الجمعة 5 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

فوضى العلاج السيكولوجى فى مستشفيات « الغلابة »!

فى الأونة الأخيرة ظهرت دعوات لحث من تراوده الاضطرابات أو الأفكار الانتحارية للذهاب إلى أقسام العلاج النفسى بالمستشفيات الحكومية والتى تمكنه من العلاج بأسعار رمزية ما بين جنيه واحد حتى خمسة جنيهات، نظريًا يعد ذلك حلًا جيدًا لنشر ثقافة العلاج النفسى بين ذوى الدخل المنخفض ومواجهة جشع العيادات الخاصة التى يصل أسعار الجلسات فيها إلى مئات الجنيهات، لكن الأمر يختلف كثيرًا على أرض الواقع.



«روزاليوسف» خاضت مغامرة للكشف عن واقع العلاج النفسى بالمستشفيات الحكومية، بدأت من الاتصال بالخط الساخن للأمانة العامة للصحة النفسية والإدمان، وانتهت بجولة فى عدد من المستشفيات.

 

معاناة «الخط الساخن»

رغم ما تروج له وزارة الصحة ممثلة بالأمانة العامة للصحة النفسية والإدمان، عن وجود خط ساخن للأمانة العامة، يستقبل المكالمات على مدار الساعة لتقديم الاستشارات النفسية، ونشر الأرقام فى جميع الوسائل الإعلامية وجدنا صعوبة كبيرة فى الرد.

بداية اتصلنا بالرقم المعلن وهو 08008880700، فكان الرد المسجل «الرقم الذى طلبته غير صحيح.. يرجى التأكد من الرقم الصحيح وإعادة المحاولة»، ظلت المحاولة مستمرة، لنتصل بالرقم 0220816831 على مدار أسبوعين فى أوقات مختلفة وكانت النتيجة «لم يتم الرد».

إلى أن تم الرد أخيرًا بعد محاولات كثيرة فى أوقات مختلفة، وبدأ أخصائى اجتماعى يدعى «أحمد السيد» حديثه بطلب البيانات، وأبادره بأننى حاولت الانتحار أكثر من مرة، ليسألنى هل ذهبت لطبيب فى السابق؟ فكان ردى نعم ولكنى لم أستكمل العلاج.

 حاول الأخصائى النفسى تقديم نصائح طبية عامة بأنه لا يصح وقف تناول العلاج من نفسى لأنه قد يسبب انتكاسة، فسحبه يكون تدريجيًا وليس بشكل مفاجئ، من دون الحديث عن أسباب تفكيرى بالانتحار، واقترح متابعة حالتى مع طبيب خاص أو الاختيار بين الذهاب إلى العيادات الخارجية لمستشفيات حلوان أو العباسية، لأنها المستشفيات الوحيدة التى تقدم خدمة العلاج النفسى والتابعة لوزارة الصحة فى محيط القاهرة والجيزة.

واستطرد: «تدفعى جنيه وتقطعى تذكرة ويتعملك كارت متابعة، والدكتور يكتبلك على علاج تصرفيه مجانًا، التكلفة كلها جنيه، الدكتور هيسمعك ولو عايزة تتكلمى كتير يكون مع الأخصائى النفسى» عبرت له عن تخوفى من إجراء الأطباء جلسات الكهرباء، ليطمئننى بأنها فقط تكون للحالات المحجوزة بالمستشفى وأنها لا تجرى سوى للأشخاص الخطرين على أنفسهم والغير.

 وعن التأخير فى الرد على الخط الساخن أوضح الأخصائى النفسى أن هناك ضغطًا كبيرًا من الحالات على الخط الساخن، والتى يبدأون تلقيها من التاسعة صباحًا حتى الثالثة عصرًا، مشيرًا إلى أن عدد الحالات زاد بعد نشر الأرقام على القنوات التليفزيونية، وأن أغلبها ما بين سن 18 لـ35 ومن المتزوجين، موضحًا أنه فى حال كانت حالات خطرة يرشدها إلى الذهاب لعيادات الطوارئ فى الحال، وإذا كانت تفكر بالانتحار بنفس الوقت، يحاول أن يتواصل مع أى فرد مقيم معها ليمنعها من الإقدام على تلك الخطوة.

ويتمنى الأخصائى النفسى إنشاء خدمة الإسعافات النفسية، لتقديم الدعم النفسى للشخص فى منزله، لافتًا لعدم وجود الإمكانيات لتوفير تلك الخدمات فى الوقت الحالى خاصة وأن المرض النفسى جديد على الإدارة فى مصر ولم تخصص له الميزانية الكافية.

