
أسامة سلامة
قضاة يجب تكريمهم
لأنهم انحازوا إلى الحق، ووقفوا بجانب المُعتدى عليهم ورفضوا العدوان الغاشم على العزل والأبرياء، ولأنهم طبقوا قواعد القانون الدولى ورفضوا إبادة وتهجير شعب من بلده، ولأنهم بسبب موقفهم العادل ورؤيتهم الإنسانية تعرضوا لعقوبات من جانب المساند للمعتدين والمساهم الرئيسى فى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لكل هذه الأسباب يستحق قضاة المحكمة الجنائية الدولية التكريم، وهو أبلغ رد على قرار الرئيس الأمريكى ترامب بفرض عقوبات على قاضيين واثنين من المدعين بالمحكمة، حيث يعتقد ترامب أنه بهذه الإجراءات يمارس ضغطًا على المحكمة للتراجع عن قراراتها التي سبق أن اتخذتها بالتحقيق مع مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين، وإصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلى السابق يوآف جلانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال حرب غزة، المثير للسخرية أن الإدارة الأمريكية تتبجح وتقول إن المحكمة تشكل «تهديدًا للأمن القومى وصارت أداة حرب قانونية على الولايات المتحدة وإسرائيل»، وتقول أيضًا: «الولايات المتحدة واضحة وثابتة فى معارضتها لتسييس المحكمة الجنائية الدولية وإساءة استخدامها للسلطة وتجاهلها لسيادتنا الوطنية وتجاوزها غير المشروع لصلاحياتها القضائية»، وهكذا تريد أمريكا من المحكمة أن تنضوى تحت جناحها، وأن تحكم ليس بالقانون لكن لصالح ما تراه هى وإسرائيل حتى تكون من وجهة نظرها عادلة، أمريكا التي رحبت من قبل بقرار المحكمة عندما أصدرت قرارًا بتوقيف الرئيس الروسى بوتين بسبب الحرب «الروسية- الأوكرانية» بدعوى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ترفض تطبيق نفس المعايير على إسرائيل، فهى تريد من المحكمة أن تغمض عينيها عما يحدث من جرائم ضد الإنسانية فى غزة، وألا ترى ولا تسمع ولا تتكلم إلا بأمر أمريكى، ولهذا أصدرت الحكومة الأمريكية قرارات تتضمن حظر دخول القضاة الأربعة إلى الأراضى الأمريكية، وتجميد أى أصول لهم فى الولايات المتحدة، ومنع أى معاملات مالية معهم.
القضاة الأبطال هم: نيكولا يان جيو من فرنسا، ونازهات شميم خان من فيجى، ومامى ماندياى نيانج من السنغال، وكيمبرلى بروست من كندا، والتهمة الحقيقية لهم ليست الإضرار بأمريكا، لكن بسبب نظرهم قضايا مرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة بشأن العدوان على غزة، فكيف يجرؤون على القيام بهذا الفعل الكاشف للجرائم الإسرائيلية والأمريكية؟ والمدهش فى القرار الأمريكى أنه جاء رغم أن دائرة الاستئناف بالمحكمة قبلت فى أبريل الماضى الطعن المقدم من إسرائيل لإعادة النظر فى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فى الجرائم التي ترتكب على الأراضى التابعة للسلطة الفلسطينية، باعتبارها ليست دولة، وأن السيادة فيها معلقة، وأنه لا يجوز أن تلاحق المحكمة متهمين إسرائيليين فى جرائم ارتُكبت فى غزة والضفة الغربية، وبالفعل أعادت دائرة الاستئناف نظر الطعن إلى الدائرة الابتدائية التي سبق أن رفضته، لكن يبدو أن ما أزعج ترامب هو رفض المحكمة إلغاء مذكرة توقيف نتنياهو.
وكانت المحكمة نظرت دعوى فلسطين ضد إسرائيل استنادًا على أن فلسطين انضمت إلى اتفاقية المحكمة عام 2015 ما يجعل لها اختصاصًا إقليميًا على الأراضى الفلسطينية المحتلة، ولكن إسرائيل وبدلاً من استكمال المسار القضائى والقانونى قررت من خلال أمريكا إرهاب المحكمة وقضاتها ووضعهم تحت ضغط العقوبات، وللعلم فإن المحكمة تأسست عام 2002، ويحق لها بموجب اتفاقية إنشائها النظر فى جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب فى الدول الأعضاء أو فى حال إحالة قضية من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وانضم لها حتى الآن 125 دولة، لكن أمريكا والصين وروسيا وإسرائيل ليست من الدول الأعضاء بها، القضاة الأربعة ليسوا وحدهم من تعرضوا للعقوبات الأمريكية، فقد سبقهم أربع قاضيات من نفس المحكمة فرضت أمريكا عليهن عقوبات فى يونيو الماضى لأنهن شاركن فى إجراءات قضائية أسفرت عن إصدار مذكرة توقيف نتنياهو، وفتح تحقيقات بشأن جرائم حرب محتملة ارتكبتها القوات الأمريكية فى أفغانستان، كما أصدرت أيضًا عقوبات على المدّعى العام للمحكمة كريم خان لنفس السبب، صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية ردت على الإجراءات الأمريكية فى بيان قالت فيه إن الخطوة الأمريكية تمثل «محاولة جلية لتقويض استقلالية مؤسسة قضائية دولية تعمل بتفويض من 125 دولة، ووصفت هذه العقوبات بأنها «هجوم صارخ على استقلال هيئة قضائية محايدة»، لكن هل يكفى هذا البيان أم أنها تحتاج إلى مساندة دولية، وإذا كانت فرنسا أدانت القرارات الأمريكية دفاعًا عن القاضية التي تحمل جنسيتها لكنها وحدها لا تكفى، إننى أتمنى أن نتبنى حملة دولية لمساندة المحكمة وقضاتها، وواجب علينا نحن العرب وعلى كل مناصر للقضية الفلسطينية ومنحاز للإنسانية أن يكرم هؤلاء القضاة، ويمكن لمنظمات حقوق الإنسان فى مصر والعالم العربى أن تصدر بيانات لصالحهم وترسل برقيات تعبر فيها عن شكرنا وامتنانا لهم، ويمكنها أيضًا الاتصال بمنظمات حقوق الإنسان العالمية خاصة فى الدول الرافضة للعدوان على غزة لإبداء استنكارها للموقف الأمريكى، ويستطيع المثقفون المصريون والعرب أن يدشنوا حملة عالمية بمشاركة أدباء وكتاب عالميين لمساندة القضاة ضد العدوان «الترامبى» عليهم، وفى إمكان المواطنين العاديين إرسال رسائل وعبارات دعم وتشجيع ومساندة لهؤلاء القضاة على موقع المحكمة فى وسائل التواصل الاجتماعى، اعرف أنها خطوات بسيطة، لكنها كافية لكى يشعروا أن العالم معهم ويقدر موقفهم النبيل.