السبت 17 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
إعدام المارشال

إعدام المارشال




اسامة سلامة روزاليوسف الأسبوعية : 06 - 08 - 2011


دخل الرجل العجوز إلي قاعة المحكمة.. كان هرما بشكل يثير الشفقة، الكل تطلع إلي هذا الشخص الذي يرتدي ملابس الجنرال.. كان التاريخ يطل علي الحاضرين من القفص الحديدي الذي أودع به رجل عسكري أنقذ بلاده من الاحتلال.. ساهم بقوة في إعادة بناء قواتها المسلحة التي انهارت وأنهكتها المعارك والحروب. نجاحه البارز ارتقي به إلي منصب القائد العام للقوات العسكرية ثم وزيرا للدفاع، الكل كان يعده بطلا قوميا ومثار فخر لبلاده.
وبعد 25 عاما من هذا الإجلال والاحترام، أصبح شخصية سياسية مثيرة للجدل، خاصة بعد تعامله المشبوه مع أعداء بلاده، وقبوله التعاون معهم، وكان مصيره المحاكمة، ومن حملوه يوما علي الأعناق هم الذين ذهبوا به إلي القفص الحديدي.
المارشال «بيتان» قاد بلده فرنسا إلي تحقيق انتصار كبير علي الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولي أوقف هجوم الدبابات الألمانية التي لا تقهر، وتقدم وانتصر عندما انهزم باقي القادة الفرنسيين، وقتها ذاع صيته وغدا اسمه علي كل لسان.. وكلف برئاسة الأركان العامة فنجح في بث روح الوطنية وإعادة الثقة للقوات المنهارة، بعد الانتصار ارتقي إلي مناصب عسكرية رفيعة، وكان لأفكاره تأثير واضح علي العسكرية الفرنسية، ومرت السنوات بالمارشال بيتان صعد خلالها سياسيا وأصبح نائبا لرئيس الوزراء، وعندما اشتعلت الحرب العالمية الثانية بدلا من أن يحارب تفاوض مع الألمان وعقد معهم هدنة صارت بموجبها فرنسا جزءين، الأول تحتله وتديره ألمانيا والثاني باسم فرنسا الحرة ويرأسها بيتان نفسه، وأمد الألمان بكل ما يحتاجونه من أغذية وقمح وجبن، بل إنه منحها عربات السكك الحديدية.
وكل ذلك بدعوي إنقاذ فرنسا من الدمار الذي حل بالدول الأخري التي غزتها واحتلتها ألمانيا بالقوة.. وكان يري أو يروج أنه يحمي حياة الفرنسيين ويبني فرنسا الجديدة.. ولكن هتلر قرر احتلال أراضي فرنسا بالكامل ولم يشفع لبيتان تعاونه مع المحتل.. وقتها ظهر ديجول صديق بيتان القديم وقاد المقاومة رافضا الاعتراف بحكومة بيتان المتعاونة مع الأعداء، وفي النهاية انتصرت إرادة الشعوب وتحقق النصر علي الألمان، وعادت فرنسا مرة أخري حرة. وذهب بيتان للعيش في سويسرا، لكن المطالبات الشعبية الفرنسية بمحاكمته لم تتوقف، وبالفعل عاد إلي فرنسا وقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمي رغم تاريخه ونظافة يده وشيخوخته، إذ كان عمره وقتها 89 عاما.
ولكن ماذا دار في هذه المحاكمة التاريخية التي تابعها كل العالم؟
شكلت الحكومة الفرنسية وقتها المحكمة العليا «محكمة استثنائية» وتكونت من رئيس محكمة النقض والمدعي العام «النائب العام» وقاضيين و12 محلفا برلمانيا و12 محلفا من المقاومة الفرنسية التي حاربت الاحتلال الألماني.
والملاحظ هنا أن عدد القضاة بالمحكمة قليل، أما هيئة الدفاع فكانت نقيب المحامين الفرنسيين وقتئذ واثنين من أكبر وأشهر المحامين هناك.
وكان أول دفوع للمحامين هو عدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوي وهو ما رفضته هيئة المحكمة وقررت الاستمرار فيها.
وتحدث الدفاع عن مجد المارشال وسنه، وأنه حاول إنقاذ فرنسا بالهدنة التي عقدها مع العدو، وقالوا: لا توجد جريمة ارتكبها مطالبين برد الاعتبار والكرامة للمتهم، وحاول الدفاع التأثير في القضاء وقالوا: «قتلاكم هم قتلانا ونبكيهم جميعا»! وفي النهاية قال بيتان: «طيلة فترة المحاكمة احتفظت بالصمت، تفكيري كان أن أبقي مع الشعب علي أرض فرنسية من أجل أن أحميه وأخفف معاناته ومهما حصل فإن هذا الشعب سوف لا ينسي أنني دافعت عنه.. حياتي وحريتي بين أيديكم، أما شرفي فقد جاهدت به للوطن، أنا لا يعذبني ما فعلته خلال حياتي الطويلة، وأؤكد لكم وأنا أقترب من حافة الموت أنه لم يكن عندي طموح إلا خدمة بلدي». أما النائب العام فقد رد علي هذا الكلام بقوله: «قيل لكم لو لم يقم بيتان بما فعله لكانت حالة بلدنا أكثر سوءا، وهذا غير صحيح لأن الدول التي لم تستسلم كانت أحسن حالا منا، ففي فرنسا نفذ حكم الإعدام ب 150000 رهينة، وتم تهجير 110000 لاجئ سياسي ونفي 120000 شخص علي أساس عنصري، فكيف يمكن أن تكون فرنسا أسوأ حالا مما كانت؟!
ولكن أهم ما قاله النائب العام الفرنسي: «إن أسوأ ما ارتكبه بيتان أن سياسته جلبت علينا ازدراء الدول الأخري.. وأدت إلي الشك بنا.. وباحترامنا لالتزاماتنا والشك بشرف فرنسا، وكادت فرنسا تفقد سبب وجودها بتجريدها من الشرف، هذه هي الجريمة التي لا يمكن تبريرها ولا توجد أعذار لها».
وفي النهاية وبعد مداولات رفض 13 محلفا الإعدام وأيده 14 وبسبب هذا الصوت الأخير قضت المحكمة بعقوبة الإعدام علي بيتان وبمصادرة أمواله، لكن رئيس الحكومة الفرنسية وقتئذ الجنرال ديجول خفض العقوبة إلي السجن المؤبد مراعاة لكبر سن وتاريخ بيتان.
ملحوظة: علي كل من يقول إنه لا يجوز محاكمة مبارك بسبب سنه ولأنه قائد الضربة الجوية أن يقرأ المقال مرة أخري.