
نبيل عمر
مقاول الحرب الأمريكى فى غزة
هل هو عالم بلا ضمير فقط أم مجنون أيضًا؟
انعدام الضمير واضح للعيان، أن تترك حكومات العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة شعبًا أعزل فى غزة تفترسه أنياب جيش الإبادة الإسرائيلى بكل شراسة وخسة، ولا يحمونه إلا بكلمات جوفاء مثل «ظروف لم تعد تحتمل، وضع كارثى يفوق التصور، ثم يخلدون إلى النوم دون أحلام مزعجة!
أما الجنون فهو صناعة مقاول حرب، «جيوش» مرتزقة، يستخدمونها تكتيكيًا فى مهام قذرة حول العالم كأنهم أبرياء من دماء الضحايا التى تلطخ أيديهم، فلا تطاردهم اتهامت التجرد من الإنسانية، ولا يخضعون للمساءلة، يفعلونها دون أن يفكروا فى أنهم «يربون» ذئابًا قد تبدو مروضة الآن، لكنها فى المستقبل قد تتوحش وتعمل لحسابها الخاص، وتحول العالم إلى ملعب مفتوح لنشاطها!
وهو ما تنبأت به السينما الأمريكية فى ألأفلام كثيرة، منها (القناص) للمخرج جوناثان ليمكين فى عام 2007، عن عملية اغتيال سياسى يعارض مجموعة مصالح نفطية فى دولة إفريقية، و(لقد سقط الملاك) للمخرج ريك رومان، عن مؤامرة لاغتيال رئيس أمريكى رفض التعاقد مع مقاول حرب!
وإليكم بعض وقائع مثيرة عن هذا الجنون..
لم يكن تعاقد حكومة إسرائيل مع شركة «يو جى سوليوشانز» الأمريكية للعمل فى غزة، إلا تجسيدًا للشراكة الإسرائيلية الأمريكية فى ارتكاب جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، و«يو جى سوليوشانز» شركة مقاولات عسكرية مقرها فى ديفيدسون بولاية كارولينا الشمالية، أسسها جيمسون جوفانى فى سنو 2023، وهو جندى أمريكى متقاعد من القوات الخاصة، تعمل لحساب من يدفع ثمن خدماتها!
ويبدو أن الإدارة الأمريكية هى التى أوحت للإسرائيليين بفكرة الاستعانة بالمقاول العسكرى، بعد أن نشرت صورة من باب الخطأ على حساب البيت الأبيض ثم حذفتها، كشفت أن بعضًا من فرقة دلتا الشهيرة كانوا فى غزة، فقيل إن القوات الإسرائيلية حين ارتكبت مجزرة مخيم النصيرات للاجئين فى 8 يونيو 2024، وسفكت فيها دماء 300 فلسطينى وأصابت ما لا يقل عن ألف آخرين، لم تكن تعمل منفردة، ونالت مساعدات لوجستية مهمة وهى تهاجم بالطيران والمدفعية والبحرية!
وحين أعلنت «جى يو» عن التعاقد مع مئة من المحاربين القدامى للعمل فى غزة، مقابل ألف ومئة دولار للفرد يوميًا، ومقدم عشرة آلاف دولار، قالت فى خطابات التجنيد: إدارة نقاط التفتيش للمركبات والأسلحة، وحراسة مواقع المساعدات الإنسانية.
لكن بعض المرتزقة أطلقوا الرصاص الحى على الفلسطينيين الذين يتكدسون من أجل كسرة خبز أو قرص دواء أو جزء من خيمة تصد عنهم ولو مؤقتًا الموت جوعًا ونزفًا وعريًا وتشريدًا، وقد فضح الجريمة اثنان من هؤلاء المرتزقة وكان يعملان فى مواقع توزيع المساعدات تحت إشراف «مؤسسة غزة الإنسانية»، وهى منظمة أمريكية تأسست فى فبراير 2025، بدعم من الحكومتين الإمريكية والإسرائيلية، وبدأت عملها لتوزيع المساعدات الإنسانية لأهل غزة من مايو الماضى، بعيدًا عن الأمم المتحدة، وقد اعترفا فى فيديو أذاعته وكالة اسوشيتد برس»، بشرط عدم الكشف عن شخصيتهما، أن بعض زملائهم كانوا يستخدمون الذخيرة الحية والقنابل الصوتية ورذاذ الفلفل الأسود ضد الفلسطينيين الذين يحاولون الحصول على الطعام، وقدما الأدلة على صدق أقوالهما.
وعلى الفور أصدرت المنظمة الأمريكية بيانًا قالت فيه إن إدعاءات اسوشيتد برس كاذبة بشكل قاطع، وأن إطلاق النار كان من الجيش الإسرائيلى بعيدًا عنهم!
وبعدها نشرت الشركة بيانًا على موقعها الإلكترونى فى 5 يوليو الماضى أدعت فيه أن موظفيها تعرضوا لهجوم إرهابى أصيب فيه عضوان بإصابات لا تهدد الحياة، وهما فى حالة مستقرة!
لم تكن هذه أول مرة تتورط فيه الولايات المتحدة مع شركة مقاول عسكرى أو بمعنى أدق «مرتزقة».
