بين الإثارة والسترالملايــة اللـــف ألهمت المبدعين

رقية عزام
باريس تقول قصّروا الفساتين نقصرها.. ترجع تقول طّولوا حالاً نجرجرها.. وفى الشتا قوّروا القمصان نقورها.. وفى الصيف زرّروا الأرّواب.. نزررها، كلمات الشاعر بيرم التونسى -المصرى ذى الأصول التونسية- تؤكد على تأثير الغرب على ملبسنا، فالملابس التقليدية والتى كانت تعكس حضارة مصر تأثرت عبر آلاف السنين بالغزوات المختلفة والتزاوجات نتيجة التبادل التجارى مع معظم بلدان العالم القديم، وتسببت بشكل ما فى اختفاء الملابس المصرية التقليدية.
لم تكن ملابس المرأة لها أى علاقه بديانتها أو بمدى تدينها، فكان مفهوم الاحتشام هو السائد بغض النظر عن الوسط الاجتماعى أو الثقافى أو المستوى التعليمى فكانت السيدة المصرية مميزة، هذا بعكس ما نراه الآن من ضياع للهوية المصرية الحقيقية، بل تخبط فيما بين فرط فى الاحتشام وبين قلته ووجود العديد من أشكال التناقض.
فتميزت بنت البلد المصرية قديما بالملاءة اللف والبرقع والخلخال والجلابية واليشمك والبيشة والمنديل، مظاهر جميلة وبسيطة نراها فى أفلامنا القديمة والمسلسلات التاريخية، فكان هذا النوع من الملابس هو مشاهد مألوفة قديما فى مصر وخاصة فى الأحياء الشعبية لتميز المرأة، وطبعا لا ننسى «رنة خلخاله يا امه» التى تكمل المشهد الأنثوى للمرأة المصرية فى حوارى وأزقة شوارع مصر الشعبية.
فكانت الملاية اللف تمتاز ببساطة الارتداء وسهولته، والتناقض بين الإثارة والتستر فى تناغم غريب، وكان «البرقع» المفتوح يمتاز بوجود فتحات تعمل على سهولة التنفس، وإبراز «شىء» من وجه المرأة المصرية وتعابير وجهها، وهناك البيشة واليشمك فكانا يستخدمان للدلالة على الثروة، حيث كانت السيدات قديما يرتدين منه المصنوع من الذهب، ويكتمل المشهد الرائع بـ «المنديل أبو أوية» المحلى بكرات ملونة تغطى شعرها، لتكتمل صورة الفتاة المصرية الشعبية.
ومثلت الملاية اللف مصدراً لإلهام المبدعين، وموضوعاً لأغانى الفنانين أمثال سيد درويش وأشعار الموهوبين أمثال بيرم التونسى، كما تعددت القصص والروايات عن أصل «الملاية اللف» فالبعض يرى أن أصلها هو «الهبماتيمون» وهو زى رومانى، وبينت دراسات خاصة بتاريخ الأزياء أن نساء الرومان أول من لبسن «الملاية اللف»، ثم عبرت إلى البحر المتوسط بعد غزو الرومان لمصر، وظهرت فى شوارع وحوارى الإسكندرية ومنها انتقلت إلى باقى المدن المصرية والدول العربية، ولكن بتعديل بسيط وهو إضافة كمين لها.
ويرجع البعض الآخر تاريخ «الملاية اللف» إلى العصر العثمانى، حيث ذكر الجبرتى فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» أنه كان يوجد فى مصر العثمانية وكالات خاصة، وخانات لبيع الملايات منها «خان الملايات» عند حارة الروم، فى حين يرجع البعض الآخر بداية ظهورها إلى عهد المماليك، حيث يرجع إليهم الفضل فى ابتداع هذا الزى الشعبى.
وتؤكد بعض الدراسات المهتمة بدراسة تاريخ الأزياء الشعبية أن الخلط فى معرفة أصل «الملاية اللف» يرجع إلى الخلط بينها وبين «الحبرة» التى كانت ترتديها المرأة عند خروجها فى العصر العثمانى، وهى عبارة عن قطعة قماش كبيرة من قماش التفتاه توضع فوق الرأس فتغطيها، وتغطى الملابس واليدين.
وبعد ظهور المطالبين بحرية المرأه مثل قاسم أمين، ورفاعة الطهطاوى، وصولا لسعد زغلول وزوجته صفية وهدى شعراوى، وبعد المشاركة النسائية التى لا تنسى فى ثورة 1919وما كان للثورة من دور فى كشف المرأة المصرية عن وجهها، كانت هذه بدايه اختلاف الملبس النسائى وتحرره بعض الشىء، حيث خرجت هدى شعراوى بحجابها التقليدى دون البرقع واتبعتها الكثير من نساء الطبقة العليا والمتوسطة فى القاهرة، وظلت بنات البلد والسواحل يرتدين الملاية اللف والتى كانت تضيق وتقصر حسب الرغبة، أما الفلاحات فقد تطور الملبس الواسع فى الوجه البحرى إلى جلباب ضيق واسع بعض الشىء من الأسفل حتى تستطيع العمل والجلوس والنهوض بسهولة.
ومع ثورة 52 وتشجيع المرأة على التعلم وعلى خروجها للعمل، أصبحت الملابس تتسم بالعملية لتناسب طبيعة المرحلة وانفتحت المرأة على الموضة العالمية متأثرة بها فيظهر «المينى والميكرو» جيب، ورغم ما حدث من نقلة نوعية فى لبس المرأة، إلا أنه بالرغم من تقليل السنتيمترات لم يقل مفهوم الاحتشام الأخلاقى فى المجتمع آنذاك.
ونرى أن هذا التغير أثر فى كل الطبقات حتى الطبقة الحاكمة، فنجد أن هناك فرقا بين ملابس الأميرة شويكار الزوجة الأولى للملك فؤاد الأول وبين زوجات الملك فاروق، ويظهر الاختلاف بشكل واضح بينهم وبين السيدة تحية كاظم زوجة الرئيس جمال عبدالناصر، والسيدة جيهان السادات زوجة الرئيس أنور السادات، فهناك فرق واضح فى «موضة» اللبس.
والآن بعد أن اختفى تماما التراث الشعبى من ملاية لف وغيره منذ قرون، بفعل حركة التقدم وعمل المرأة وصعوبة ارتداء هذا الزى المميز الآن، ومع عصر الانفتاح وما اتخذناه من الاطلاع على الموضة الخارجية، ومع محاولات للتغير ظهر الحجاب الصحراوى والبنطلونات «الجينز» و«التيشرتات» وانتشرت بصورة كبيرة فى النصف الثانى من الثمانينيات وحتى التسعينيات.
ثم بدأت المرأة المصرية فى الانتقال من البنطال الجينز الفضفاض إلى نوع آخر من الجينز «سكينى» أى ملتصقة بالجسد، لتتحول لنوع آخر يسمى الفيزونات والاستريتش، وتحول «التيشيرت» إلى البادى وانكمشت البلوزات لتصل إلى الخصر فيما يعرف بالـ «استومك»، وضاقت العباءة وتزينت بالترتر والرسومات الزاهية، وتغيرت الألوان لما يسمى بموضة ألوان عساكر المرور أو «الفسفورى»، وفى نفس الوقت نجد المنتقبات اللاتى يلبسن ما يشبه اليشمك فوق نقابهن، والمحجبات اللاتى يرتدين ما يشبه الملس فوق طرحهن، مما يعكس أشكال التباين والتخبط فى الشارع المصرى.