أم كلثوم أكبر من مجرد صوت
روزاليوسف
لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة عظيمة، ولا حالة فنية استثنائية عابرة فى تاريخ الغناء العربى.. بل مشروع مكتمل الأركان.. ومؤسسة فنية وثقافية وسياسية ناعمة.
نجحت فيما فشلت فيه مؤتمرات القمة.. وسبقت وزارات الخارجية فى توحيد وجدان شعوب فرقتها الحدود.. واختلفت أنظمتها.. وتصارعت سياساتها.. لكنها اجتمعت بلا استثناء على صوت الست.
فى لحظة تاريخية كان الوطن العربى فيها يعيد تعريف نفسه.. خلق صوت أم كلثوم مساحة مشتركة تتجاوز الجغرافيا.
من القاهرة إلى بغداد.. ومن الرباط إلى دمشق.. كان صوتها يُسمع فى الموعد نفسه، كأن العرب لأول مرة يتفقون على شيء واحد دون تفاوض.
لم يكن هذا محض صدفة.. بل نتاج وعى فنى عميق.. وانضباط صارم.. وإدراك مبكر لقيمة الفن بوصفه قوة قادرة على بناء ما لا تقدر عليه السياسة.
أدركت أم كلثوم بالفطرة والخبرة أن الفن ليس ترفا.. ولا نشاطا هامشيا. فى زمن الحرب.. كانت حاضرة.. لا تغنى للهروب من الواقع، بل لمواجهته.
حفلاتها بعد نكسة 1967 لم تكن مجرد مناسبات طربية.. بل فعل مقاومة.. ومشروع تعبئة.. ساهمت فى إعادة بناء الروح قبل إعادة بناء الجيش. ولم يكن غريبا أن تُخصص إيرادات حفلاتها لدعم المجهود الحربى.. أو أن تتحول جولاتها العربية إلى حملات دعم سياسى وشعبى لمصر.
بهذا المعنى.. لم تكن أم كلثوم صوتا يغنى.. بل مؤسسة كاملة.. تختار كلماتها بدقة.. وتنتقى ملحنيها بعين استراتيجية.. وتعرف متى تغامر ومتى تترقب.
لم تركن إلى نجاح سابق، ولم تكرر نفسها، بل ظلت حتى آخر لحظة فى حالة تطوير دائم.. توازن بين الأصالة والتجديد.. وبين احترام الجمهور وقيادة الرأى العام.
من هنا.. تحولت إلى أقوى سفير غير رسمى لمصر.. لم تحتج إلى خطاب سياسى ولا بيان رسمي؛ كانت أغنية واحدة كفيلة بإعادة رسم صورة البلد فى الوعى العربى والإقليم كله.
مصر التى غنت باسمها أم كلثوم ليست مجرد دولة.. بل فكرة.. ثقافة.. وقوة ناعمة تعرف كيف تؤثر دون أن تفرض نفسها.
ربما كانت رحلتها الشخصية هى التعبير الأصدق عن هذه الفكرة. فتاة ريفية خرجت من قرية صغيرة.. وواجهت مجتمعا محافظا.. ونظرة دونية لصوت المرأة.. ثم صعدت بالصبر والانضباط والعمل.. لا بالضجيج أو الاستسهال.
لم تكن «ثومة» ابنة حظ.. بل ابنة كفاح طويل، اختبرت الرفض، وواجهت السخرية، وفرضت احترامها بموهبتها وحدها. بهذا المعنى، صارت تجسيدا حيا لمعنى وقيمة «الست المصرية».
ولعل أعظم ما أنجزته أم كلثوم.. أنها أثبتت أن للعرب صوتا.. لا مجرد صدى. صوتا قادرا على التعبير عن الذات.. لا تقليد الآخر. صوتا له نبرة خاصة.. ووجدان خاص.. ومعايير جودة لا تقل عن أى ثقافة كبرى.
بعد عقود من رحيلها، لا تزال أم كلثوم حاضرة.. كنموذج للفنان الحقيقى.. وللموهبة حين تتحول إلى مسئولية.. وللصوت حين يصبح وطنا يجتمع فيه المختلفون ولو لساعة طرب.
نقف أمام هذا المشوار الطويل.. لا نملك غير أن نقول «عظمة على عظمة يا ست».