الجلسات الكهربائية فى مستشفى «سيد جلال»

بعد أيام توجهت فى العاشرة صباحًا إلى مستشفى سيد جلال الجامعى التابعة لجامعة الأزهر، فى منطقة باب الشعرية، ذلك المستشفى الضخم متعدد المبانى، يقصده مئات المواطنين يوميًا للعلاج، خمسة جنيهات هى ثمن تذكرة العيادة النفسية، لأتوجه بعد ذلك إلى الدور الرابع والمخصص لعيادات العلاج النفسى، ليخبرنى الموظف المسئول فى العيادة أن علىّ الانتظار نصف ساعة حتى يحضر الطبيب.

جلست أنتظر الطبيب لأجد أمًا منهارة من البكاء ترتسم على وجهها ملامح الخوف الشديد ممسكة بيد فتاة لا يتعدى عمرها العشرين عامًا، وقفت بها أمام باب إحدى الغرف تنتظر دورًا ما، لتدخل ابنتها الغرفة وهى تنتظرها بالخارج تناجى الله وتترجاه أن يشفى ابنتها.

جاءت بابنتها من محافظة المنوفية حاملة آمال أن تشفى من حالات التشنج التى تحدث لها يوميًا، لكن عدم اهتمام الأطباء أفقدها تلك الآمال، فعلى مدار فترة حجزها بالمستشفى لم يدخل لها الأطباء سوى مرتين فقط، معتمدين على إعطائها جلسات الكهرباء والأدوية المخدرة، وتقول: «أنا متبهدلة ببنتى مفيش اهتمام.. المستشفى اسم بس، هنا دكاترة بيتعلموا فى الناس وعندى الشارع بقى أهون عليا من القاعدة ببنتى فى المستشفى».

انتظارى للطبيب النفسى تزامن مع دخول ما يقرب من ست حالات من الفتيات إلى غرفة الجلسات الكهربائية، يدخلن إلى الغرفة سائرات على أرجلهن، ويخرجن فى حالة يرثى لها على الـ«ترولى» –سرير نقل المرضى- وتحيطهن نظرات الشفقة من جميع الجالسين.. لكن «هبة» الفتاة العشرينية عندما جاء ميعاد دخولها للغرفة صاحت مثل الأطفال «كهرباء لأ.. أنا مش هدخل» وتجبرها والدتها بعنف على الدخول، لتخرج بعد 10 دقائق مغشيًا عليها كغيرها من الحالات.

كارثة العلاج الخاطئ

«ابنى بيموت بالبطيء» كانت صرخات أم تقف مع أحد الأطباء وتشكو له من تدهور صحة ابنها بعد تناوله الدواء الذى كتبه طبيب بالمستشفى، حتى أصبح ابنها غير قادر على الوقوف يتساقط من فمه لعابه، ليرد الطبيب بلغة حديث باردة: «انتى استنيتى كتير وابنك تعبان مفيش مشكلة لما تستنى الدكتور يخلص محاضرة» ويشير لها جهة أماكن الانتظار ليتركها ويقوم بالدخول إلى غرفة المحاضرات، حيث جميع الأطباء مجتمعين رغم انتظار عدد كبير من المرضى لهم بالخارج.

جميع المتواجدين من المرضى وذويهم حاولوا تهدئة تلك الأم المكلومة.. التى بدأت تشكو لهم من إهمال الأطباء بالمستشفى، وتقول إن ابنها جاء لتلقى العلاج من فرط الحركة منذ شهر، لتدخل فى دوامة مع الأطباء، بدأت بتناوله دواء كتبه له الطبيب ثم استبدله بآخر بعد علمه أن هذا الدواء تم منعه لأنه قد يصيب المريض بالشلل الرعاش.

وأضافت الأم أن حالة ابنها الصحية تدهورت تمامًا «ابنى كان مريض فرط حركة وحاليًا أنا اللى بحركه بايدى لأنه مبيتحركش ومبيستجبش لأى شيء.. يرفض الطعام ولا يدخل الحمام».

خرج الطبيب الذى كتب لها العلاج من المحاضرة، ليقول لها إن هذا الدواء هو الموجود، ويهددها باستدعاء أمن المستشفى بعد أن ارتفع صوتها، قائلًا: «لو مش واثقة فى علاجنا روحى اكشفيله بره».

