التضامن العالمى رسالة واضحة، الإنسانية فى كل مكان ضد العنصرية، ولكن هل مَنْعُ أعمال فنية أحبها المشاهدون ولاتزال تعيش فى وجدانهم رُغم مرور سنوات طويلة على إنتاجها وعرضها يجعل الذين تعلقوا بها يعيدون النظر فيها ويرفضون مشاهدتها؟، وماذا لو طبّقنا قاعدة مَنْع الأفلام التى بها عنصرية على أعمالنا الفنية؟ علمًا بأن كثيرًا منها كان بها شىء من العنصرية من خلال السخرية من أصحاب البشرة السمراء، وذوى الاحتياجات الخاصة، وممن لديهم سمات جسمانية غير طبيعية مثل السمنة المفرطة أو قصر القامة، وكذلك المَرضى النفسيين، كما تكرّس بعضها اضطهاد المرأة وأنها أقل من الرجل، أو تحمل أفكارًا رجعية مثل رفض خروجها للعمل، هل نمنع إذاعة هذه الأفلام أمْ يسبق عرضها نقاش أخلاقى؟
فى اعتقادى أن الأعمال الفنية القديمة، التى جاءت فى سياق تاريخى وأنتجت فى زمن مختلف لا يمكن محاكمتها بقواعد زماننا ووقتنا الحالى، أمّا إذا كان العمل فجّا ومسيئًا للقيم الإنسانية فيمكن الدعوة لمقاطعته بدلًا من مَنْع عرضه، الذى قد يزيد من الطلب على مشاهدته كما حدث مع فيلم «ذهب مع الريح»، ويترك الأمر لضمير المتفرج، وعمومًا؛ فإن ما حدث هو دعوة للمهتمين بالسينما والفن والحريات لمناقشة هذه القضية المهمة. ولعل السؤال الأخير: مَنْ سيذهب مع الريح؛ دعوات المنع أمْ حرية الإبداع؟.