الأحد 6 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

«المسيح» رائد الزواج المدنى

«المسيح» رائد الزواج المدنى
«المسيح» رائد الزواج المدنى


مازالت موجات إعصار الطلاق والزواج الثانى فى الكنيسة تهب على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية فكلما بدأت موجة فى التلاشى هبت موجة أكثر عنفاً وشراسة، وعجيب الأمر فإن تلك الموجات رغم شراستها لا تعصف بأحد ولا تحرك ساكنا بل على العكس يزداد موقف الكنيسة تعنتاً وصلفاً فى مواجهة مئات الآلاف من متضررى الأحوال الشخصية وتزيد الكنيسة الأمر تعقيداً حتى وصلت بالزواج إلى درجة من القداسة تصل إلى افتراض أن أمر الزواج فى الكنيسة سلوك ملائكى مقدس، وكلما اشتدت العواصف على الكنيسة كلما أمعنت فى تقديس الزواج وإحاطته بهالة من الحصانة الكنسية تحول دون إبطاله أو إعادته مرة أخرى.
كل هذا على غير سند من الإنجيل أو أى مرجعية آبائية فى تاريخ الكنيسة فالأصل فى الزواج المسيحى أنه إجراء مدنى يخضع لقوانين الدولة وما دور الكنيسة فى هذا الأمر سوى الاحتفال دون وجود أى مبرر يدعو لاعتبار هذا الزواج أمراً مقدساً أو سراً كنسياً والمفاجأة هنا أن السيد المسيح «الله فى المسيحية» لم يعط أى أبعاد روحية لهذا الإجراء المدنى بل لعله هو أول مسيحى أقر الزواج المدنى ووافق عليه وشارك فيه.
الكتاب المقدس فى إنجيل القديس يوحنا يخبرنا أن الزواج الوحيد الذى شارك فيه المسيح كان هو عرس فى منطقة تدعى قانا الجليل، وقد حضر السيد المسيح وتلاميذه كمدعوين عاديين فى الفرح فلم يأت المسيح إلى الفرح كمعلم روحى أو رجل دين لإجراء مراسم بعينها «دُعِىَ أَيْضًا يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ» (يوحنا 1 : 2) ولم يخبرنا القديس يوحنا أن «يسوع» تقابل مع العروسين أو أنهما أوصاهما وصايا بعينها أو حتى باركهما كما كان يفعل فى مواقف كثيرة حتى إن يسوع لم يصل أو يبارك فى هذا العرس كما أنه لم تحدث أى ظواهر روحية مثلما حدث فى معمودية المسيح والعشاء الأخير، ولكن كانت مشاركته بشكل احتفالى تماماً، فكان من عادة اليهود أن يبتهجوا فى أفراحهم بشرب الخمر وهو ما تم فى «عرس قانا الجليل» وفى حضور السيد المسيح نفسه ولم ينه أى أحد من الموجودين والمدعوين عن شرب الخمر ولكنه ترك الجميع يحتفلون طبقاً لعاداتهم والأمر الأشد وطأة هنا أن الخمر قد فرغت قبل انتهاء العرس فما كان من السيدة العذراء مريم إلا أ ن طلبت من ابنها يسوع المسيح أن يتدبر للحضور مزيداً من الخمر وهو ما كان (قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ».6 وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً.7 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. 8 ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ المتكأ». فَقَدَّمُوا). (يوحنا 1) ونلاحظ هنا أن السيد المسيح قد حول الماء داخل الأجران إلى خمر بمجرد أن ملأها الخدام فلم يصل على الماء أو حتى يباركه والخمر التى صنعها السيد المسيح هى خمر جيدة، وذلك بشهادة رئيس المجلس (فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ المتكأ... قَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ!») والأمر المستغرب هنا أن القديس يوحنا يذكر لنا أن معجزة تحويل الماء إلى خمر فى عرس قانا الجليل كانت باكورة معجزات المسيح التى بسببها آمن تلاميذ المسيح به (هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِى قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ) فالمسيح قصد هنا أن تكون دعوته علمانية بعيداً عن أى معتقدات دينية واستخدم العرف الاجتماعى (القانون والدستور) ليظهر مجده فآمن به تلاميذه، فالزواج إذن كما أسس له المسيح هو أمر مدنى لم يتدخل فيه من قريب أو بعيد ولم يوص عند إجراء هذا الزواج بطقوس أو مراسيم أو صلوات أو بركات بعينها فالزواج تقوم على إبرامه الدولة التى حرص المسيح فى مناسبات كثيرة أن يؤكد أن دعوته لا تتعلق بأى تشريعات أو قوانين مدنية «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ».