ظللت أنتظر الطبيب لإجراء الكشف من العاشرة صباحًا حتى الثانية عشرة والنصف ظهرًا، لأنه فى محاضرة، خرج منها ليجرى بعض الكشوفات، قلت له دائمًا ما تراودنى أفكار بالانتحار، ليرد باستنكار «علشان الهوجة اللى حاصلة»، فرديت عليه بأنى تراودنى تلك الأفكار منذ أكثر من عام وحاولت فى مرة سابقة لكنى فشلت، وهنا اتخذ الطبيب الحديث بجدية ولكن فى ظل تشتته بسبب مقاطعة المترددين على المكتب بعضهم من زملائه إذ يشاركونه فى تشخيص الحالة والتهريج أيضًا، والبعض الآخر من المرضى وذويهم.

أسئلة الطبيب تنوعت بين «عندك مشاكل مع ربنا.. اهتماماتك» ولكن كان يهتم بشدة على الأسئلة الخاصة بعدم زواجى والارتباط، فقد يكون ذلك سببًا فى إقدامى على محاولة الانتحار، ويسأل: «متقدملكيش عرسان ولا مرة رفضتى ولا اترفضتى بس انتى شكلك جميلة ليكى فرصة للجواز»، ليحاول إقناعى بأن الزواج قد يكون حلًا لإبعاد تلك الأفكار، ليرد ويواجهنى بسؤال: «ليه عايزة تموتى نفسك؟».. ورديت عليه: «ليه أعيِش؟».

شخّص الطبيب حالتى المزعومة باكتئاب مزمن تستوجب أن يتم احتجازى بالمستشفى وتلقى جلسات العلاج النفسى التى قد تصل إلى العلاج بالكهرباء، فقلت له إن هذا مستحيلًا لأنى جئت بدون علم أسرتى، فكتب لى نوعًا من الدواء باسم «تربتيزول» لأصرفه من صيدلية المستشفى، وطلب الانتظار ساعة أخرى ليبدأ معى أول جلسة للعلاج بعد انتهاء المحاضرة. طبيبة فى قصر العينى: «معنديش وقت أسمع»!

فى يوم آخر توجهت إلى قسم الطب النفسى والإدمان بمستشفى قصر العينى، حتى أتمكن من الحصول على دور للكشف كان على الذهاب باكرًا فى السابعة صباحًا فإذا تأخرت عن ذلك الموعد فمن المستحيل الحصول على العلاج، بمجرد الحجز قام أحد الموظفين بتدوين بياناتى ليستخرج لى «كراسة متابعة».

دخلت إلى الطبيب، ليبادر بالسؤال عن شكواى، لأرد: ببعض أعراض الانفصام التفكير بصورة عشوائية ما يسبب لى الضيق، إضافة إلى سماعى بعض الأصوات الغريبة أثناء جلوسى منفردة، لأجده يدون الروشتة من دون تحدث معى حول تفاصيل حالتى، ووصف لى دواء باسم «دوجماتيل»، بحثت عنه على محرك البحث جوجل لأجده دواءً يستخدم لتهدئة الأعصاب.

ولأن الوضع بالمستشفى يتسم بالعشوائية والزحام الشديد تمكنت من الدخول إلى طبيبة أخرى لأكشف من جديد، كانت تتعامل بشكل سريع فمدة الكشف قد لا تتخطى الخمس دقائق، لأجلس وأعرض ذات الأعراض التي قلتها للطبيب السابق، فكان ردها صادمًا لى، حيث قالت نصًا: «أنا مبفهمش الكلام ده قولى بتحسى بإيه».

وقلت لها إن علاجى الحديث معها وليس تناول الدواء، فأنا أريد من يسمعنى، لترد: «مفيش الكلام ده أنا معنديش وقت أسمع حد»!

 

«الدمرداش».. قوائم انتظار للمقبلين على الانتحار

انتقلت إلى مركز الطب النفسى فى مستشفى الدمرداش، حيث الوضع أكثر انتظامًا، فور الدخول إلى القسم فى التاسعة صباحًا قال موظف الاستقبال إن الحجز قد انتهى لأن الكشف يكون لخمس عشرة حالة فقط.

توجهت بحسب ما قال إلى مكتب الأستاذة نجلاء، لأطلب منها حجز موعد الكشف النفسى لتفاجئنى بعد أخذ البيانات بأن موعد الكشف الخاص بى فى الخامس من يناير القادم.

خرجت من مكتبها ينتابنى شعور الإحباط، متسائلة ماذا لو كان شخصًا يفكر بالفعل فى الانتحار هل سيستطيع أن ينتظر كل هذه المدة، ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للحالات فى الانتظار.. إحداهن كانت تنتظر بابنها الذى يتلقى العلاج بالمستشفى من حالة فرط الحركة، لتتذكر أحد المواقف «ابنى كان يبكى وحينما سألت الطبيب عن السبب.. رد بأسلوب مهين يعنى انتى مش عارفة سلوك ابنك وأنا اللى هعرف».