الإثنين 11 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

رجال حاصروا الفتنة




 كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 02 - 10 - 2010

- «قوة القانون» هي التي أخافت صحافة وفضائيات إشعال الفتن

- حرية الإعلام لا تعني أبدا حرية حرق البلد

- أهم المكاسب: اختفاء «قناصة الفتن» وظهور «عقلاء الأمة»

- فلول الفتنة يجب أن تظل تحت الحراسة المشددة

- الخطاب الرئاسي يستنهض دائما روح الأمة ويعلي من شأن الوحدة الوطنية ويؤكد المساواة التامة بين أبناء الوطن

- تصريحات شيخ الأزهر تسحب السجادة من تحت أقدام المتطرفين

- أحاديث البابا ساعدت علي تهدئة الخواطر وتقليل الغضب

- المواجهة الحاسمة يجب أن تستمر بالعقل والفكر والتنوير

في المرة الأخيرة، تم إخماد حريق «العوا - بيشوي» بسرعة، قبل أن تمتد ألسنة النيران إلي مساحات أخري.. واختفي تقريبا «قناصة الفتنة» الذين يظهرون في مثل هذه المواقف ويزيدون النار اشتعالا.. وتحرك «عقلاء الأمة» في توقيت مبكر لإسكات الأصوات الشاردة والحناجر المتربصة.. وأثمرت هذه المواجهة الناجحة دروسا مستفادة كثيرة.