∎ الزواج المسيحى
لم يأت إذن السيد المسيح بأى تشريعات أو طقوس أو ترتيبات خاصة بالزواج ولم يعترض على الزواج المدنى بل شارك فيه واحتفل مع المحتفلين وصنع لهم معجزة ـ احتفالية وليست دينية ـ كما أن المسيح لم ينقض ناموس اليهود بل أكد خلود هذا الناموس حتى يرث الله الأرض ومن عليها (لاَ تَظُنُّوا أَنِّى جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ فَإِنِّى الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ) (متى 5: 17 ـ 18 ) فطالما لم يأت المسيح بجديد فى أمر الزواج وأكد استمرار مرجعية الناموس فلكى نقف على أمر الزواج المسيحى علينا الرجوع إلى ناموس اليهود لمعرفة ماهية الزواج فى الديانة اليهودية لأنه مازال سارياً فى المسيحية حسب أقوال المسيح.
∎ الزواج اليهودى
الزواج فى الديانة اليهودية يمتلئ بالكثير من التفاصيل ولكننا سوف نوجز أهم مراحل وبنود هذا الزواج  فلقد جاء فى سفر الخروج (22: 16) وجود مهرٍ بين الطرفين فيكتب الرجل مبلغاً من المال يكون على استعدادٍ لدفعه لزوجته إذا أراد أن يطلقها أو تأخذ المبلغ المذكور عند وفاة الرجل من ورثته لكى تستطيع أن تعيش من دون الحاجة لمساعدة الآخرين ويعطى الزوج لعروسه عهد الزواج «كِتوبَّا» وهو وثيقة الزواج الذى يضمن لها النقد المتأخر. ويتم توقيع وثيقة الزواج من الشاهدين اللذين لا تربطهما أى صلة قرابة بالعريس والعروس. القراءة العلنية لوثيقة الزواج ليست واجبة. ولكن من المهم أن يفهم العريس ما كُتب فيها لأنه يلتزم بالشروط المذكورة فيها وللزوجة حق التملك وإدارة الملكية (كتاب المِشنا «كتوبوت» 9: 1) وعلى الزوج أن يوفر لزوجته الطعام والكسوة والمعاشرة والمحبة والوئام (الخروج 21: 10) وعليه أن يحترمها ويجلّها أهم حتى من ذاته (التلمود البابلى «يِباموت» 62ب). فقد قال الحاخام عاويرا على الزوج أن يلبى حاجيات زوجته وأولاده الضرورية قبل إشباع رغباته (التلمود البابلى حولِّين 84 ب).
∎ لا طقس للزواج
تخلو قوانين الرسل فى الكنيسة (الديسقولية والديداخى) من أى ذكر لنظام أو ترتيب أو طقس معين للزواج على الرغم من وجود طقوس أخرى مثل المعمودية ورسامة الأساقفة وهو ما يعنى أن تلاميذ المسيح وآباء الكنيسة الأولين لم يضعوا أى أحكام للزواج وبالطبع كانت هناك العديد من الزيجات التى تعقد وهو ما يفهم منه أن المسيحيين الأوائل كانوا يتزوجون بحسب الشريعة اليهودية ولم تكن الكنيسة مقراً لأى طقس أو حتى احتفالاً خاصاً بالزواج فكيف تطور الأمر إذن حتى أصبح الزواج سراً كنسيا ممنوع الاقتراب منه أو التصوير.
