
عصام زكريا
من أين يأتى كل هذا الخوف؟
من بين كل الحكايات والحوارات والشهادات والوثائق التى نشرت أو أعيد نشرها عن إحسان عبد القدوس فى ذكرى ميلاده المئوية استوقفتنى رسالة بخط يده، تنشر لأول مرة، على صفحات مجلة «ديوان الأهرام»، سرعان ما التقطتها إحدى الجرائد اليومية «الشهيرة»، ونشرتها دون إشارة إلى المصدر، قبل أن تعلن اعتذارها بعد أيام وتنسب الحق لأصحابه. الرسالة «الحزينة» على حد وصف عنوان غلاف «ديوان الأهرام» موجهة إلى طه حسين وتحمل تاريخ 4 مارس 1966، وهى رسالة طويلة تزيد على ألف كلمة، تسيل من حروفها المرارة، واليأس، والأسى، عندما قرأتها تركتنى شخصيًا فى حالة حزن لأيام، على حال إحسان وطه حسين وأهل الفكر عمومًا فى بلدنا الميمون.
فى 1966 كان عمر إحسان سبعة وأربعين عامًا، وهو سن كبير بمقاييس هذا العصر، وبالنسبة لإحسان تحديدًا الذى بدأ حياته المهنية كصحفى وأديب قبل أن يبلغ العشرين. ولكن فى رسالته «الحزينة» يبدو كشاب مراهق جار عليه الكبار وأساءوا فهمه وألصقوا به تهم الإباحية والخروج على التقاليد والعادات، والثوابت والمسلمات، والعلوم والآداب، أثناء وعقب نشر قصته «أنف وثلاث عيون» على صفحات مجلة «روزاليوسف»، ما بين كتابات صحف «زميلة» ورفض رسمى لنشر القصة فى كتاب، إلا إذا تم «تهذيبها»، وقيام أحد أعضاء مجلس الأمة (الشعب حاليًا) باستجواب يطالب فيه بمحاسبة الأديب الكبير على «قلة أدبه».
يكتب إحسان فى أحد مقاطع الرسالة:
«لم يصدر لى كتاب جديد منذ أكثر من عامين.. وقصتى الأخيرة التى تحمل اسم «أنف وثلاث عيون» رفضت الدولة التصريح بنشرها فى كتاب إلا بعد أن أخفف منها وأعدل فيها، ورفضت أنا التخفيف والتعديل، وبالتالى لم ينشر الكتاب، ولكن ليست هذه هى المشكلة.. مشكلتى الحقيقية أنى لم أعد مقتنعًا بأن لى إنتاجًا أدبىًا يستحق أن يقرأه أستاذى الكبير طه حسين.. ووجدت نفسى صريع أزمة نفسية قاسية أبعدتنى عن كل الناس، وكل مراكز الحركة، وكل من أحبهم.. واكتشفت فى نفسى أنى إنسان ضعيف.. غاية الضعف.»
أسئلة كثيرة تنتاب المرء بعد قراءة رسالة عبدالقدوس إلى طه حسين، ولكن السؤال الذى شغلنى أكثر من غيره هو من المسئول عن هذه الأزمة النفسية التى أصابت إحسان؟ وأعتقد أنها كانت حاسمة ومفصلية فى حياته، لأن أعماله اللاحقة على «أنف وثلاث عيون» تخلو من الوهج وطاقة التحرر التى تحملها أعماله السابقة، بل وتميل تدريجيًا إلى المحافظة، و«الموظفية» إذا جاز التعبير لوصف من نطلق عليهم «المثقف الموظف». وإحسان الذى يعلن فى هذا الخطاب أنه رفض تنفيذ ملاحظات الرقابة بالحذف والتعديل على «أنف وثلاث عيون» سينشرها فيما بعد «منقحة مهذبة»، وليس هذا فحسب، بل سيعيد نشر بعض أعماله الأخرى «بعد التعديل»، وهى الفضيحة التى تم نشر وقائعها على صفحات «روزاليوسف» فى التسعينيات، واتهم فيها ناشر كتبه، عبدالحميد جودة السحار، بأنه الفاعل، وقيل إن «التعديلات» تمت بمعرفة إحسان!
