الأربعاء 23 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مصرع العدالة

مصرع العدالة


 
 
 
تبدو العدالة فى صورتها الشهيرة على هيئة امرأة معصوبة العينين وبيدها ميزان معتدل.. ولكن يبدو أن العدالة فى مصر الآن تحيط العصابة بإحدى عينيها فقط.. بينما الأخرى تنظر فى اتجاه واحد لا ترى غيره والميزان فى يدها مختل.. الوضع قاتم.. والاتهامات المتبادلة بين القضاة خطيرة.. وإذا استمر الأمر على نفس المنوال، فإن العدالة ستلقى مصرعها على يد أبنائها وحراسها.. ما دخلت السياسة صرحا إلا أفسدته، فمبدؤها الغاية تبرر الوسيلة.. وأخشى أن يتلوث محراب العدالة بأمراض السياسة.. وأن تسخر الأحكام وتفسيرات القوانين لمصلحة السياسيين واتجاهاتهم على اختلافها.. القضاء المصرى فى خطر، والمهمة الأولى الآن هى إنقاذه من المنحدر الذى ينزلق إليه.. قبل أن يصل إلى الهاوية.. لست مبالغا ولكن ما حدث خلال الأيام الماضية ينذر بكارثة.
 
 
المواطن الذى جلس أمام التليفزيون ليشاهد الفضائيات المتعددة، وقرأ الصحف المختلفة أخذته الحيرة وأصيب بالاضطراب بسبب الآراء المتباينة بعد الحكم الصادر من المحكمة الدستورية بعدم دستورية بعض مواد قانون الانتخابات الذى أدى إلى حل مجلس الشعب.
 
 
حتى وصل الأمر إلى القول بأنه حكم سياسى، وهو أخطر ما يقال عن حكم قضائى.. لأنه يعنى أن من أصدره لا يصلح للبقاء على كرسى القاضى.. لقد استمرت المعركة بين القضاة مع قرار رئيس الجمهورية د. محمد مرسى بعودة مجلس الشعب للانعقاد، حيث رأى فريق ومعهم بعض فقهاء القانون أنه حق أصيل له ويصلح من خطأ المحكمة الدستورية، وأكد فريق ثان أنه يضرب المؤسسة الدستورية فى مقتل ويهين الأحكام القضائية، ويفتئت على هيئة مستقلة فى سابقة لم تحدث من قبل.
 
الخلاف اشتد بعد حكم الدستورية الثانى بإلغاء قرار رئيس الجمهورية وتعالت الأصوات المختلفة والمتعارضة حول الحكم.. حتى تاه المواطن «المسكين» بسبب آراء فقهاء القوانين.. الأخطر أننا شاهدنا اتهامات متبادلة بأن كل طرف يفسر القوانين وفقا لاتجاهاته السياسية وانتماءاته لفصيل بعينه، فهذا إخوانى والثانى فلول يعمل لصالح النظام السابق، والثالث يصدر أحكاما وفقا لأوامر المجلس العسكرى.
 
 
وصلت حدة الخلاف بين الطرفين إلى تصريحات صحفية خطيرة قال فيها الفصيل الأول إن مؤيدى مرسى من القضاة إخوان مسلمون، ورد الفصيل الثانى بأن معارضى مرسى منتفعون وأصحاب مصالح.. لقد طالب المستشار زكريا عبدالعزيز بالحجر على المستشار أحمد الزند ووصفه بأنه يهذى بسبب ما قاله فى المؤتمر الصحفى وتهديده للرئيس محمد مرسى إذا لم يسحب قرار عودة مجلس الشعب بأن يكون للقضاة كلام آخر، ووصف عدد من القضاة كلام الزند فى إحدى الفضائيات بالمشين، وأن تصريحاته أمر مؤثم قانونا ومخالفات مشينة لا تتفق وكرامة القاضى.. فى حين وصف بعض القضاة مجموعة «قضاة من أجل مصر» الذين ينتمى إليهم المستشار زكريا عبدالعزيز بأنهم خارجون عن الصف القضائي وأنهم ينتمون إلى فصيل بعينه، وأنهم بسبب ذلك فقدوا صفتهم القضائية من الأساس.. أما المستشارة تهانى الجبالى فقد أصابها الكثير من الرذاذ بعد أن عبرت عن آرائها فى الفضائيات وإصرارها على أن يقسم د. مرسى اليمين أمام المحكمة الدستورية على الهواء.
 
وتوالى الهجوم على الجبالى وقالوا إنها أحد كوادر الحزب الوطنى، وأنها تم تعيينها فى المحكمة الدستورية بواسطة سوزان مبارك، بل إن بعضهم طالب بإبعادها عن منصبها القضائى.
 