∎ تطور الزواج
يقول العالم الكاثوليكى يوجين هيلمان: (إن المسيحية نشأت تحت ظل الثقافة الرومانية، التى كان قانونها لا يعترف إلا بالزواج الواحد) ونفس الأمر يقرره القديس أوغسطينوس فى كتابه ضد فوستوس. حيث يقول: (إن التعدد كان مباحا لأنه كان متوافقا مع العرف وليس مباحا فى عهدنا لأنه مخالف للعرف، السبب الوحيد لتجريم التعدد حاليا هو لأنه مخالف للعرف والقانون ويقصد القديس أوغسطينوس القانون الرومانى.) فالمسيحية فى بدايتها كانت لا تمنع تعدد الزوجات بل إن شريعة الزوجة الواحدة هى قانون وضعى وليس تشريعًا إلهيًا، ولكن أول من نادى بالزواج الكنسى سر هو القديس أوغسطينوس فى القرن الرابع فيقول «الزواج الصالح فى كل الأمم ولكل البشر يتوقف على الإنجاب والعفة، ولكن فيما يتعلق بشعب الله، هناك أيضا قدسية السر ولهذا لا يجوز أن تترك المرأة رجلها حتى ولو تركها لتتزوج بآخر طالما الزوج على قيد الحياة». ورغم هذا لم يتكلم أوغسطينوس على أى نوع من الممارسة الطقسية الخاصة. فقط تحدث عن تمييز الزواج المسيحى كزواج مقدس وبعد عصر أوغسطينوس تظهر بعض الممارسات الكنسية التى بدأت تستبدل سلطة الامبراطورية الرومانية المدنية بسلطة الكنيسة، خاصة بعد سقوط الامبراطورية الرومانية الغربية عام 476 م ولكن يظهر دليل من القرن التاسع فى رسالة البابا نيكولاوس الأول (858-867م) إلى البلغار وفيه ذكر مباركة القس للمتزوجين بعمل احتفال داخل مبنى الكنيسة يخرج منه العروسان لابسين لأكاليل أو تيجان على رؤوسهما من الكنيسة مما يوضح أن الكنيسة لم تكن تصنع الزواج، لكنها كانت تحتفل بالزواج المدنى وتباركه، ويقول جوزيف مارتوس أحد المؤرخين فى الأسرار الكنسية «بدخول القرن الثامن أصبحت الزيجات الطقسية شائعة وتُمارَس فى الكنيسة، وليس فى البيوت كالسابق وظهرت قوانين مدنية جديدة تُجيز هذا الشكل الجديد من احتفالات الزواج. وفى القرون اللاحقة، ظهرت قوانين أخرى تُلزم القسيس بالقيام رسميا بكل طقوس الزواج. أما الزواج فى الكنيسة اليونانية بسبب وقوع أغلب الامبراطورية الشرقية تحت الحكم الإسلامى أصبح طقسا كنسياً ولا نعرف تاريخا موثقا لتطور طقس الزيجة فى المنطقة التى دخلها الإسلام فى الشرق وشمال أفريقيا. وقبل الإسلام لم يَذكر أىٌّ من الآباء اليونانيين لكنيسة الإسكندرية أو أنطاكية أى طقس للزواج فى القرون الستة الأولى، ولكن على الأرجح أن هذا الطقس بدأ يتسلل تدريجيا بدخول الإسلام فى القرن السابع وظهور الزواج على الشريعة الإسلامية مما ألزم المسيحيين بفصل زواجهم عن زواج المسلمين  مما أدخل تدريجيا دورا لرجال الدين المسيحى فى الزواج وعلى الرغم من هذا لم يذكر ساويرس بن المقفع ـ القرن العاشرـ  فى كتابه «الدر الثمين» أى طقس أو تلميح عن طقس خاص بالزواج وهذا يؤكد أن مراسم الزواج كعقد اجتماعى كانت فى الأصل مدنية ولم يكن لها علاقة بالكنيسة بل بدأت مدنية تخضع للدولة الرومانية تم تسلل إليها تدريجيا وساطة رجال الدين بالمباركة أولا وتضخمت بانهيار الامبراطورية الرومانية فى الشرق والغرب وحلول سلطة الكنيسة مكان سلطة الدولة الرومانية المنهارة وتثبت فى الشرق بدخول الإسلام فظهرت الحاجة لفصل ما هو مسيحى عما هو إسلامى مما شجَّع على دخول رجال الدين المسيحى فى مراسم الزواج بشكل أوضح. ∎