كيف وصل إحسان الخمسينيات الليبرالى، الذى قورن بأدباء مثل ألبرتو مورافيا فى إيطاليا، وفرانسواز ساجان فى فرنسا، إلى إحسان المحافظ، بل الرجعى، الذى نراه فى السبعينيات والثمانينيات؟ ولماذا كانت هذه الحملة التى أعقبت نشر «أنف وثلاث عيون» بهذا التأثير المدوى عليه؟
يروى إحسان فى رسالته تفاصيل الحملة، التى بدأت أثناء نشر الرواية مسلسلة على صفحات «روزاليوسف»، وهى حملة « لم تكن أدبية، ولم يقم بها أدباء ولا أنصاف أدباء، إنما قام بها بعض كتاب الصحف المشبوهين.» ثم امتدت إلى صحف أخرى، ومنابر أخرى، حتى وصلت إلى مجلس الأمة على يد نائب يقول عنه إحسان: « لم يكن حضرة النائب أديبًا، بل اعترف لى أنه لم يقرأ القصة أصلًا، ولكن قدمت له بعض فقرات منها. إنه نائب كان يسعى لنشر اسمه فى الصحف فقط.»!
لكن الطامة الكبرى فى رسالة إحسان هى الخذلان الذى تعرض له من زملائه، أهل الأدب والثقافة، ولجنة القصة التابعة للمجلس الأعلى للفنون التى يرأسها الكاتب «الكبير» توفيق الحكيم شخصيًا، والذى رفض أن تتضامن اللجنة بإعلان رسمى مع عبدالقدوس. والأكثر من ذلك أن الحملة تصاعدت حتى وصلت إلى إحالته لنيابة الآداب. ويصف إحسان هذه المهزلة قائلًا:
«تطوع بعض الناس اندفاعًا وراء شهوة الظهور على صفحات الصحف، إلى تقديم بلاغ ضدى فى النيابة للتحقيق فى القصة التى كتبتها.. وحققت معى النيابة فعلًا.. ثم أحيل التحقيق لنيابة الآداب.. وهنا لم أعقل.. لم أعقل أن يحاسب أديب فى عصرنا هذا أمام نيابة الآداب، كالعاهرات، وكالقوادين.».
إحالة إحسان لنيابة الآداب هزته وزعزعت الأرض من تحته، مع أنه تعرض للسجن من قبل لأسباب سياسية، وعلى يد صديق العائلة، جمال عبدالناصر شخصيًا، الذى كانت «روزاليوسف» وإحسان وأمه من أوائل من مهدوا الطريق له، وروجوا له، من قبل حركة الجيش 1952، وحتى أصبح رئيسًا للجمهورية.
كانت علاقة عبدالناصر بإحسان والسيدة والدته ملتبسة للغاية، وربما تحتاج إلى بحث مفصل، علاقة يختلط فيها الإعجاب بالحذر، وربما الحسد، من جانب عبد الناصر، والإعجاب بالقلق، وربما الشك، من جانب إحسان وروزاليوسف. علاقة ربما تفسرها الرسالة المفتوحة التى كتبتها الست «روزا» لعبدالناصر فى 11 مايو 1953، قبل أن يصبح رئيسًا، تنصحه فيها، بشكل غير مباشر، بانتهاج الديموقراطية سبيلًا، وهى الرسالة التى رد عليها عبدالناصر فى الأسبوع التالى مؤكدًا أنه يحترم ويحب الديموقراطية، ولكن لم يمر عام واحد، كان قد صار خلاله رئيسًا، حتى وضع ابنها فى السجن بسبب مقال سياسى.
وقتها لجأت فاطمة اليوسف لعبدالناصر حتى يفرج عن ابنها، وقد كان، واستمرت العلاقة بين عبدالناصر وآل روزاليوسف جيدة ولكن متوترة خلال السنوات التالية، ومن المعروف أن عبد الناصر أبدى اعتراضه على قصة أخرى سابقة لـ«أنف وثلاث عيون» هى «البنات والصيف»، المنشورة عام 1960، وأن إحسان كتب رسالة له يوضح فيها أن ما تحتويه قصصه أقل جرأة بكثير مما يحدث فى الواقع، ومن الحكايات العجيبة أيضًا أن عبدالناصر اعترض على كلمة «تصبحوا على حب» التى كان ينهى بها برنامجه الإذاعى، وطلب أن تصبح «تصبحوا على محبة»! وهو ما يكشف عن مستوى العقول الرسمية التى كانت تحكم مصر. عقب أزمة «أنف وثلاث عيون» بأسابيع تمت الإطاحة بإحسان عبدالقدوس من منصبه فى «روزاليوسف». يكتب إحسان فى رسالته إلى طه حسين:
«حدث فى وسط هذه الأزمة أن أعفيت من منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة «روزاليوسف»، ورغم أن السيد الرئيس أرسل لى متفضلًا، من يقول لى إن إعفائى ليس متعلقًا بشخصى ولا بجس ثقته بى، إنما هو متعلق بظروف بعيدة عنه كل البعد. إلا أننى ظللت مقتنعًا بأن موقفى من الاتجاهات الأدبية كان له دخل فى إعفائى».
