
هناء فتحى
لا تقاطعوا مسلسلات رمضان ولكم فى «العهد».. مثل
سوف يدرك البعض منكم وليس جميعكم - خصوصا أولئك المغرمين بفن الرواية- أن ما يفعله كاتب الدراما المبدع «محمد أمين راضى» على مدار رمضانات ثلاثة ليس سوى كتابة روائية درامية شديدة التميز والروعة والإتقان.. كتابة أخرى تعتمد التلغيز والغموض والغرائبية شبه الواضحة عمودها الفقرى ولحمها ودمها.
فهل أدرككم الوقت وحالفكم الحظ وتابعتم الحلقات الأولى من مسلسل (العهد) للمخرج الواعى عاشق الكاميرا والوجوه والأمكنة وما تخفى السرائر فى العيون «خالد مرعى»؟
للعام الثالث يفاجئنا الثنائى محمد أمين راضى مؤلفا وخالد مرعى مخرجا بثالث روائعهما (العهد الكلام المباح) وقد سبقها العامين الماضيين «نيران صديقة» و«السبع وصايا».. فأى جمال وخيال ذاك المنساب أمامنا مساء كل ليلة على فضائية واحدة وحيدة حصرياً دون دعاية كافية وانتشار أوسع تجعل الجميع مأخوذا لمدة 45 دقيقة يشاهد دراما روائية يجسدها كوكبة من الممثلين: كندة علوش وغادة عادل وسلوى خطاب وهنا شيحة وصبا مبارك وشيرين رضا وآسر ياسين وصبرى فواز ووليد فواز.. وكثيرون آخرون.
يحب المؤلف أن يدرج هذا المسلسل تحت مسمى (دراما خوارق).. لابأس.. فالمسلسل يتناول قضية الصراع على السلطة وما تجلبه من دمار وقتل ومؤامرات، السلطة التى يضحون بالشرف للحصول عليها وينتهكون المقدسات من أجل الوصول إليها.. إنها دراما الخوارق الذين يبيدون البلاد والبشر من أجل اعتلائها حتى ولو حكموا الخراب والطلل.
هنا يلعب بمهارة المؤلف والمخرج معهما مدير التصوير المبدع فى تجسيد دراما أدبية تعتمد على التلغيز -تقول فى وشك بس الكلام مش عليك- دراما قديمة ومعاصرة معا.. تدور الأحداث فى الزمان والمكان.. فلا الزمان محدد ولا المكان معلوم.. لكن الجميع يتسابقون ويتصارعون ويقتلون بعضهم البعض من أجل الحصول على (العهد) والعهد هو الكتاب الذى يحكمون به القرى الظالم حكامها.. وربما الظالم أهلها.
أبطال المسلسل فى انشغالهم وبحثهم الدائمين عن كتاب (العهد) الذى يحكمون به الناس ويقتلون به الناس.. يذكرنا ذلك بذاك البحث القديم المضنى عن نفس الكتاب الذى أدى إلى كل تلك الدماء فى مسلسلى: نيران صديقة والسبع وصايا!! هل هو تكرار؟ هل يعيد المؤلف نفسه؟ لا أبداً.. بل هو تفرد الكاتب المتميز بلغته وأدواته وبنائه الدرامى شديد الخصوصية، ومن ثم بحثه وأرقه الدائمين عن المعنى المخبوء فى الكتب المنسية.. الكتب المزيفة.
تبدأ الأحداث بمقتل الكبير على يد أخيه وزوجته ويراهما الابن آسر ياسين فيهرب إلى الصحارى، وفى حلقة أخرى تقتل هنا شيحة شقيقيها، وفى حلقة ثالثة تقتل صبا مبارك أباها، الصراع والدم من أجل الحكم والسلطة، والجميع يبحثون عن العهد.. الوثيقة التائهة التى يحكمون بها الناس، ولما لم يجدونها اتفقوا معا على كتابة عهد مزور، شوف إزاى؟ عهد وكلام من صنع أيديهم يشكلون أوامره ونواهيه حسب مزاجاتهم وحسب مصالحهم وعلى مقاس الرعية.
وتبقى سلوى خطاب المتألقة الرائعة دائماً المبهرة فى كل مشهد، هى فى هذا العمل تقوم بدور عرافة ترى الغيب وتقود الجميع للأحداث، تماما مثلما كانت فى نيران صديقة.
ومع أن المسلسل الدرامى الأدبى فى بداية حلقاته لايزال إلا أنه لدى تنويه ولدى تساؤل:
∎ أما التنويه فهو حول وعن مدير التصوير الرائع وكيف لعب بالأبيض والأسود، وبالظل والضوء فى سير الأحداث المبهمة دائماً والواضحة أحياناً، واستخدم فى سبيل ذلك الشموع ونيران الخشب المحترق (الركية) وكلوبات الضوء القديمة والسراج المنير، ثم كيف يفج النور الأبيض ساطعا يؤلم العين بسطوعه المباغت فى جعل الصورة بديلا عن كل الكلام، كم هو بليغ مدير تصوير المسلسل.
أما التساؤل فهو هل يحتاج أى عمل فنى كل هذا الغموض والتلغيز ليحكى عن واقعنا العربى الآنى؟ هل هناك بعد كل تلك الثورات التى أطاحت برؤساء وممالك وأهلكت بلدانا كانت مستقرة وآمنة أن يأتى عمل فنى ليتحدث بالكناية والمجاز وتمويه البلاد والسنوات مع أن كل حاجة على عينك يا تاجر، وكل شىء انكشف وبان؟∎