حدث هذا فى العراق، مع شركة بلاك ووتر، التى ارتكبت مذبحة ميدان النسور فى عام 2007، وقتلت 17 عراقيًا مدنيًا بدم بارد، حين أطلق رجالها النار عشوائيًا على الحشود العراقية، وزعموا أنهم تعرضوا للهجوم، وأثبتت التحقيقات كذبهم!
ومصطلح «مقاول» اخترعته الإدارة الأمريكية بديلًا مهذبًا لكلمة «مرتزقة»، حتى يقبله مواطنوها ويتعاملون معه دون حساسية.. وصاحب فكرة المقاول العسكرى هو دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكى فى إدارة جورج بوش الابن، إذ عقد اجتماعًا مع عدد كبير من القيادات العسكرية، فى العاشر من سبتمبر 2001، قبل الهجمات الانتحارية بالطائرات على مركز التجارة العالمى ومبنى البنتاجون بيوم واحد، وقال لهم: أقوى خصومنا خطرًا عن أمن الولايات المتحدة هو بيروقراطية وزارة الدفاع، نريد نقلة شاملة فى الإدارة ، وإحلال نموذج جديد محل هذه البيروقراطية مؤسس على القطاع الخاص!
ومن هنا عرف «مبدأ رامسفيلد»، أى الاعتماد على مقاولى الحرب فى مهام تعرقلها البيروقراطية.
وكتب رامسفيلد فى صيف 2002 مقالًا بعنوان: «تغيير الجيوش جذريا»، قال فيه: علينا أن نعزز نهجًا مغايرًا ينفذه المقاولون، نهجًا يشجع الناس على أن يبادروا بالفعل الميدانى، وأن يسلكوا مسلك الرأسماليين المغامرين لا البيروقراطيين!
ويبدو أن رامسفيلد قد اقتبس فكرته من ديك تشينى حين كان وزيرا للدفاع فى حرب تحرير الكويت 1991، إذ كان 10 % من القوات الأمريكية فى منطقة العمليات بالخليج من القطاع الخاص، وقبل أن يغادر منصبه، كلف شركة هاليبرتون، التى صار رئيس مجلس إدارتها فيما بعد، بإجراء دراسة عن كيفية خصخصة البيروقراطية العسكرية!
وبالفعل صارت هاليبرتون المقاول العسكرى رقم واحد للحكومة الأمريكية!
وانتقلت الفكرة من الجمهوريين إلى الرئيس الديمقراطى بيل كلينتون، وهو ما يشى بأن الاختلافات بين الحزبين هى خلافات فى تفاصيل وأساليب، وليست فى المفاهيم العامة، فلعب مقاولو الحرب فى عصر كلينتون أدوارا أكبر فى السياسة الخارجية من سلفه جورج بوش الأب، مثلا فى حرب كوسوفو، قامت مؤسسة مليتارى بروفيشنال رسورسز إنكوربريتد ومقرها ولاية فرجينيا، بتدريب الجيش الكرواتى فى حربه الانفصالية ضد يوغسلافيا الصربية، وكان عقدها مع إدارة كلينتون وليس مع الجيش الكرواتي!
وأشهر مقاول عسكرى عرفه العالم هو شركة «بلاك ووتر»، أسسها «إريك برينس» فى عام 1997، وهو ضابط سابق فى قوات النخبة بالبحرية الأمريكية، وكان لها 23 ألف جندى منتشرون فى العالم، غير 21 ألف جندى تحت الطلب مسجلين فى دفاترها، يمكن أن تستدعيهم عند الحاجة، وكانت تمثل 50 % من القوات الأمريكية التى خدمت فى العراق، وهذا النمو الهائل أسقط الشركة فى شباك الغرور، فصارت تعمل بمفردها دون رأى الإدارة الأمريكية فى عدد من الدول فى أمريكا اللاتينية التى بها نزاعات مسلحة، حتى أن «كوفر بلاك» من كبار مديرها قال فى معرض سوفكس لمعدات القوات الخاصة فى عام 2006: بلاك ووتر على استعداد لنشر قوات خاصة فى حجم لواء جيش فى أى منطقة صراعات أو أزمات فى العالم.
والغرور مآله الانهيار، وكانت مذبحة النسور فى العراق التى فضحها الإعلام البداية، اعقبها كتاب «بلاك ووتر..أخطر منظمة سرية فى العالم» للصحفى والكاتب الأمريكى جيريمى سكاهيل، الذى روى تفاصيل مشينة عن عمليات الشركة، فعدل إريك برينس اسمها إلى «أكس أى للخدمات»، ثم باعها فى 2011 وأعيد تسميتها إلى «أكاديمى».
المدهش أن هؤلاء المقاولين العسكريين وعددهم يقترب من الثلاثين جمعوا أنفسهم فى رابطة واحدة باسم «رابطة عمليات السلام الدولية»، ووصفوا أنفسهم: أننا نعمل فى بيزنس السلام، والرابطة تتكون من الشركات الأكثر مهنية ذات النظرة التقدمية الأخلاقية!! حقًا إنه عالم مجنون!