عندما تم تحويله لنيابة الآداب بعد الإطاحة به من منصبه، لجأ إحسان إلى الدولة ممثلة فى الأديب يوسف السباعى الذى كان يشغل منصب رئيس المجلس الأعلى للفنون على درجة وزير، وتم حفظ التحقيق بناء على واسطة السباعى، لكن المقابل كان بالطبع هو أن ينتبه إحسان من الآن فصاعدًا إلى كل كلمة يكتبها أو يتفوه بها.
باختصار، الحملة بدأها كتاب «مشبوهون» وهاص معها الرجعيون والباحثون عن شهرة ودور، برضا السلطة وسكوتها، ثم تراجعت، وخفتت، بإشارة من السلطة... وفى كل هذه المراحل وقف رفاق السلاح، زملاء الصحافة والأدب، يتفرجون فى صمت، وربما شماتة. يكتب إحسان فى نهاية رسالته «الحزينة»:
«لقد تعرضت لحملات أشد.. منذ بدأت أكتب فى الصحف.. ولكن هذه الحملات لم تكن تؤثر فيّ مثلما أثرت الحملة الأخيرة.. ذلك لأنى لم أشعر أبدًا - خصوصًا قبل الثورة - بأنى أقف وحدى.. كان الناس ينقسمون إزاء كل حملة.. ناس يقفون معى، وناس يقفون ضدى، وكان الناس الذين يقفون معى يكفوننى لشد أزرى على الناس الذين يقفون ضدى.. ولكن الدنيا تغيرت.. الناس الآن.. أقصد الناس الذين يتكلمون بصوت عال.. لا يقولون رأيهم، ولكنهم يسألون عن رأى الحكومة..ولا يحددون موقفهم من القضايا العامة أو الخاصة، ولكنهم يبحثون عن موقف الحكومة.. فإذا لم يكن للحكومة رأى ولا موقف، أصبح لا رأى لهم ولا موقف.
وهذا ما أشاع اليأس فى نفسى..
هذا هو ما جعلنى أشعر بالوحدة، والبرودة، والانطواء، ولا أريد أن أقول القرف!»
لا عجب فى أن يتراجع إحسان عبدالقدوس، إذا كان الأستاذ نفسه الذى يستجير به، العظيم طه حسين، قد اضطر أن ينحنى للعاصفة ويستسلم لتيار التخلف، عقب الهجوم الضارى الذى تعرض له بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى»، وهو الكتاب الذى صودر وقدم طه حسين للمحاكمة بسببه، ورغم أن رئيس النيابة وقتذاك، الرائع والنادر، محمد نور، برأ الكتاب وصاحبه من التهم الملصقة به، بل أشاد به فى حيثياته، إلا أن «العميد» استجاب لمطالب الجهلة والغوغاء ولم ينشر الكتاب ثانية، وحتى الآن يعاد نشره بشكل غير رسمى.
ولا عجب أن يتنازل عن أفكاره وكلمات رواياته، إذا كان نجيب محفوظ نفسه، كبير أدباء مصر والعالم العربى، لم يدافع عن روايته «أولاد حارتنا» فى مواجهة الهجوم الذى تعرضت له، وقبل طواعية أن تحجب عن النشر حتى وفاته.
هل إحسان عبدالقدوس، كما وصف نفسه فى الرسالة، ضعيف حقًا، لم يستطع أن يتحمل عواقب أن تكون فنانًا أو أديبًا أو مفكرًا صاحب رأي؟ وإذا كان هذا صحيحًا، فهل كان طه حسين، العملاق الذى يستجير به إحسان ويعتبره المثل الأعلى، هل كان ضعيفًا أيضًا عندما رضخ وقبل أن يدفن طفله «فى الشعر الجاهلى» عقب الحملة الشعواء التى انطلقت ضده قبل الحملة ضد إحسان بحوالى خمسة وثلاثين عامًا. وهل كان نجيب محفوظ ضعيفًا عندما انحنى بتواضع لمن هاجموا «أولاد حارتنا»؟
هل المشكلة فى قدرتنا على المقاومة، على عكس ما نراه من صمود علماء ومفكرين أجانب، من زمن سقراط وحتى هنرى ميلر، مرورًا بجاليليو وكوبرنيكوس وفولتير وودارون ولورانس، وعشرات بل مئات غيرهم فى شتى مجالات الفنون والفكر؟
أم أن المشكلة، كما يضع إحسان يده عليها فى رسالته الكاشفة هى أنه شعر بأنه يقف وحده بعد تخاذل الزملاء وتخلى الأصدقاء، وتفشى النفاق، فى تلك الدنيا الجديدة التى سبقت نكسة يونيو 1967 بعام واحد؟!