لمصر لا لعادل إمام.. فقط
سعد هجرس
قد يتساءل البعض: هل عادل إمام على رأسه ريشة تضعه فوق القانون، فتقوم الدنيا ولا تقعد عندما يصدر ضده حكم بالحبس؟ أليس فى الأول والآخر مواطنا يسرى عليه ما يسرى على باقى خلق الله؟
وقد يتساءل البعض الآخر: أليس الحكم الصادر من محكمة الجنح بحبس الفنان عادل إمام مجرد حكم ابتدائى سيتم استئنافه، وعلى الأرجح سيتم إلغاؤه فى محكمة الاستئناف، فلماذا الضجة إذن؟!
وقد يتساءل البعض الثالث: أليس التعليق على أحكام القضاء من الأمور التى لا يجب الانزلاق إليها، وهل يمكن كسر هذه القاعدة من أجل سواد عيون عادل إمام؟!
هذه التساؤلات تبدو مشروعة من حيث «الشكل»، لكن ملابسات القضية التى نحن بصددها تجعلها بدون «مضمون». بل إن هذه الملابسات ذاتها تثير تساؤلات مضادة تتجاوز الفنان الكبير عادل إمام وعددا يزيد أو يقل من الفنانين الذين شملهم الحكم بالحبس أو الغرامة أو الاثنين معا، كما تثير القلق على مصير الحريات العامة والخاصة التى يعصف بها «المنطق» الكامن وراء مثل هذا الحكم القضائى، كما تثير الفزع على مستقبل هيئات وسلطات عامة فى المجتمع يفترض فيها الحياد بين المواطنين والبعد عن التسييس لكن البعض لا يتورع عن توريطها فى «التنابز الأيديولوجى».
فهناك - أولا - تلك البدعة العجيبة التى لا مثيل لها فى أى بلد من بلدان العالم المتحضر التى لا تسمح لأى عابر سبيل بأن يرفع دعوى قضائية على أحد المبدعين وجرجرته إلى المحاكم. فحق الادعاء لابد أن يقتصر على النيابة العامة فى أى دولة «حديثة». أما ترك المسألة سداح مداح فهى عشوائية لا تقبلها النظم القضائية الحديثة. وكنا نتصور أن هذه المسألة تم تجاوزها فى مصر، لكن قضية عادل إمام - وأخواتها - تضعنا أمام حقيقة مفزعة هى أننا إزاء نوع جديد من «الحسبة» التى أصبحت حكرا على النائب العام. فكيف تم من الأساس قبول النظر فى الدعوى المرفوعة من أحد المحامين؟ ثم كيف تم تداول وقائعها؟ ثم كيف تم إصدار الحكم فيها؟
قد تبدو هذه المسألة «شكلية» للوهلة الأولى، لكنها بالقطع تتجاوز الشكل إذا ما تخيلنا أن يقوم أى شخص برفع دعوى قضائية ضد نجيب محفوظ اليوم أو بهاء طاهر غدا أو أى مبدع فى أى مجال من مجالات الفكر والثقافة فى أى يوم من الأيام.
بمعنى أننا إذا سكتنا عن محاكمة الفنان عادل إمام اليوم.. فإن «المنطق» الذى تستند إليه هذه المحاكمة - على هذا النحو- يعنى أن عادل إمام لن يكون نهاية المطاف بل سيكون مجرد «ضربة البداية»، وأنه يتعين على كل زملائه وتلامذته أن يحزموا حقائبهم استعداداً للسفر إلى خارج البلاد أو الدخول خلف القضبان!
وهناك - ثانيا - مضمون الادعاء الذى كان ذريعة الحكم على عادل إمام بالحبس والغرامة، هذا الادعاء يستند إلى أفلام ومسرحيات أدى عادل إمام أدواراً بها. أى قام بـ«التمثيل» فى عالم الفن والخيال وليس فى عالم الحقيقة. وهذه الأدوار يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من ثلاثين عاما. فإذا قبلنا هذا «المنطق» فإن هذا يفتح أبواب جهنم على كل الفنانين وعلى كل من قام بتمثيل دور لا يعجب البعض فى يوم من الأيام. هذا يعنى جرجرة حسين فهمى ومحمود ياسين وفاتن حمامة ويسرا وإلهام شاهين وحتى ورثة فريد شوقى ومحمود المليجى وحسين رياض.. وغيرهم وغيرهن إلى ساحات المحاكم لأن الدور الذى قام بتمثيله - أو قامت بتمثيله - يتضمن جملة فى الحوار يستطيع أى محامى أرياف أن يلوى عنقها ويفسرها على أنها تنطوى على ازدراء للأديان، فما بالك إذا كانت عبارة مثل جملة عبدالسلام النابلسى الشهيرة «متبسطهاش أوى كده يارب» فى معرض احتجاجه على حلة الملوخية التى ألقتها زينات صدقى على رأسه!!