أهم هذه الدروس هي «اليقظة»، وفي مرات سابقة كان مستصغر الشرر يصبح حريقا كبيرا بسبب «الغفلة» والتكاسل والتراخي والبرود، ولكن في الفتنة الأخيرة أفاق الجميع بسرعة، وعُقدت الاجتماعات وصدرت البيانات، وأدرك مفجرو الفتنة أن العقاب هذه المرة سيكون رادعا، فتراجعوا عن مواقفهم المتطرفة، أو التزموا الصمت.
ثاني هذه الدروس هو وقف عمليات التحريض الإعلامي الذي كان يدق الطبول ويرقص مثل الذئاب في الوليمة، فالأحداث تولد صغيرة ويجعلها الإعلام كبيرة، ولكن هذه المرة استفادت الخبرة المصرية درسا جديدا يجب أن تتمسك به وهو عدم السماح لسحابة الإعلام السوداء بأن تلوث الأجواء، وتصيب الناس بأضرارها.
كان الموقف سيزداد سوءاً، لو انطلقت الأقلام والكاميرات والتقارير الإخبارية، بحثاً عن المتطرفين والمتربصين والمتشنجين والمتحذلقين لاستطلاع آرائهم وتحليلاتهم وأقوالهم.. وأن يدس هؤلاء السم في العسل والعسل في السم.. ويلهبوا مشاعر الناس البسطاء الذين يتحركون في أحيان كثيرة بالشائعات والتأثير والتحريض، فيتحولون إلي ما يشبه القطيع الغاضب الذي يدوس كل شيء.
هل نسينا فتنة «حبل الغسيل»
اشتعلت الزاوية الحمراء في أواخر السبعينيات بسبب الخلاف بين أسرة مسلمة وأخري مسيحية حول نشر الغسيل، وامتد الحريق إلي البيوت والشوارع، وكانت هذه هي بداية خريف الغضب، الذي اضطر الرئيس السادات لاتخاذ إجراءات تصاعدية، وصلت ذروتها في اعتقالات سبتمبر، التي فتحت الطريق إلي جريمة اغتيال السادات نفسه في المنصة.
الفتنة هذه المرة كانت أعنف وأضخم وأشد هولا، ولم يكن وقودها «حبل غسيل» ولكن اتهامات شاردة بأن الكنائس تحولت إلي مخازن أسلحة، والجانب الآخر هو التشكيك في بعض الآيات القرآنية بما يعني أن مصر كلها يمكن أن تتحول إلي زاوية حمراء كبيرة.
بعيدا عن نظرية المؤامرة يجب أن نطرح سؤالاً مهما: هل كان من الممكن أن تخرج الفتنة عن السيطرة؟.. نعم، لأن الأجواء الآن أصبحت أكثر توتراً واحتقاناً، والمتربصين أكثر غلا وأكبر عدداً، والإعلام منفتح علي البحري ليسكب صفائح الزيت فوق أي شرارة صغيرة.. ولكن تم إبطال مفعول كل مسببات التهييج والإثارة.
الحرية لا تعني حرق البلد
الإعلام كالنار، إما أن يجلب الدفء أو أن يشعل الحرائق.. وفي مصر احترفت بعض وسائل الإعلام إشعال الحرائق وإذكاء الفتن والرقص علي لهيبها ودخانها، وتم تغليف هذه الجرائم الإعلامية المتعمدة بشعارات براقة هي الحرية والديمقراطية وحق الناس في المعرفة.
في فتنة «العوا - بيشوي» اختفت فضائيات التحريض من المسرح، فظلت النفوس هادئة والمشاعر عاقلة، ولم يمارس الاستفزاز هوايته المفضلة في لعبة «مصارعة الديوك»، ولذلك كان من السهل محاصرة الفتنة قبل أن تشتعل، وأن تكسب البلاد نفسها وتسترد عزيمتها لمواجهة ما يهدد أمنها واستقرارها.
إنه أكبر الدروس المستفادة، فحرية الإعلام لا تعني حرية حرق البلد، وحق المواطنين في المعرفة لا يعني أبدا تحويلهم إلي إخوة أعداء، والشعارات البراقة الأخري التي يرفعها أنصار الإعلام المنفلت، ليست إلا عبارات زائفة للضحك علي الناس، وتبني «أجندات الخراب» وتدمير السلام الاجتماعي.
مصر ليست حقل تجارب، يمارس فيه أصحاب الأموال المشبوهة والنوايا الخبيثة ألاعيبهم المدمرة، للتسلية علي مصر، والسخرية من مشاكل شعبها.. فهؤلاء لا ينفع معهم التسامح والصبر ولايردعهم ضمير أو خوف علي مستقبل هذا الوطن ومصيره، فالمصالح الشخصية والتحالفات الغامضة لا يجدي معها إلا القانون الواضح والإجراءات الحاسمة.
رب ضارة نافعة.. ولكن
لأنها استنهضت الروح والهمم والعزائم لقطع دابر الفتنة، ربما لأن الخطر المتوقع كان كبيرا، ولأن كثيرين تولد لديهم إحساس قوي بأن الأصابع التي تحرك الأحداث من وراء الستار يجب قطعها، ولأن المكاشفة والمصارحة كانت الضوء الفعال الذي كشف الدخان قبل أن يتصاعد في الهواء.
رب ضارة نافعة، لأن الأزهر الشريف لم يقف ساكنا، بل هب مجمع البحوث الإسلامية ليصدر بيانا عاقلا يهدئ النفوس ويواجه الغضب، ويحفظ في نفس الوقت علاقات المحبة والوئام التي تصل بين عنصري الأمة.. وساعدت هذه النظرة الوطنية الأصيلة علي سحب السجادة من تحت أقدام التطرف والمتطرفين.
ماذا يقولون وكيف يلعبون علي مشاعر المسلمين، بينما المؤسسة الدينية العريقة تعيد إعلاء المبادئ الإسلامية السمحة، وتنشر أفكار الإسلام الصحيحة.. ويا ليت الأزهر الشريف في مثل هذه المواقف يكون سباقا في التحرك السريع دفاعا عن هذا الوطن، الذي يستمد قوته من الوحدة الوطنية لأبناء شعبه.