 
كل هذه الاتهامات التى طالت رجال القضاء رغم أن الجبالى كانت دائما معارضة وفى صفوف الناصريين ضد النظام السابق وأنها دافعت عن الثورة ونزلت ميدان التحرير من الأيام الأولى للمظاهرات.. كما أن تقارير الأمم المتحدة الأخيرة وضعها ضمن قائمة أكثر القضاة فى العالم دفاعاً عن الحقوق والحريات. أما الزند فهو رئيس نادى القضاة بأغلبية كبيرة ومازال يحوز ثقة القضاة وهو يمثلهم حتى الآن، والمستشار زكريا عبدالعزيز له وضعه القانونى الكبير وظل رئيسا منتخبا لنادى القضاة لدورتين متتاليتين، وكان له دوره الفعال فى الانتصار لاستقلال القضاة وفى معركة الوقوف ضد تزوير الانتخابات فى عهد مبارك.
 
 
ومن هنا فلا يمكن أن يشكك أحد فى نزاهة الثلاثة، ورغم ذلك فإن الهجوم المتوالى من القضاة على بعضهم البعض يجعل المواطن يفقد ثقته فى القضاء كله.. ويجعله متشككا فى نزاهة القضاة عموما.. وأنهم يحكمون بالهوى لا بالقانون! فمعروف أنه إذا تم تطويع القانون لصالح السياسة يتم اغتيال العدالة ومصرعها.. كما أن الاتهامات التى وجهت إلى هؤلاء القضاة تستوجب إذا ثبت صحتها إبعادهم عن مناصبهم.. وإذا لم تكن صحيحة فكيف نطمئن إلى من اتهم قاضيا بغير حق.. وكيف نشعر بالأمان إذا وقف أمامهم متهمون أو أصحاب حقوق.
 
 
أعلم أن أغلبية القضاة ينأون بأنفسهم عن هذا المعترك ويرفضون أن يدلوا برأيهم فى القضايا المنظورة أمام المحاكم، أو التعليق على الأحكام الصادرة.. ولكن القضاة الأعلى صوتا والأكثر شهرة يطلون علينا من شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد ومعهم يضطرب المواطن والوطن.. حقيقة، لعب بعض هؤلاء القضاة دورا لا يستهان به فى الدفاع عن استقلال القضاء.. وفى الوقوف فى وجه النظام السابق وتحمل عدد منهم عنتا كبيرا.
 
أيضا لا يمكن الحجر على الآراء ولست ممن يقولون بعدم التعليق على الأحكام خاصة فى القضايا التى تهم الرأى العام، لكن بشرط ألا يتحول الأمر إلى فوضى.. وأن يقوم كل من هب ودب وغير المتخصصين بالفتوى، وضبط هذا الأمر مهم حتى لا يختلط الحابل بالنابل.. لقد كشفت الوقائع الأخيرة عن انقسامات واضحة بين القضاة، وعن اتجاهات متعددة ينتمون إليها، ورغم أننى أؤكد أن التوجهات الفكرية والسياسية لا تؤثر على القاضى فى أحكامه، إلا أن ما حدث طوال الأيام الماضية وظهور الخلافات واضحة أمام المواطنين، يقول إن خلطا ما حدث بين القضاة والسياسة وإن هناك من يحاول استغلال القضاة لمصالحه وتوجهاته.. وبعضهم سواء بعلم أو بغير علم ينساق فى هذا الاتجاه.. والخطر الأكبر أن تنجح محاولات تسييس القضاء فيكون القضاء على القضاء فى مصر.
 
لقد ظهر أمام المواطن أن هناك فقهاء قانون جاهزين لتفسير المواد والأحكام حسب الهوى السياسى، وهم يغلّفون الخلافات السياسية بالقانون لتمرير ما يريدونه ولاستقطاب أكبر عدد من المواطنين إلى صفهم، فى محاولة لتوظيف القانون لصالح السياسة.
 
كل هذا يضع المؤسسات القضائية فى موضع الشكوك والاتهامات وأخشى أن تصل بنا الحال فى نهاية الأمر إلى تكرار ما حدث مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فيما عرف بمذبحة القضاة.
والآن.. ما الحل للخروج من هذا المنزلق الخطر؟
 
 
هل يقف حكماء القضاة صامتين؟ هل يمكن أن نشهد قريبا مؤتمرا للعدالة، يقرب بين الفرقاء ويرأب الصدع بين الأسرة القضائية؟ هل يستطيع شيوخ القضاء أن يقنعوا القضاة بالتوقف ولو مؤقتا عن الظهور على شاشات التليفزيون وأن يمتنعوا قليلا عن التعليق على الأحكام القضائية، حتى يتم الفصل بين العمل السياسى والعمل القضائى وحتى ننأى بمحراب العدالة وكهنته عن السياسة وأمراضها؟!.. أتمنى أن تنتبه الأمة كلها للخطر المحدق بها.. فالقضاء هو الحصن الأخير، وإذا سقط فى الهاوية فلن ينجو أحد، ولهذا فإن المهمة الأولى الآن للجميع وأولهم القضاة هى إنقاذ القضاء، وإلا فلا أمل فى مستقبل ديمقراطى وعادل، ولن يتحقق هذا الأمل إلا بالفصل بين السلطات، وبالعودة إلى التقاليد القضائية العريقة.