ثم يعنى هذا «المنطق» العجيب أن الممثل الذى يقوم بأداء دور أحد كفار قريش أنه قد صبأ وخرج عن ملة الإسلام؟!
ما هذا العبث؟!
وهناك - ثالثا - إلى جانب غرابة قبول القاضى نظر هذا النوع من قضايا «الحسبة»، مسألة أخطر من «شخص» القاضى، ألا وهى استمرار بقاء مواد مطاطة فى قانون العقوبات تفتح الباب أمام العصف بحرية الفكر والإبداع ومنها تلك المواد التى استند إليها القاضى الذى أصدر الحكم على عادل إمام وهى المواد التى تتحدث عن الإساءة للشرائع السماوية وازدراء الأديان.
فصناعة التشريع الحديثة قد تخلصت من مثل هذه اللغة وتلك الصياغات الحمالة للأوجه التى تفتح الباب للتفتيش فى الصدور والضمائر.
وهناك - رابعا - البيئة التى تقدم فيها أحد المحامين بالدعوى ضد عادل إمام وأفلامه التى قبلت فيها المحكمة الدعوى رغم عدم منطقية ذلك والتى نظر القاضى خلالها وقائع الدعوى وأصدر حكمه.
هذه البيئة تتميز بسمات رئيسية عنوانها العريض هو التحريض على تقييد حرية الإبداع والمبدعين حتى تحت قبة البرلمان ومحاولة فرض الوصاية على عقل الأمة، كما أن هناك محاولات مستميتة لاغتيال مدنية الدولة المصرية وتشويه الهوية المصرية الوطنية على قاعدة المواطنة وحقوق الإنسان.
وتجدى هذه المحاولات المسعورة فى جميع المجالات بدءا من الأحوال الشخصية وانتهاء بكتابة الدستور الجديد للبلاد.
وأغلب الظن وليس كل الظن إثما أن هذه البيئة الملتهبة ليست مبتوتة الصلة بالسماح بتداول قضايا مثل قضية عادل إمام ولينين الرملى ومحمد فاضل وغيرهم من المبدعين المصريين.
والمؤسف أن تكون هذه البيئة غير الصديقة للحريات خصوصاً حرية التعبير وحرية الإبداع، هى التى تحاول فرض سطوتها الآن، أى فى أعقاب اندلاع شرارة ثورة 25 يناير العظيمة التى وضعت نصب عينيها أهدافا رئيسية هى العدالة الاجتماعية والكرامة والخبز والحرية وكلمة «الحرية» هنا ليست مجرد شعار إنشائى وإنما تعنى التحرر من قيود وأغلال الاستبداد بجميع أشكاله سواء كان هذا الاستبداد سياسيا أو دينيا يضع البيادة فى قدميه أو يضع العمامة الإسلامية على رأسه.
إذن القضية أوسع بكثير من الدفاع عن فنان كبير مثل عادل إمام وزملائه وهم يستحقون التضامن بالفعل وهى بهذا النحو قضية كاشفة كما يقول القانونيون أى أنها تلقى أضواء ساطعة على قضايا أشمل وأكبر من بينها ضرورة المضى قدما وبأسرع وقت فى إصلاح القضاء وتحديثه وتعزيز استقلاله ومن بينها ضرورة تنقية قوانين العقوبات من المواد القانونية سيئة السمعة والمعادية لحرية التعبير وحرية الإبداع التى تفتح الباب للانقضاض القانونى على المفكرين والمبدعين ومن بينها عدم السماح بقضايا الحسبة الجديدة بأى شكل من الأشكال ومن بينها وفى مقدمتها ضرورة تحصين الحريات عموما وحرية التعبير والإبداع خصوصا أن وثيقة الدستور المرتقبة من أجل إغلاق الأبواب والنوافذ أمام كل من تسول له نفسه محاولة الانقضاض عليها اليوم أو غدا.
المطلوب باختصار: ثورة.