لكن.. الخوف هو أن يتعرض الأزهر الشريف للهجوم بسبب مواقفه الوطنية، وواجب علمائه الأفاضل أن ينتبهوا جيدا لمثل هذه المحاولات المغرضة، التي تحاول إهدار مصداقية المؤسسة الدينية العريقة، وأن يضربوا بأفكارهم المستنيرة كل محاولات العودة إلي حظيرة التطرف.
درس مستفاد للكنيسة
الكنيسة المصرية - أيضا - تحركت في توقيت مبكر لإجهاض انفلات «بيشوي» لأن النار التي حاول إشعالها كانت ستطال المسيحيين قبل المسلمين.. وساعدت أحاديث البابا لوسائل الإعلام في تهدئة الخواطر وتقليل الغضب.. والبابا - أمد الله في عمره - حالة قبطية مصرية فريدة.. يجب دراستها بعناية.
مرحلة ما بعد البابا، تتطلب شخصيات مسيحية من هذا الطراز، لها قدرات خاصة علي امتصاص الغضب، ومد جسور التواصل والتعامل مع الأحداث الطارئة، ليس بروح الأقلية، ولكن كشركاء في الوطن لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.
آن الأوان أن ينسف الأقباط جبال الحساسية التي تجثم علي صدور بعضهم، وتخلق في نفوسهم مرارة وأوهاماً وخيالات بأن حقوقهم منتقصة وهويتهم ضائعة، وأن يؤمنوا بأن لهم مطالب عادلة كونهم مواطنين مصريين قبل أن يكونوا أقباطا.
بهذه الروح يجب أن يتعامل الأقباط مع الأحداث القادمة وأن يتعلموا من بروفة «العوا - بيشوي» درسا مستفادا مهما هو أن الدولة المصرية تتعامل مع الجميع علي قدم المساواة، وأن حربها ضد التطرف والمتطرفين لن تتشدد مع طرف وتتساهل مع آخر، فالمكيال واحد، والهويات الدينية لا وجود لها.
لماذا تسلح الإعلام بالموضوعية؟
الصراحة تقتضي أن نقول أنها «العين الحمرا» لفضائيات وصحف بعينها..فأدركت هذه المرة أن العبث بالفتنة الطائفية لن يمر هذه المرة مرور الكرام، وأنه لا تهاون ولا تسامح ولا تراخ ضد أي محاولة للعبث بمشاعر الناس وتأليبهم وتحريضهم.
جاءت تصريحات وتحركات وزير الإعلام واضحة وصريحة، وقال عبارة شهيرة «الجدل الديني مكانه مجمع البحوث الإسلامية وكليات اللاهوت وليس برامج التوك شو» والرسالة هي أن وزارة الإعلام ستتخذ إجراءات عاجلة لوقف أي محاولة إعلامية لإشعال الفتنة الطائفية.
السؤال هنا: هل تستخدم وزارة الإعلام نفس السلاح لضبط التجاوزات والانحرافات في المستقبل والتصدي لفضائيات حرق البلد، والتعامل بجدية وصرامة مع محاولات الهدم والتدمير؟.. أتصور أن ذلك هو الذي سيحدث، خصوصا أن أجهزة الدولة حين تتسلح بقوة القانون تفرض احترامها علي الجميع، وتضرب «النمور الورقية» التي تتصور أنها أقوي من القانون وأشجع من «عنترة».
استمرار المواجهة الفكرية
فلول الفتنة، يجب أن تظل تحت الحراسة المشددة، وهذه المرة تم ضربها بالفكر والعقل والمنطق، وليس بالقوة أو العضلات، ووفرنا علي أجهزة الأمن عبئا ثقيلا، في التصدي لأي محاولة لزعزعة الأمن والاستقرار، ولذلك يجب أن تظل اليقظة مستمرة والعقول مستنفرة.
عندما تتحرك أجنحة الدولة وتظهر قوتها، ينسحب المحرضون إلي الخطوط الخلفية، وهذا ما حدث بعد الاجتماعات المكثفة لمجلس الشوري والمجلس الأعلي للصحافة، ويجب أن تظل حالة المواجهة الفكرية، والتصدي للإعلام المنفلت، وتطبيق القوانين وميثاق الشرف الصحفي والإعلامي، وعدم الممالأة والنفاق أو مسك العصا من الوسط، في قضايا لا يجوز فيها ذلك.
المرحلة المقبلة لا تحتمل العبث أو اللعب بالقضايا الدينية وإشعال الفتن والصراعات، ولا يمكن النفاذ لذلك بشعارات براقة لتبرير محاولات إشعال الفتن أو التهاون مع مشعليها، ففي مسألة الوطن تعلو مصلحة مصر فوق الجميع، وترتفع رايتها فوق كل الرايات.
استنهاض روح مصر
مصر تستطيع أن تحاصر كل الفتن وتبطل مفعولها إذا احترمت دستورها الذي يعلي شأن الوحدة الوطنية، والرئيس مبارك هو الذي أرسي مبدأ المواطنة والمساواة التامة في صلب التعديلات الدستورية، للحفاظ علي وحدة النسيج الوطني، وعدم التفرقة بين أبناء الوطن الواحد.
الخطاب الرئاسي يستنهض دائما روح مصر وعزيمة أبنائها للتصدي لكل محاولات الفتنة والوقيعة، ويؤكد أن قوة مصر في وحدة شعبها، ومستقبلها في أن يعيش مسلموها وأقباطها في سلام ووئام.
الدولة المصرية هي التي تقاوم كل محاولات ضرب «الدولة المدنية»، لتترسخ دعائمها في وجدان المجتمع وتصبح المظلة الشرعية التي تحمي الجميع، بعيدا عن دعاة الدولة الدينية، الذين لا يستهدفون مصلحة هذا الوطن ولا مواطنيه.
الدروس المستفادة من مواجهة فتنة «العوا - بيشوي» كثيرة، وأهمها علي الإطلاق أن دعاة التطرف من الجانبين لا يخشون إلا القوة، قوة العقل والفكر والمنطق والمواجهة وليس العصا والعضلات.
قوة الدولة «الصلبة» و«الناعمة»، التي تحترم الدستور والقانون والشرعية، وتدير ظهرها للمواقف المتلونة وأصحاب نظرية مسك العصا من الوسط.

كرم جبر