الجمعة 16 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
مع تحيات إبليس

مع تحيات إبليس

من المؤكد أنك قابلتَ مثلَ هذه الشخصية من قبل، وأيّا كان مجال عملك فلا بُدّ أنك تعاملتَ معه، الأشخاص المتحوّلون من جانب إلى آخر ومن شاطئ إلى البَر الثانى ومن أقصَى اليمين إلى اليسار أو العكس تجدهم فى كل مكان يحركهم غالبًا الطموحُ والرغبة فى الشهرة والمال والسُّلطة، وقليلٌ مَن يُغَير أفكارَه عن اقتناع حقيقى.. هذه التحولات التى رصدها الدكتور سامح فوزى، الباحث والكاتب والروائى، فى روايته  الثانية (مع تحيات إبليس) الصادرة مؤخرًا عن دار المعارف، «سامح» مُغرم بدراسة التحولات إلى تحدث للإنسان، يرصدها ويحللها نفسيّا وإنسانيّا واجتماعيّا وسياسيّا، فى روايته الأولى (حدث فى برايتون) كان التحول إيجابيّا، واستطاعت بطلة الرواية أن تتغير من شخصية سلبية وانطوائية ومذعورة إلى إنسانة إيجابية تتجاوز كل العُقد التى تربت عليها فى قريتها الريفية، وبسبب تجربتها فى برايتون، التى سافرت إليها للدراسة، وجدت نفسَها التى كانت تبحث عنها، ولكن فى رواية (حوار مع إبليس) كان التحوُّل ليس من أجل البحث عن الذات ولكنْ سعيّا إلى الشهرة والمال، وهو طريق لا بُدّ أن يمر من خلال إبليس، بطل الرواية إيهاب المنصورى صحفى طموح عاد من إنجلترا مُحملًا بآمال وتطلعات كبيرة، وعندما لم يجد ضالته فى جريدته اتجه إلى الجانب الآخر، وكان المرفأ له هو العمل مع التيارات الإسلامية المتناقضة فى خطابها المعلن مع أفكاره وممارساته، فهو مُلحد ويشرب الخمر وله علاقات نسائية متعددة، عَرف أن أحلامه لن تتحقق إلّا إذا كان عضوًا فى شلة تساعده وتوجد له فرصة عمل وتدافع عنه عند الضرورة.. قارن بين الشلل المختلفة، هو محسوب على الشيوعيين لكنه ليس منهم، مُلحد ولكن لا يوجد تنظيم لهم، ليس مع الحكومة ولا أجهزتها لأنه ليس ابنًا لها وهى لا تميل للتبنى إلا فى أضيق الحدود وتفضل أن يكون العاملون معها من صلبها، هو أيضًا ليس عضوًا فى حزب سياسى ولا تابعًا لرجُل أعمال، أدرَك «إيهاب» أن أزمته الحقيقية فى عدم انتمائه لأى تنظيم، ووجَد فى التيار الإسلامى الفرصة، فهو يبحث عن مَن يستقوى بهم وهم أيضًا فى حاجة إليه، ويمكنه أن يلعب دور رأس الحربة فى معاركهم المستمرة ضد العلمانيين لأنه يعرف أفكارَهم ويجيد استخدام تعبيراتهم، استخدم الإسلاميين واستخدموه، وكلما خطا خطوة تبعثرت مكونات شخصيته، لم يعد هو،عندما كان شابّا حديث التخرُّج عاش الحياة بشروطه والآن يعيش بشروط تنظيم يسير فى ركابه، التناقض يعصره، ما تهواه نفسُه يفعله فى السّر، وما لا يرغبه يفعله فى العلن، لا يصلى ولا يصوم إلا مضطرّا أمام الناس، أمّا إذا كان منفردًا فيرتد إلى ذاته القديمة، تزوّج من واحدة منتمية للتيار نفسه رشحوها له، ولكنه يأوى إلى إحدى الشقق التى صار يمتلكها كلما أراد أن يحتسى كأس خمر أو يكون مع إحدى زوجاته التى اقترن بهن عُرفيّا، يتذكر دائمًا «بشرى» وهو مسيحى أرسل رسالة له قبل أن ينخرط مع تياره الجديد حكى له فيها قصة حياته، وكان وقتها يريد أن يصنع صحافة مختلفة مثل التى رآها فى إنجلترا خلال المنحة التى حصل عليها من مركز الثقافة البريطانى لدراسة الماجستير، وأعجبه ما تفعله صحيفة ديلى ميل التى تنشر حكايات الناس بلغة بسيطة غير معقدة، وأراد أن يحاكى التجربة فى مصر بعد عودته، وأن ينشئ صفحة يلتقى فيها مع القراء فى رواياتهم الاجتماعية عن أنفسهم، حكايات تسلط الضوء على التغيير الاجتماعى والتقلبات التى تحدث فى المجتمع، ولكن كلامه لم يصادف هوًى عند رئيس التحرير التقليدى، وحاول أن يفاجئ رئيس التحرير بنموذج من الصفحة لعله يقبل فأعلن على صفحته فى الفيس بوك عن الفكرة وطالب مَن يتفاعل معه بإرسال خطابات له، وهو ما فعله «بشرى» الذى كان يماثله فى الانغماس فى الشهوات وحكى كيف ترك الكنيسة وتجاهل زوجته المتدينة، حتى تغير بسبب انفعاله بالبابا كيرلس الذى ذهب إلى مغارته صدفة فتغيرت حياته وعاد إلى أحضان الكنيسة، وقتها رد عليه إيهاب المنصورى بأنه لا يؤمن بالغيبيات، ودار بينهما نقاش على الماسنجر حول الإيمان بالعقل والقلب.. «بشرى» واحد من الشخصيات المتغيرة التى ينفعل بها كاتب الرواية ويغوص فى أعماقها محللًا نفسيتها ودوافع التغيير، لم يستطع إيهاب المنصورى تنفيذ رغبته الصحفية ووجد ضالته فى الإسلاميين الذين رغبوا فى استخدام مهارته فى الرد على رسائل القراء فى موقع تابع لهم، يعطونه الرد الذى يتفق مع أفكارهم ويصيغه بطريقة عصرية.. سنوات مرّت عليه وهو ممزق بين ذاتين، وفى إحدى زياراته إلى بلدته المنصورة التقى بالحاج أمين كساب بائع الكتب القديمة الذى اعتاد أن يذهب إليه فى صباه، تحدّث معه بصراحة عن ما يعيشه من تناقضات، وقال له: أشعر أن نفسى ممزقة بين ماضٍ لم يهجرنى وحاضر لم يشملنى، ورد الرجل: أنت اخترت أن تعيش فى سجن من صُنع نفسك، تحيا فى زنزانة يغمرك فيها ماضٍ مبتذل وتدّعى خارجها أنك ملتزم، فلا أنت هذا ولا ذاك. قال له «المنصورى»: أنا نصف ملحد ونصف مؤمن. ورد الرجل الطيب: أنت لا هذا ولا ذاك أنت انتهازى، عُد إلى نفسك وعش ظاهر الحياة مثل باطنها، كن شخصًا واحدًا وليس شخصين.. انتهى اللقاء ولم يعد إلى لقائه مرّة أخرى رُغْمَ وعده له، وعاد يمارس حياته بازدواجيتها راضيًا بأن يكون مديكور ليس ملحدًا ولا متدينًا، هو فقط فاسد وكفى.